في القرنين الأخيرين استطاعت الإنسانية التخلص من الرواسب التي عمقتها بعض الأديان ؛ واستطاعت الحركة الإنسانية أن تسمو على ما كانت مسلمات محرمة ، متفوقة بضميرها المستنير على القيم السالبة التي ترسخت عبر تاريخ الوكلاء الماورائيين. ففي الوقت الذي ظلت فيه بعض الأديان تحلل العبودية والاسترقاق وسبي النساء في الحروب ، والتمييز على أساس الدين والجنس والعرق داخل كنف العقوبات والمعاملات والمواريث ، ارتفع الضمير الإنساني السوي رافضاً كل هذه الخزعبلات حتى ولو تُوُهِّمت قدسيتها ، وتعالى هذا السمو حتى عاد الممثلون الكونيون للتغييب يبحثون –بخجل- عن مبررات تُلوى بها أعناق النصوص أو تؤازرها بالمقدس المطلق لكي تنفي عن نفسها تخلفها عن ركب الضمير البشري المتحضر. لم تعد الدعوة للإرهاب والقتل والعنف والدموية والتمييز بين البشر والوصاية على الحقوق والحريات مقبولة في زمن العولمة الإنسانية ؛ وهكذا تمظهرت الحركة الدينية وتحيَّزت تحيزاً شديداً ، ثم انزوت في زمرة منقسمة ما بين تائهة منقادة وضالة سائسة ، وكلاهما في ذعر مما أسموه بالحرب الثقافية رافضين النظر إلى جوهر مأساتهم ورجعية ما بين أيديهم أمام حضارة ضميرية عولمية تتصاعد في ظرفي الزمان والمكان .فأصبحت هذه الزمرة عند الإنسانية مجرد وجوه متجهمة لمهووسين ومجانين ومجرمين . إن شعوب العالم بأسرها وقفت إلى جانب الثورات العربية ،بغض النظر عن الاختلاف في الدين والعرق ؛ لأن القيمة الإنسانية هي المقدس الوحيد والمطلق الوحيد لديهم ، وحيث لا تتجزأ هذه القيمة- كما هو الحال لدى المنحصرين في الدوافع التغييبية - ، فالحقوق والحريات والمساواة أمام القانون قد أضحت هي لغة الإنسانية الوحيدة المقبولة ؛ وأما عكس ذلك؛ فهو ليس سوى تردي وتقهقر ورجعية إلى قيم قرون البداوة والبربرية المكفرة والملغية والمقصية للآخر. لم تعد أي دعوة إلى بغض الآخر نظراً لاختلافه مقبولة ؛ بل أصبحت مستهجنة ومكروهة . لقد تعولمت القيم الليبرالية لأنها نبعت من الضمير المستنير في الوقت الذي اضمحلت فيه – بل وصارت شاذة – تلك الدعوات الصارخة المستصرخة للكره والبغض للآخر والحاثة – بهوس – لإقصائه وحرمانه من حقه في الحياة بكرامة كآدمي، فأخذت تضمحل ثم لتنزوي إلى الأبد. والغريب أن القيمة الإنسانية لم تعد في حاجة إلى توجيهات عليا ، بل هي التي صارت مؤثرة ونرى تأثيرها في محاولات التبرير والتحوير التي يقوم بها التغييبيون ليخفوا تشوهاتهم المقدسة . لم يتبق للإنسانية من شيء الآن سوى مجرد نهوض ديمقراطيات حقيقية وحكومات رشيدة تؤمن بما تؤمن به شعوبها أي بالحقوق والحريات والعدل ؛ بل أنني أعتقد أنه وخلال الألفية القادمة ستنهار المؤسسات المقدسة حول العالم بعد أن تصبح أكثر تحيزاً وشذوذاً خارجاً عما يتوصل إليه الضمير الإنساني لتصبح قيمة السلام العالمي أرفع القيم التي تعمل البشرية – جمعاء- على إحاطتها بالرعاية والحماية والدفاع عنها ، وسيصبح العدوان حالة شاذة وفردية تقمعها القوانين والأنظمة ومن قبل ذلك صرخات الشعوب الحرة المستهجنة والرافضة. amal faiz [[email protected]]