منهج سياسة اليوم ليس كما هو عليه قبل عقدين من الزمان، ناهيك عن الستينات. كما أن سودانيي هذا الجيل يختلفون عن قرنائهم من الأجيال السابقة. الأمر الثالث الذي يواجه مولانا الميرغني هو أن ظروف البلد، وما حولها، غير الظروف في السابق. وإذا بحثنا أمرا رابعا لوجدنا أن الطاقة الجسمانية لمولانا نفسه ليست بالقدر الذي ينافس بها طاقة أيام قاهرة التجمع، مثلا. وهكذا، مهما تصورنا متغيرات حول (السيد/ الرمز) فإنها حتما ستأتي خصما عليه. ومع ذلك فإن ما لمولانا لمولانا، وما للإتحاديين للإتحاديين، وما للمجتمع للمجتمع! أحاول هنا وضع رجل رأيته، أول ما رأيته، في الولاياتالمتحدة في ميزان سياسي!. ولكن لا أدري المنهجية التي يمكن للمرء أن ينظر بها لما هو محيط بشخصية السيد محمد عثمان الميرغني، خصوصا وأن الرجل نشأ وتربى وترأس وتسيد وسط مجتمع لم يكونه. فيه أمر القداسة الدينية من الحيوية بمكان، حتى قبل ولادته. وفيه ثقافة المشيخة راكزة وراسخة. كما فيه، أيضا، ضمور الأدب بشقائقه المختلفة، وضرورة الطاعة العمياء، وأسطرة الشخصية. المهم أننا عثرنا في مجتمعنا على كل عوائق التقدم، ومسهلات التأخر، حتى قبل أن يعايش والده بهاء الإستقلال. إذن ما هي دفوعاتنا الموضوعية التي يستند عليها منهج (الميزان السياسي) المفترض لقراءة فاعلية دينية وسياسية لمولانا الميرغني، إذا كان ذلك لا بد الآن، أي في وقت قل فيه الرجال المبدئيون من حوله وحولنا إلا من رحم ربي؟ وحين تتخبطنا هذه الأيام أمواج السياسة بقدر لا مثيل له نتساءل: هل يمكننا إعادة النظر في إدانتنا السهلة لرفض زعماء الطائفية، آنذاك، لفكرة تحرير الأرقاء السودانيين من قبضتهم، كما رغب المستعمر، في الوقت الذي كانت فيه النخبة صامتة، أما بقية المجتمع فكأن الأمر لا يعنيها، حيث يحجب الذين يرتادون الجوامع قدرة أعينهم على رؤية ميادين الإسترقاق، ويتعطل سمع العباد السجد بالحادثة، ويفقدون ميزة الإحساس بالآخر المسلم المسترق؟! قريب من هذه التساؤلات: من أين يستمد الزعيم الطائفي، أو الآيدلوجي، أو العشائري، أو الجهوي، إصراره على تعطيل (حدود الديمقراطية) المستحقة، وتعطيل أسس الشفافية في العمل، وتعطيل إمكانيات المحاسبة والمسؤولية،، وأخيرا، وليس آخرا، تعطيل محاولات الإصلاح المجتمعي الباكرة وخطوه، بدلا عن ذلك، نحو محاربة الذين يسعون لإصلاحه والمجتمع معا؟ هل من المنطقي أن نلقي أحكامنا القيمية على الزعيم، ونصفه بما فيه وما ليس فيه، ونغض الطرف عن العوامل الخارجية التي قادته إلى معايشة مؤسسة الأجداد والتي من موفور قيمها وجوب رعاية البقر والدجاج وهي تكاد أن تنهار، كما هو مشاهد في أمر الحزب العريق الذي يقوده مولانا رضي الله عنه؟ حسنا: أحيانا يبدو حديث القادة، ومن يشايعونهم، عن قيمهم الدينية والإجتماعية، وهيجتهم للدفاع عنها نوعا من الرياء والتدليس، ما دام أن إختبار صدقهم ينبئ عن غش للإله وللذات وللآخر، فإذا كان الذي يكذب ليس من جماعة المسلمين، كما نص الحديث الشريف، فما الذي يحمله للزود عن حياضهم.! ولكن الحقيقة أن معظم المثقفين، وغالب أئمة المساجد منهم، يستسهلون الأمور، ويركزون على تبرأة ذممهم ويكيلون اللوم، أو الشتائم ضد الخارج، ويردون أحيانا الفشل لمفارقة أسس التدين بينما ينسون أنهم أنفسهم عجزوا عن تثقيف المجتمع، وحضه على إتباع تلك القيم بما يجعله قادرا على محاسبة الزعماء بالصرامة المطلوبة، وكبح جماح هيمنتهم على عقول الناس بالتشيخ عليهم. الثابت أن عوامل عجز المثقفين في تفهم فشل الزعامات ستكون أعمق إذا لم نتوطن على حقيقة أنهم تسللوا من ثقوب تاريخنا وتراثنا، وليس هناك حكمة من مضمون (من اين أتى هؤلاء؟) غير دلالة الصياغة! فالطيب صالح ونحن وهم نعرف أنباء الماضي، وأساطير الأولين، وخروقات المثقفين، ولكنا ركزنا على حكمة الأديب الكبير في صك السؤال، والذي لم يدهش العارفين ببواطن الأمور. والغريب أن السلطة غضبت على الكيفية التي تم بها طرح السؤال برغم أن إجابته الحقيقة لا تجرمها مباشرة بقدر ما تجرم الماضي المثقوب الذي من خلاله صاغ الدكتور الترابي مشروعه! أبدا، أبدا إن الكاتب لن يعفي الميرغني من قلة حيلته التي جعلته غير قادر حتى على زيارة مناطق نفوزه الإنتخابي ليلمح حقيقة سد مروي، أو يدرك فيافي الشرق التي كانت كريمة معه، أو ييمم شطر أهله! في دارفور، هؤلاء الذين يقطعون الطريق أمام طموحه، وحزبه، للإستئساد بغالبية برلمانات الديمقراطيات الثلاث. بل ولن يعفيه عن السبب الذي جعل المناضل الحاج مضوي يقول الكثير المثير للصحفي حسن بركية في رده على سؤال عن صحة قول البعض إن الحزب الإتحادي أصبح محل سخرية وشماته وتهكم، وكان رد مضوي هو قوله هذا: "لا نرضي أن يتهكم أو يسخر أحد من حزبنا ولكن هذا واقعنا وسوف نتحمل الشماته إلي حين تجاوز الخلافات". قال بذلك الوضوح، ولا أدري مدى مصداقية ما زاد به من وضوح آخر حين قال في الحوار نفسه: "السيد محمد عثمان ليس طائفياً وما عندو علاقة بالصوفية..هو زول " بنوك ساكت " نحن ننسق مع الصوفية والميرغني ليس جزءاً من الطرق الصوفية، الختمية ديل حيران للسادة الأدارسة ". ولكن، على كل حال، فالأوضاع في الحزب الإتحادي تحتاج إلى منهج تحليل آخر غير ما إعتمده العم مضوي المغبون منذ حين. فهو نفسه لا يعفى عن مسؤوليته في إيصال الحزب إلى هذا المستوى من الشتات بحسب أنه القيادي المتحمل لجزء من المسؤولية. وإذا كان المناضل مضوي يعلم بأن رئيسه، وليس شيخه، لا صلة له بالطرق الصوفية، وأنه "زول بنوك ساكت" فما الذي جعله عضوا سياسيا فاعلا منذ عقود من الزمان في هذا الحزب الذي إكتشف أن قيادته تفارق الصوفية، فراق الطريف لجملو، كما دل المثل الموحي. ما علينا، فليكن، إذن، مولانا محمد عثمان الميرغني متحملا لجزء من مسؤولية ما آل إليه مصير هذا الحزب الذي سعت السلطة لأجل أن تستميل كوادره بالترهيب تارة، وبالترغيب تارة أخرى، حيث تفيدنا الأنباء أنها لا تفتر من سحب ما تبقى للميرغني من رصيد محبة وسط قومه، فالأنباء الأخيرة قالت والمصدر المؤمن صديق! إن حزب المؤتمر الوطني أعلن عن "إنضمام نحو 6 آلاف من منسوبي الحزب الاتحادي الديمقراطي لصفوفه. وعزا مساعد رئيس الجمهورية، نافع علي نافع، إنضمامهم الى حزبه استشعارا بالتحديات التي تواجه الوطن. واوضح نافع للصحافيين، ان القيادات التي إنضمت للوطني فاعلة على الأرض وليست قيادات فوقية. وقال كمال عمر أحمد، احد القيادات الاتحادية المنضمة وهو عضو المكتب السياسي وأمين امانة الاقاليم بالاتحادي، إن مجموعة من الحزب الاتحادي الديمقراطي لا يقل عددها عن 6 آلاف انسلخت من حزبهم وقررت الانضمام ل (الوطني) لما وجدته فيه من صدق وأمانة وتقدير للجماهير، واكد عمر انهم سيكونون اوفياء لحزبهم الجديد" هكذا يصار حزب الطبقة الوسطى، كما تشير أدبيات منظريه، إلى وضع ظاهره يشئ بغياب فاعلية الميرغني كزعيم روحي وسياسي، وعمقه التآمر على عمادة إجتماعية تاريخية نجحت فيما نجحت وأخفقت في ما أخفقت. سوى أنه لا يجرمننا شنآن القيادة من القول إن المسؤولية الأكبر لا تقع على عاتق أعضاء الحزب فحسب، وإنما أيضا لطبيعة ثقافة مجتمعهم التي أفرزت قيادته ونوعية العضوية، والتي لم يبق منها إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وتواصوا بالحق، وتواصوا بالصبر! في حال القناعة بإهمية دور الأحزاب التاريخية مهما كان أداؤها ضعيفا، فإنه لا يشرفنا أن ينتهي حزب عريق مثل الإتحادي إلى مؤسسة سياسية تدور عليها الايام هكذا، ولتصبح، من ثم، ألعوبة في يد المؤتمر الوطني الذي شل حركة الجماعة فيها، وظل يلوح لهم بما يكمل نقص التمام السياسي. إن غياب التأثير الجماعي الفاعل للكوادر الإتحادية قد إنسحب على حركة المعارضة لما أفرزته تجربة نيفاشا، وفوقا عن ذلك فإن ضعف الحزب الإتحادي أمام التحديات التي تجابه البلد عادت بالسلبية على مجمل الحراك الوطني. ومهما كان فرح الإنقاذيين بإستقطاب جماعات جلال الدقير، وأحمد بلال، وفتحي شيلا، والسماني الوسيلة وغيرهم من الذين فضلوا المناصب على مرارة النضال لصالح الشعب فإن الحقيقة التي تبقى في خاتم المطاف أن المؤتمر الوطني يقود نفسه والبلاد إلى طريق مسدود. وإذا عاد الإنقاذيون إلى تصفح تاريخهم في الإستقطاب السياسي لكوادر الأحزاب المعارضة لوجدوا أن هذا الإستقطاب لم يعصمهم من الإنقسام والذي لا بد أنهم، وكل السودانيين، دفعوا ثمنه غاليا. فضلا عن ذلك فإن القضية التي يجب على قادة المؤتمر الوطني إدراكها هي أن المناصب والعطايا التي بذلوها للسادة مبارك المهدي، وعلي حسن تاج الدين، ويوسف تكنة لم تتناسب مع خدمتهم (الضيزى). ونخشى أن يفاجأ المؤتمر الوطني ويفجع يوما بأن كل الذين إستقطبهم قد فشلوا أن ينالوا له دائرة جغرافية واحدة في الإنتخابات القادمة إذا جد جد التحالف الوطني العريض. وإذا أراد قسم الحركة الإسلامية المسيطر على السلطة عدم الاستفادة من تجاربه في محاربة ما يسميه بالطائفية فإنه سيكون قد حارب طل الغمام، فالطائفية، إن كانت تشكل بعبا للإسلاموية وللسودان، لا يتحطم بنيانها بالمناصب، وإنما بالمزيد من توفير الحريات التي تحدث التنوير والتثقيف للفرد وتضعه أمام خيارات فكرية متقدمة، ثم أنه كيف لسلطة الثقافة الإسلاموية أن تبدأ حربها الظاهرة والمستترة على الطائفية عبر تهديم القمة، حيث تركز على ترغيب قادة الطائفية، بينما تفشل في كسب قواعدها سواء بتنمية وعيها أو مناطقها أو حساسيتها تجاه الخرافة، فكيف إذن يسبق الحصان العربة، وصدق الاستاذ كمال الجزولي حين قال إن "الطائفيَّة، من قبل ومن بعد، جزء من حقائق الحياة في بلادنا، فلن تتغيَّر بالانقلابات العسكريَّة أو تنطعات الأنظمة الشموليَّة، وإنما بتطوُّر المسار الطبيعي للصراع الديموقراطي السلم" وفي هذا الاسبوع أقدم السيد الميرغني على تجميد "عمل جميع مكاتب حزبه بالعاصمة والولايات وأحالها للجان طوارئ وتعبئة، لقيادة الانتخابات القادمة، بينما وجه رئيس الحزب برفع مذكرة الي المفوضية القومية للانتخابات بتحفظات حزبه" كما جاء في (الصحافة) وأضافت مصادرها "ان قرار تجميد مكاتب الحزب وتحويلها للجان طوارئ للانتخابات جاء لابداء فعالية ومرونة ولإعادة تشكيل اعضاء وكوادر الحزب وفقا لاحتياجات العملية، وذكرت ان لجنة عليا خاصة بالانتخابات من 25 شخصا تم تكونها فعلا، واوكلت لها مهمة اعداد ورفع مذكرة لمفوضية الانتخابات تحوي ملاحظات حول العملية، وأشارت الي أنها جاءت بتوجيه من رئيس الحزب" لا نريد هنا الاستطراد حول مغزى غير مفهوم لتجميد مكاتب الحزب، ولكن فإن هذه ليست المرة الأولى التي يسعى فيها الحبر الأعظم الميرغني لخلط أوراق حزبه ليعيد توزيعها من جديد. غير أن ما يحمد للسيد من خلال قراره هذا هو أنه أبان لنا أن كيمياء وجوده بائنة، ولسانه يلهج بالقرارات، وإن كان قد صمت دهرا بعد مواراته لثرى شقيقه. لقد كانت عودة الميرغني الحزينة إلى البلاد للمشاركة في تشييع جثمان شقيقه، رحمه الله، فرصة لإعادة النظر في أمر فاعليته السياسية في هذه الظروف الحرجة، وكذا فاعلية حزبه وجماهيره بعد أن تناسى المختلفون معه كل ماضي التناحر الحزبي، ووقفوا بجانبه ليخففوا عنه حزن الفقد الجلل. وبدلا من أن ينتهز الميرغني الفرصة ويستجيب لنداءات الخيرين المستمرة لتوحيد صفوف الحزب عبر مؤتمر عام صرح بقوله إن حزبه ظل موحدا منذ الإستقلال! وحقيق أن مظاهر الإستقبال التي حظي بها السيد بعد طول غيبة، وكذلك إهتمام من يحيطون به بالظرف الإنساني الذي تطلب عودته بتلك الكيفية، قد أعطياه إنطباعا أن جماهيريته ومكانته من ما لا يقارنان، وبالتالي ذهب مذهبه في السخر من إحلام الإتحاديين بلملمة شعث الحزب، والذي عاد من أمنوه عليه ليجد أن (الجوكية السياسية) قد سجلته لخاصتها ما دعاه إلى تسجيله بإضافة كلمة الأصل. والله غالب. إن الإحترام الحقيقي لهذه الجماهير والتي عجز المثقف على عونها وشحذها بمفاهيم (رولان بارت أو ماكس فايبر) يتمثل في بناء حزب سياسي راسخ البنيان، أعمدته الديمقراطية والمؤسسية والوضوح في المواقف والبرامج، وهذا هو الإجراء السليم لخوض الإنتخابات القادمة. أما محاولات التجميد والترقيع التي لا تغير شيئا في طبيعة الوضعية السياسية الغائبة للميرغني وحزبه لا تنتج سوى المزيد من الفشل الحزبي. ولا يظنن عاقل أن الحاضر والمستقبل السودانيين يتحملان هذا الضرب من الضبابية في سياسة مولانا الميرغني، وهذا التخلي عن المبدأ في لحظة الهرولة نحو الوظيفة بإسم جماهير الحزب العريضة والمكلومة. كل ما نأمله أن يعيد الميرغني مراجعة تلك الظروف التي جاءت في البدء، وأن يخرج من قمقم الغموض ليواجه، كزعيم ديني وسياسي، مسؤوليته الوطنية في وقت الشدة ويقنعنا بفاعلية طاقاته الفكرية والدينية والسياسية والتجارية أيضا!