الموقف النقدى: إذا كان من الشائع أيضا اعتبار ان موقف ابن تيميه من كثير من المجالات المعرفية كالتصوف والفلسفة وعلم الكلام هو موقف الرفض المطلق القائم على تحريم الاشتغال بهذه المجالات المعرفية وتكفير المشتغلين بها ، فان القراءة المتانيه لتراثه الفكري تبين ان موقفه الحقيقي يتجاوز كل من موقفي الرفض والقبول المطلقين إلى موقف نقدي قائم على القول بتضمن هذه المجالات المعرفية لاوجه صواب و أوجه خطا ، وبالتالى وجوب أخذ وقبول ما هو صواب ، ورد ورفض ما هو خطأ. وهنا يجب التمييز بين النقد والنقض فالنقد لغة: تمحيص الدنانير الصحيحة من الزائفة، و نقد الشعر والكلام: ( نظر فيه ، وميز الجيد من الرديء، فهو ناقد وجمعه نقاد ونقدة، ونقد الكلام ابان ما فيه واخرج زيفه) (معجم متن اللغة)، والنقد اصطلاحا : هو موقف معرفي قائم على أخذ وقبول ما هو صواب في الراى، ورد ورفض ما هو خطأ فيه. وقد دعي الاسلام إلى الالتزام بالموقف النقدي ، بعد تقييده بمعايير موضوعيه مطلقه ، هي النصوص اليقينية الورود القطعية الدلالة، قال تعالى: ( الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه).وقال صلى الله عليه وسلم (لا يكن أحدكم إمعة، يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسئت، بل وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا،وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم)، أما النقض فهو ما يقابل الرفض المطلق. ففي مجال التصوف يتمثل تجاوز ابن تيميه لموقفي الرفض والقبول المطلقين للتصوف في قوله (فَطَائِفَةٌ ذَمَّتْ " الصُّوفِيَّةَ وَالتَّصَوُّفَ " . وَقَالُوا : إنَّهُمْ مُبْتَدِعُونَ خَارِجُونَ عَنْ السُّنَّةِ وَنُقِلَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ وَتَبِعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ . وَطَائِفَةٌ غَلَتْ فِيهِمْ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْخَلْقِ وَأَكْمَلُهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَكِلَا طَرَفَيْ هَذِهِ الْأُمُورِ ذَمِيمٌ ). كما يتمثل موقفه النقدي من التصوف فى قوله (وَ " الصَّوَابُ " أَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ كَمَا اجْتَهَدَ غَيْرُهُمْ مِنْ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ فَفِيهِمْ السَّابِقُ الْمُقَرَّبُ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ وَفِيهِمْ الْمُقْتَصِدُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ وَفِي كُلٍّ مِنْ الصِّنْفَيْنِ مَنْ قَدْ يَجْتَهِدُ فَيُخْطِئُ وَفِيهِمْ مَنْ يُذْنِبُ فَيَتُوبُ أَوْ لَا يَتُوبُ . وَمِنْ الْمُنْتَسِبِينَ إلَيْهِمْ مَنْ هُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ عَاصٍ لِرَبِّهِ . وَقَدْ انْتَسَبَ إلَيْهِمْ طَوَائِفُ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالزَّنْدَقَةِ ؛ وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ التَّصَوُّفِ لَيْسُوا مِنْهُمْ : كَالْحَلَّاجِ مَثَلًا ). كما يتمثل فى حديثه عن أصناف الصوفية (ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ تَشَعَّبَ وَتَنَوَّعَ وَصَارَتْ الصُّوفِيَّةُ " ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ " صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ وَصُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ وَصُوفِيَّةُ الرَّسْمِ . فَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الْحَقَائِقِ " : فَهُمْ الَّذِينَ وَصَفْنَاهُمْ . وَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الْأَرْزَاقِ " فَهُمْ الَّذِينَ وُقِفَتْ عَلَيْهِمْ الْوُقُوفُ . كالخوانك فَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَؤُلَاءِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْحَقَائِقِ... وَأَمَّا " صُوفِيَّةُ الرَّسْمِ " فَهُمْ الْمُقْتَصِرُونَ عَلَى النِّسْبَةِ فَهَمُّهُمْ فِي اللِّبَاسِ وَالْآدَابِ الْوَضْعِيَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَهَؤُلَاءِ فِي الصُّوفِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى زِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ وَأَهْلِ الْجِهَادِ وَنَوْعٌ مَا مِنْ أَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ بِحَيْثُ يَظُنُّ الْجَاهِلُ حَقِيقَةَ أَمْرِهِ أَنَّهُ مِنْهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ )( ابن تيمية ،رسالة الصوفية و الفقراء ) وفى مجال الفلسفة تمثل تجاوزه لموقفي الرفض والقبول المطلقين للفلسفة والى موقف نقدي منها في: رفضه فرضية أن الفلسفة تأخذ موقفاً موحداً من جميع القضايا ،و ما يترتب عليها من أن هذا الموقف مناقض لموقف الدين منها ( كما يرى انصارمذهب الرفض المطلق للفلسفة) حيث يقول في معرض رده على من قال أن الفلاسفة جميعاً قالوا بقدم العالم (أما نفي الفلسفة مطلقاً أو إثباتها فلا يمكن ، إذ ليس للفلاسفة معين ينصرونه، ولا قول يتفقون عليه في الإلهيات والمعاد والنبوات، ولا في الطبيعيات والرياضيات) ( ابن تيمية، منهاج السنة، ص253.). عدم أخذة موقفا موحدا من الفلسفة (المقصود هنا الفلسفة اليونانية) سواء بالرفض أو القبول بل يقسمها إلى ثلاثة أقسام: الإلهيات (الميتافيزيقا): وهو يرفض هذا القسم، وأغلب رفضه للفلسفة ينصب على هذا القسم منها. الطبيعيات: ويرى جواز الأخذ بهذا القسم مع عدم ربطه بالإلهيات (الميتافيزيقا) اليونانية، ويعتبر ان هذه القسم (غالبه كلام جيد، وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها، وهم يقصدون به الحق لا يظهر عليهم فيه العناد، ولكنهم جهال بالعلم الإلهي). الرياضيات: ويرى وجوب الأخذ به وبتعبيره (ضرورية لعلوم الفرائض وقسمة التركة وغيرها )(ابن تيمية، الرد على المنطقيين، طبعة بيروت دار المعرفة). ويقول عن الفلاسفةالاسلاميين (أنه كان في كل من هؤلاء من الإلحاد التحريف بحسب ما خالف به الكتاب والسنة، ولهم من الصواب والحكمة ما وافقوا فيه ذلك) ( ابن تيمية، منهاج السنة، ص252). وفى مجال علم الكلام يتمثل موقفه النقدي فى تقريره (جواز الإشغال بعلم الكلام لإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإذا لم يقصد به الاستدلال بالأدلة الفاسدة أو تبني المقررات الباطلة) حيث يقول ( فَالسَّلَفُ وَالْأَئِمَّةُ لَمْ يَكْرَهُوا الْكَلَامَ لِمُجَرَّدِ مَا فِيهِ مِنْ الِاصْطِلَاحَاتِ الْمُوَلَّدَةِ ، كَلَفْظِ الْجَوْهَرِ وَالْعَرَضِ وَالْجِسْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ؛ بَلْ لِأَنَّ الْمَعَانِيَ الَّتِي يُعَبِّرُونَ عَنْهَا بِهَذِهِ الْعِبَارَاتِ فِيهَا مِنْ الْبَاطِلِ الْمَذْمُومِ فِي الْأَدِلَّةِ وَالْأَحْكَامِ مَا يَجِبُ النَّهْيُ عَنْهُ ، لِاشْتِمَالِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَعَانِي مُجْمَلَةٍ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي وَصْفِهِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ ، فَقَالَ : هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِي الْكِتَابِ ، مُخَالِفُونَ لِلْكِتَابِ ، مُتَّفِقُونَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْكِتَابِ ، يَتَكَلَّمُونَ بِالْمُتَشَابِهِ مِنْ الْكَلَامِ ، وَيُلَبِّسُونَ عَلَى جُهَّالِ النَّاسِ بِمَا يَتَكَلَّمُونَ بِهِ مِنْ الْمُتَشَابِهِ . إذَا عُرِفَتْ الْمَعَانِي الَّتِي يَقْصِدُونَهَا بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ ، وَوُزِنَتْ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، بِحَيْثُ يَثْبُتُ الْحَقُّ الَّذِي أَثْبَتَهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، وَيُنْفَى الْبَاطِلُ الَّذِي نَفَاهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ ، كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ ) (مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ، المجلد الثالث (العقيدة)، الخوض فيما تكلم الناس فيه من مسائل في أصول الدين). وبناء على هذا الموقف النقدي تناول كثير من المسائل الكلامية (مثل العلاقة بين الوجود والموجود، والقدر والجبر والاختيار، والقدم بالنوع ...) كما في الجزء الثالث من مجموعة فتاواه. [[email protected]]