لا تزال إفريقيا ترزح تحت وطأة الأمراض المدارية التي ظلت تعاني من ويلاتها منذ قرون، فأمراض مثل البلهارسيا والملاريا وعمَى النهر ومرض النوم وأمراض الديدان بمختلف أنواعها مثل الخيطية والدبوسية والشريطية؛ مازالت تعيث فساداً في أجساد الأفارقة صغارهم وكبارهم. فرغم أن التقارير الرسمية – والعهدة على منظمة الصحة العالمية – تذكر أن معدلات الموت من الملاريا على سبيل المثال قد انحسرت في بعض البلدان الموبوءة، إلا أن ذلك المرض الفتَّاك ما زال يحصد أرواح ثلاثة مليون من البشر في قارتنا المنكوبة، ومازالت الأمراض الطفيلية تقتل ثلث الذين يموتون في تلك القارة. ومن عجب فإن قيمة ما يحتاجه الطفل الإفريقي الواحد ليجد الحماية من معظم الأمراض المدارية الشائعة لا يتعدى نصف دولار في العام. فيا لخزي وعار قادة البلدان الإفريقية الفقيرة الذين لا يموتون إلا بعد أن يقضي الواحد منهم عقوداً متطاولة على سدة الحكم (وعلى أنفاس محكوميهم) مخلفين وراءهم بلايين الدولارات في مصارف سرية في سويسرا وغيرها، ولا سبيل لاستردادها، لتقع غنيمة باردة لاقتصاديات العالم المستعمر الذي لا نكف عن ترديد القول بأنه سرق ثرواتنا ونهب أموالنا. وكأن الأمراض المدارية القاتلة التي تحصد الملايين لا تكفي عالمنا المعذَّب المنكود، فلقد بدأت ومنذ سنوات قليلة ومع انتعاش ضئيل نسبياً في الاقتصاد الإفريقي، بعض "أمراض أنماط الحياة" مثل السكري وارتفاع ضغط الدم والسمنة المفرطة في الظهور والتصاعد في حواضر إفريقيا. فرغم أن الإحصائيات في أفريقيا على وجه العموم ولأسباب كثيرة، منقوصة ومختلقة ولا يمكن الاعتماد عليها تماماً، إلا أن هذه الاحصائيات على علاتها تشير إلى زيادة مضطردة في معدلات حدوث "أمراض العصر" كما نسميها في بلادنا. ففي مدن أفريقيا تتوفر، بل وتسود كل العوامل التي قد تؤدي للإصابة بالسمنة المفرطة وبضغط الدم العالي والبول السكري وارتفاع تركيز الدهون الرديئة في الدم. فمعدل التدخين وشرب المشروبات الروحية (الكحولية) والمخدرات وتناول الأطعمة المليئة بالدهون المشبعة والملح أو السكر، يضاف لكل ذلك حالة القلق والتوتر التي تعم الجميع تقريباً، كل ذلك يساهم دون ريب في انتشار هذه الأمراض التي كانت وإلى وقت قريب تعد من أمراض الدول الغربية الغنية. وقد جاء في بعض الأبحاث الحديثة أن هذه الأمراض المزمنة تؤدي الآن لوفاة نحو نصف عدد البالغين في مدن إفريقيا، بل ويقدر أنه وبحلول عام 2020م سيموت نحو سبعة أشخاص من بين كل عشرة بمرض أو أكثر من بين أمراض العصر التي سبق ذكرها. المصيبة أنه في الغرب تقوم وسائل الإرشاد الصحي والطبي ووسائل الإعلام المختلفة بإشاعة المعرفة والتحذير من نوعية الحياة النهمة الكسولة ووسائلها الحديثة المؤدية إلي التهلكة المحققة. بيد أن الوضع في عالمنا الإفريقي - مع بالغ الأسف - مختلف جداً. فمن علامات الثراء والتحضر والرقي والتقدم عند معظم سكان مدن أفريقيا الكبرى تناول الطعام الدسم المعبأ (حتى الثمالة) بالسمن البلدي (المليئ بالدهون المشبعة الرديئة) والخبز الأبيض والسكر الكثيف، أضف إلي ذلك قلة الحركة وعدم ممارسة الرياضة. ولا بد أيضاً من الأخذ في الاعتبار أن الأفارقة – لسوء حظهم المزمن - وبحكم المورثات الجينية، أكثر أهل الأرض قابلية للإصابة بأمراض العصر سالفة الذكر! في دراسة حديثة أجريت على عواجيز من جنوب إفريقيا (من سكان البلاد الأصليين) ونُشرت في مجلة متخصصة تُعنى بشئون المتقدمين في السن، ثبت أن (25%) من هؤلاء مصابون بمرض ضغط الدم وأن (25%) آخرين مصابون بذات المرض أو بأمراض أخرى مزمنة. وسيكون من المفيد تكرار مثل هذا البحث (غير المعجز مادياً) في مناطق مختلفة من السودان "الحار الجاف والمترامي الأطراف" كما يوصف تظرفاً، وعلى مجموعات قبلية مختلفة تعيش تحت ظروف وأنماط عيش متباينة، وهذا النوع هو من الأبحاث التي يمكن لطلاَّب الطب عندنا إجراءها تحت أدنى مستوى من الإشراف. أثبتت أبحاث حديثة كثيرة أن الفشل القلبي صار أحد الأسباب الهامة للموت في إفريقيا. ويعزو العلماء ذلك لأسباب وراثية (جينية)، منها تغيير النظم الغذائية التقليدية وتبني حياة المدن وطرائق معيشتها في سرعة وعجلة بالغتين. ويعاب على معظم هذه الأبحاث، اعتمادها على افتراضات وبدهيات، على اعتبار أنها لا توفر أرقاماً وإحصائيات يمكن الركون إليها بثقة، وهذه من آفات البحث العلمي في قارتنا السمراء. وما لنا نذهب بعيداً ونتيجة الإحصاء الأخير عندنا صارت مثاراً للجدل والخلاف، فعبارة "الحساب ولد" عندنا إنما هي كلمة مقالة لا معنى لها ولا أثر!. لا ينبغي فهم أن الله سبحانه و تعالى اختصَّ شعوبنا الإفريقية وراثياً بمثل تلك الأمراض المزمنة، فشعوب العالم الأخرى من صُفر وبيض لديهم أيضاً أمراضهم الوراثية الخاصة بهم، ولكن تلك قصة أخرى! أخلص إلى أن أفريقيا - ولله الحمد - قارة مبتلاة بأمراض مدارية مميتة (إن لم تجد من يداويها أو يمنع حدوثها)، ومبتلاة أيضا – خاصة في المدن - بما نسميه "أمراض العصر الحديث" وهي في الغالب أمراض وراثية مزمنة ذكرنا بعضها فيما سبق ذكره. بيد أن كل ذلك لا يبرر القنوط والتخاذل واليأس. إن مصيبتها الكبرى هي في أن عدداً ليس بالقليل من دولها يتحكر فوق رأسها ويجثم فوق صدرها فرعون قليل العقل، رقيق الدين، متضخم الثروة، يحكم بالعقود الطوال، وما أن يريح الله منه العباد حتى يكتشف أولئك العباد أن فرحتهم قصيرة الأجل، إذ تأتيهم الأخبار (السعيدة) بأن الراحل العزيز قد جعلهم وما يملكون من ورثة إبنه الأكبر! وليس هذا من نسج خيالي، فلقد فعلها حاكما غينيا الإستوائية والغابون والبقية في الطريق، والله المستعان.