رئيس المجلس الاستشاري لمنتدى شروق وعضو اتحاد الكتاب السودانيين بولاية القضارف حال سماعه جلبة بالخارج نهض الضابط الشاب من على السجادة الإيرانية الصنع والمسجاة قرب السرير إلى مقعد مكتبه صائحاً متسائلاً , جيبتوها ؟! أجاب العسكري والذي دخل للتو , "آآي جنابك وهي هسع فوق اللاندي" . فوراً وجه الضابط "وكتين جبتوها منتظرين بيها شنو ؟ ماتدخلوها !" هنالك بالخارج كانت تقف لاهثة وبدون هوية مرورية عربة لاندكروزر بيك أب لم يفلح الغبار الكفيف الذي يعلوها في إخفاء فخامتها ,على ظهرها ترقد وبإهمال واضح لافتة متوسطة الحجم تبدو وبعين خبيرة أنها في النصف الثاني من عمرها الافتراضي . كانت هنالك مجموعة من العساكر يتفيأون ظل شجرة , برشاقة يحسدون عليها قفز بعضهم على ظهر العربة فور سماعهم أوامر زميلهم والذي يبدو من نبرات صوته الطاغية وتأكيده المستمر للأمر بيديه الاثنتين أنه قائدهم "يللا يا جماعة دخلوها,جنابو في انتظارها" وكمسعفين في مباراة لكرة القدم قامت المجموعة بإنزال اللافتة وحملها لداخل المكتب ومن ثم وضعها بعناية فائقة في مواجهة المنضدة الكبيرة مستندة على قاعدة إحدى الكراسي الوثيرة , أدوا التحية بعدها ثم انصرفوا . أخيراً اختلى الضابط الشاب باللافتة وبعدما أكمل باهتمام بالغ الإطلاع علي ورقة كان قائد مجموعة الاعتقال قد دسها إليه , رفع رأسه وشذراً نظر إلى اللافتة حينها فقط وفي توقيت مدهش ودقيق انزلقت اللافتة دافعة كرسي الجلوس الفخيم خلفها إلى الوراء وطائحة بجسدها العريض على أرضية السيراميك اللامعة محدثة فرقعة وضجيجاً كانا كافيين لاستدعاء بعض أفراد المجموعة للهروع لداخل المكتب مستفسرين .أمرهم الضابط بإعادة اللافتة لوضعها السابق وإحكام إسنادها . ظلت اللافتة على هذا الوضع مطرقة لبعض الوقت مما أمهلها تماماً لتتمالك أنفاسها المتسارعة واستعادتها لقدرة استعراض شريط سيرتها الذاتية . لقد بدا لها أن هذا اليوم التعيس سيكون هو آخر أيام حياتها والتي بدأت كما تذكر جيداً يوم كانت مجرد حديدة صدئة ومهترئة اقتلعها أحدهم من جانبي الصندوق الخلفي لبص متقاعد قضي سحابة عمره كلها ماكوكاً يمشي ويجئ مزمجراً ومزمراً بين تلكم المدينة المركزية الكبيرة والقرية الصغيرة النائية التي تقبع علي هامش أطرافها . كان مكتوباً علي هذا الجانب من البص عبارة (قرية أم هشيم _ مدينة السافلاب وبالعكس) . لعله حظها العجيب ,فقد كان من نصيبها من هذه العبارة أن يكتب عليها حصرياً قرية (أم هشيم ) .هذا ما جعلها ومن يومها تتعاطف وبشدة مع هؤلاء المهشمين . كانت ترقبهم وهم يهبون باكراً , نشطاء تعلو وجوههم الشاحبة ابتسامة غامضة لم تستطع فك طلاسمها حتى اليوم وهم يحملون معهم بعض أرزاقهم إلى المدينة حيث كان البص يزدردهم دفعة واحدة ثم ينطلق بهم إلى هناك ثقيلاً متثاقلاً ولا يعودون إلا بعيد الغروب منهكي القوى يكسو وجوههم قناع سميك من الحزن النبيل فيتقيأهم البص زرافاتاً ووحدانا علي جانبي الطريق الذي يلف القرية صعودا وهبوطا كأفعوانة بمدينة للملاهي . لقد كان كثيراً ما يتوقف هذا البص على قارعة الطريق الوعر والطويل وكثيراً أيضاً ما كان يتلقى أقزع الكلمات من سائقه الذي لا يتورع ولا يتوانى في سبه ولعنه بعد أن يكون قد كور لنفسه سفة من التمباك يودعها فسيح شفته السفلي ثم لا ينسى أن يقوم برفسها عدة مرات بمقدمة لسانه ليتأكد من بقائها مستسلمة تماماً هناك لينفجر بعدها مدمدماً ولعابه يفر إلى كل الاتجاهات منادياُ ومستنجداُ بمساعده ليسعف البص المحموم .عادة ما يستجيب هذا الأخير مذعوراً حاملاً جركانة الماء من الخزانة الجانبية ثم وكطبيب أسنان ماهر يقوم بفقر فاه البص فلا تسمع إلا شخيراً وأزيزاُ وصفيراً وقرقرة ثم يهدأ تماماً ليواصل بعدها المشوار من جديد. أو قد تضرب عن العمل إحدى عجلتيه الخلفيتين فيتم رفعه من أحد جانبيه ليبقي لساعات أشبه بكلب ضال يتبول خائفاً علي أحد أعمدة الكهرباء . لكنهم مع ذلك كانوا يكنون له في أعماقهم حباً جارفاً وكان هو يبادلهم هذا الشعور الرائع والخفي فقد كان يسعف المريض منهم إلى مشافي المدينة البعيدة ، وكان يشاطرهم ذات الأحزان والعزاء فيبقي لأيام بالقرية دون حراك عندما تموت إحدى نسائهم بسبب تعسر الولادة أو يعود بها وقد فارقت الحياة وجنينها عند منتصف الطريق . كانت هي بالذات تسترق السمع لأحاديثهم وبثهم لهمومهم بل وتدعي بأنها تعرف وتكتم جل أسرارهم . لذا كان قدرها أن تحب هؤلاء القرويين . مضى زمن طويل منذ ذاك لكنها تذكره وتذكر جيدا يوم أن أتى بها ذلك الرجل الذي اقتلعها من حطام البص إلى ورشة الحدادة . لم يساومه وقتها الحداد واكتفى بمقايضتها بفأس . مكثت أيام بإحدى أركان الورشة المعتمة والرطبة يحوم فوقها وحولها الفأر والضب والسحالي ولا يعرها أحد التفاتاً , إلى أن أتى من أقصى المدينة هذا النفر من الشباب.ألقوا التحية على الحداد ثم عاينوا الورشة فوقع نظرهم عليها لقد كاد قلبها أن يتهتك فرحاً ساعة وافق الحداد وكان فيها من الزاهدين , تناولها الأخير وبعناية خاصة أعاد صقلها وأحكم جوانبها ولم يتركها إلا وهي سارحة متبرجة تسترجع خوالي أيام صباها الزاهرة بذلك البص . صباح اليوم التالي عاود الشباب الورشة عاينوها فأعجبتهم , نقدوا الحداد , ثم أتوا بعربة أمامها حصان ليأخذها لمرسم فنان يقع بأعلى نهاية الطريق .أحسن ذلك الفنان المرهف وفادتها فلم يبخل عليها بالمعاجين والمساحيق فمسحها ودهنها عدة مرات ثم نقش عليها وبخط كوفي بديع عبارة ( منبر الفجر الثقافي) .عند ذلكم الصباح الأغر قدم أولئك الشباب الميامين ومن أول وهلة شعرت أنها قد شغفتهم حباً فاستصحبوها هذه المرة معهم.أخيراً وصلوا موقعاً يعرفونه سلفاً عاينوه بدقة ثم أنزلوها بتمهل .لقد قرروا تثبيتها في هذا الموقع لتعمل كلافتة ثابتة تماماً ، علي عكس ما اكتسبته من خبرة في العمل بالبص كلافتة متحركة شبت وشابت علي حب الحركة .رأت أخيراً أنها سنة الحياة فبعد هذا الحراك العنيف والطويل والمضني كان لا بدلها أن تستقر وأن ترتاح وأن تموت أخيراً كالأشجار وهي واقفة ثم أنها وبذات الود الذي كانت تكنه لأولئك القرويين ، فإنها لا زالت بذات القدر تكنه لهؤلاء الشباب . لقد أصبحت سعادتها في سعادتهم . قاموا بتثبيتها ورغما عن الحنين الجارف الذي كان يعاودها للحركة إلا أنها أحست أخيراً أنها قد عادت لجذورها الأصلية . لقد تذكرت أن إحدى أخواتها بورشة تصنيع صناديق البصات أسرت لهم يومها أنهم جمعياً ينحدرون من صلب واحد استُخرجت عناصره من صخور مناجم أفريقيا وتم تصديره لأوربا وهاهو حظهم السعيد يعود بهم مرة أخري لأرض الجدود وعليهم جميعاً أن يعرفوا ذلك ويتذكروه جيداً دائماً وأبداً . لقد مثل لها هذا عزاءا كبيراً فأحست بالراحة. مضت أيام عديدة أعجبها خلالها الطقس وأعجبها أكثر أن الناس قد أصبحوا ينظرون إليها بإحترام شديد ومتزايد . لقد أوشك أن يتملكها الغرور من حب الناس لها ومن صيتها الذي يبدو أنه قد ذاع وعم القرى والحضر بل وأصبح صيتاً بلا حدود ، حتى أتى هذا اليوم الذي توقفت فيه هذه العربة بقربها وترجل منها مسرعين هؤلاء العسكر بمعاولهم ليقتلعوها عنوة ويذهبوا بها إلى حيث هي الآن . إنها لا تدري حتى هذه اللحظة ما الجرم الذي اقترفته ؟؟؟ هل كان شكلها مثيرا أم وقفتها غير محتشمة فرميت بتهمة "الشروع في (التثقيف )" أم تري لأن الناس أصبحوا لا يغضون الطرف عنها أبداً ، بل ويدمنون النظر إليها ، حتى أصبحت لافتة لافتة جداً ، لكن ما الجرم في ذلك ؟ إذن لابد أنها هي العبارة التي تفخر بحملها . هل كلمة منبر أو الفجر أو الثقافي من الممنوعات ؟ هي لا تعتقد ذلك ، ولكن من المؤكد إذن أن اجتماع هذه الكلمات هو الجرم ، هل هنالك قانونا يمنع "تجمهر" الكلمات أيضا ؟. لا بد أنه السبب , حار بها الجواب فاكتفت بأنه ربما لشيء في نفس يعقوب وعندها أقرت السلام لنبي الله إسرائيل عليه السلام ثم غفت. أفاقت علي أيد تمسك بها فارتعبت , حملوها بينهم سائرين بها لخارج المكتب ثم لغرفة نائية بأحد أركان سور الفناء الفسيح هذا والذي أذهلها أنه يضم مبان كثيرة وجميلة لا يضاهيها حتى المستشفى العام للمدينة . بدت لها الأسلاك الشائكة التي تعلوه كأشجار الكداد ، تلك التي كانت تخدشها كلما تمايل بها مفجوعاً بص القرية فتملكها الذعر . قاموا بدفع الباب فانفتح علي غرفة مظلمة ظلاماً أعشي البصر وكان كافياً بالكاد لتتبيّن أنها أيضاً بلا تهوية . أسندوها علي الحائط ثم قفلوا خارجين صافعين الباب لينقفل بإحكام خلفهم. بعد مدة قصيرة تبدد الظلام وتفاجأت بأن هذه الغرفة مخصصة فقط للافتات المعتقلة . أقرتهن السلام فبادلنها التحية . كانت هنالك أعداد كبيرة منهن ومتنوعة فقد رصدت الرفيقات والزميلات والحبيبات والشقيقات ، وقيل لها أنه كانت هنالك بعض الأخوات إلا أن أخوانهن تمكنوا من فك أسرهن ، تمنت لحظتها أن لو كان لها أخوان حتى لو كانوا "أخوان البنات" . سألتهن بتهكم من متين انتو هنا ؟ أجابتها إحداهن "أحسبي من أكثر من عشرين سنة ولي جاي" , أدهشتها لافتة صغيرة قائلة "شوفي أنا لافتة شاهد قبر، من أول القبور بمقبرتنا ، المقابر اتملت ما شاء الله الناس الأيام الفاتت دي بتموت بالموت الجماعي ، لكن المزعلني أنو الأولاد الصغار بقو يسرقونا ويبيعونا لناس الخردة ، أنا اعتقلوني هناك" ثم تابعت "مرة زارنا في المقابر راجل كبير عندو دقن محننة قال نحن بدعة ، قام الزول التاني قال ليهو بدعة ديل ولا وشك دا ؟ أمانة عليك وشك دا بعلاماتو ديل ما لافتة متحركة ، يمين حتى الأمي يقراها ويعرفك داير تقول شنو؟ حرام عليك ياخ" . لافتة أخرى كانت تتوارى خجلاً سألتها عن سبب مجيئها إلى هنا , فقالت "أنا تبع الشرطة الشعبية أصلاُ , قام واحد حاقد بالليل ومعاهو بوهية أضاف ليهو حرف , جو ناس شرطة النظام العام الصباح بعد الفضيحة ولموني طوالي وجابوني هنا ، الله يأزاهو" . فجأة صاحت لافتة أخرى "والله انا المجنني إنو في لافتات منافقة تلقي الواحدة تقول حاجة والحاصل وراها حاجة تانية , صحي يا إنتي في لافتات بتولع ؟" لم تستطع الإجابة فقد دب بعينها النعاس إلا أنها انتفضت فجأة وسألتهن "هوي ياجماعة انتو المحل النحن فيهو دا عندو لافتة؟!" . Gafar Khidir [[email protected]]
