أختم في هذه المقالة عرضي لمذكرة الأستاذ المرحوم الشفيع أحمد الشيخ عن ما ينبغي لحكومة ثورة أكتوبر 1964 عمله بشأن نظام الأدارة الأهلية. وقد كتب المذكرة بصفته وزبر شئون الرئاسة بمجلس وزراء الثورة ممثلاً لنقابات العمال. وقد أصبحت هذه المذكرة "نعلة" (لعنة) لليسار لأنها وصت بحل الإدارة الأهلية. فصفوة الإدارة ترد "الفوضى" المزعومة في الهامش السوداني إلى تلك المذكرة التي أخلت الريف من حارسه وهم النظار والعمد والمشائخ فأضطرب ولم ينصلخ بعدها أبداً. وقد تجدد ذكر هذه المذكرة بفضل الدكتور الورَّاق أبو شوك. فهو لم يأت بذكرها في كتابة عن الانتخابات السودانية (بالاشتراك) فحسب بل وفرها لمن طلبها بأريحية. فعلها معي. وكتب لي جمَّاع (أفضل إداريينا احتكاكاً بالريف ومجالس صلحه) أنه حصل على نسخة منها ببريده الشبكي من أبو شوك المسافر العابر وقتها بمطار طوكيو. أريد في هذا العرض الأخير أن أحدس من هو الباحث الكامن وراء الوثيقة. كما أريد تجديد زعمي الذي فاتحت به أبو شوك أول مرة وهو أن مجلس وزراء أكتوبر لم يقبل بمقترح مذكرة الشفيع بحل الإدارة الأهلية في شمال السودان قاطبة بغير فرز. أما الكاتب الكامن فقد بدا لي أنه الدكتور المرحوم معتصم البشير أستاذ علم الإدارة بجامعة الخرطوم. وأقول ذلك كدحاً بعد أن أطلعت بصورة عامة على رسالته للدكتوراة عن الإدارة والاستعمار والحركة الوطنية. وأفكارها مقاربة لافكار مذكرة الشفيع. وأتمنى على الله أن ينهض من شباب الباخثين من يجدد ذكرى دكتور معتصم النابه بترجمة رسالته الجيدة ونشرها صدقة جارية لروح أنسان تقدمي محب لوطنه وشعبه وعلمه. أما من جهة علاقة قرار حكومة أكتوبر عن الإدارة الأهلية بمذكرة الشفيع (هل هو نسخ منها أم هو شيء آخر؟) فسأترك الحديث عنه حتى أفرغ من استعراض ما تبقى من المذكرة. عرضت المذكرة كما تقدم لشكاو الناس من الإدارة الأهلية للحكومة ولمنشأ الإدارة الأهلية التي نعرف كبروقراطية ريفية مستبدة من صنع الإنجليز. ثم انتقلت لوصف سلطان الإدارة الأهلية في البلاد ذلك الوقت. فمن بين سكان السودان يعيش 82% تحت سلطان تلك الإدارة. وسمت المذكرة هذا السلطان ب "قبضة وتسلط بيروقراطية الإدارة الأهلية". وقالت المذكرة إن معظم النظار رؤساء للمجالس المحلية بحكم المنصب. ثم يأتى العمد وغيرهم إلى المجالس بالتعيين أو الانتخاب. وللإداري الأهلي سلطات إدارية تمثلت في تقدير جميع الضرائب المباشرة وجمعها (بمكافأة هي نسبة من ربط القبيلة الضريبي) والإشراف على الأراضي القبلية وتوزيعها على السكان. كما له الإشراف على جنائن الصمغ وتوزيعها وفض الخلاف حولها. وله ومراقبة تنفيذ أوامر المجالس المحلية مثل تطبيق الأوامر المحلية بخصوص حمل السلاح الناري والتوصية بمنح رخص الحرف والمطاعم "الأنادي". ومن مهامه بناء الاستراحات الصغيرة من المواد المؤقتة لسكنى موظفي الحكومة اثناء تأدية أعمالهم نظير مال من المجالس (وعادة ما تم هذا العمل بالسخرة). ثم تطرقت لسلطان الإدارة الأهلية القضائي. وهي محاكمة القضايا في الحدود المسموح بها من رئيس القضاء وحفظ دفاتر المحكمة. ووضح من عرض مذكرة الشفيع لإلتزامات الحكومة المحلية نحو الإدارة الأهلية أنها جهاز بروقراطي حق. فالحكومة تبني محاكمه واستراحاته وتتحمل الجزء الأكبر من مرتبات رجال تلك الإدارة وعلاواتهم وتشرف على علاجهم وترحيلهم. ولهم حق في سلفيات المباني والعربات والركائب وعلاوة ميل وبدل عليقة. ولهم بعد التقاعد أو الموت مكآفات ولبعضهم معاش من الدولة. فالإدارة الأهلية ليست نظاماً خفيض التكلفة كما يروج أنصاره. وركز التقرير على سوء الإدارة الأهلية من جهة جمعها لسلطات إدارية وقضائية معاً. وهذه سمة معروفة في المستعمرين ومفتشيهم. ووصفت المذكرة الإداري الأهلي المدجج بهذا السلطان بأنه ديكتاتور صغير أي حاكم عسكري على أفراد قبيلته. وهو سلطان موضوع تحت خدمة النظم الباطشة من لدن الأتراك لحشد أهلهم في مواكب البيعة والتأييد. ولم يأت معظم هؤلاء الزعماء في نظر التقرير بسبب إرث تليد بل عينهم الإنجليز تعييناً. وقال التقرير إنه طالما كان هذا النظام ممول بكامله من الحكومة فيصح أن نبحث عن بديل له أعدل واقتصادي. وتوقف التقرير بالذات عند نقطة سلطان الإدارة الأهلية الضريبي. ونبه إلى أنها مما يوظفه رجال الإدارة الأهلية لترويع الأهالي وإخضاعهم. وأثروا من الرشوة وحيازة الأرض والأنعام قسراً. ثم انتقلت مذكرة الشفيع إلى توصياته بما ينبغي عمله بشأن الإدارة الأهلية. فخلص إلى أن نظام الإدارة الأهلية متخلف ومن صنع النظم المستبدة. وأن الإدارة الأهلية كمؤسسة بروقراطية ما تخلف عن مسايرة تلك النظم الجائرة أبداً. وظل ضالعاً معها مستفرداً بجمهرة الريف يضطهدها وينهب ثمار كدحها. ووصى التقرير بالنظر إلى البعث الوطني الديمقراطي المتمثل في ثورة أكتوبر أن يسود بين شعبنا نظام ديمقراطي من خلال مجالس الحكم المحلي. وسيكون لهذه المجالس تقدير الضرائب وجمعها. ثم وصى بالغاء الإدارة الأهلية في شمال السودان وتوزيع سلطاتها للجهات القضائية والتشريعية والإدارية. ووصى بعقد لجان تحقيق في فساد زعماء الإدارة الأهلية وإثرائهم الحرام. والقاريء المدقق للتقرير يجد أن الشفيع انتبه لأن ما كل ما يتمنى المرء يدركه. فقال إن توصياته التي سلفت هي "الحل الثوري بعيد المدى لكافة أنحاء القطر". واعترف بعسر تحقيق خطته في المدى القريب. ولذا فهو يقترح الغاء الإدارة الأهلية في مديريات شمال السودان وهي تحديداً النيل الأزرق والمديرية الشمالية ومديرية كسلا ومديرية الخرطوم ومديرية كردفان ودارفور. واستثنى من ذلك الالغاء المديريات الجنوبية. وترك أمر الغاء نظامها الأهلي إلى لجنة يتولاها وزير الحكم المحلي. وتوقف التقرير عند أسباب إلغاء الإدارة الأهلية في النيل الأزرق دون غيرها. فقد وصفها بأنه مغطاة بشبكة مجالس محلية لا تحيجها لزعماء القبيلة. علاوة على أن قراها اعتادت مجالس تنعقد بديمقراطية لحل كل إشكال. وزادت بأن حل الإدارة الأهلية كان يرد ضمن مطالب اتحاد المزارعين بصورة دائمة وبخاصة في مذكرته بتاريخ 17-9-1964 التي طالبت بتوسيع مواعين مجالس القرى. إذا وثقت في ذاكرتي لقلت أن حكومة أكتوبر لم تحل الإدارة الأهلية على الصورة التي اقترحتها مذكرة الشفيع. فأذكر أن الخكومة قسمت السودان في قرارها إلى ثلاث وحدات. فاستغنت عن الإدارة الأهلية في المناطق الموصوفة بالمتقدمة في المدن والأرياف المتقدمة. واحتفظت بها في أرياف أخرى وسيطة بعد أن نزعت منها السلطة القضائية. ولم تمسسها بشيء في أرياف أخرى ربما وصفت ب "المتخلفة". فقاريء مذكرة الشفيع سيجدها ترددت نوعاً ما بغير تصريح حيال إلغاء الإدارة الأهلية في كردفان ودارفور. فقد وضعت خطاً تحت المديريتين حين قررت حل الإدارة الأهلية بهما. وهو ليس خط تشديد لأن راسم الخط أعقب ذكر المديريتين بعلامتي استفهام كمن هو غير متأكد من سلامة الغاء الإدارة الأهلية بهما. أما النقطة الأخرى التي ربما زكت لكم ذاكرتي عن الموضوع في أيامه الأكتوبرية الميمونة فهي أن المذكرة شددت كثيراً على نزع السلطة القضائية عن رجال الإدارة الأهلية. وهو تشديد لا معنى له إن لم يكن خطوة أولى لحلها على مراحل. ومتى واصلنا الحديث عن الإدارة الأهلية اتضح لنا أن تجريد الإدارة الأهلية عن السلطة القضائية مطلب قديم سبق اليسار وتبناه مؤتمر الخريجين في مذكرته الشهيرة عام 1942 وكانت أنشط أقسامه لتحقيقه هم القضاة الشرعيون. وتلك قصة سنرويها.