السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    إبراهيم عثمان يكتب: عن الفراق الحميم أو كيف تخون بتحضر!    الأمين العام للأمم المتحدة: على العالم ألا يخاف من إسرائيل    لينا يعقوب والإمعان في تقويض السردية الوطنية!    تعرف على مواعيد مباريات اليوم السبت 20 سبتمبر 2025    الأهلي مدني يدشن مشواره الافريقي بمواجهة النجم الساحلي    حمّور زيادة يكتب: السودان والجهود الدولية المتكرّرة    إبراهيم شقلاوي يكتب: هندسة التعاون في النيل الشرقي    حوار: النائبة العامة السودانية تكشف أسباب المطالبة بإنهاء تفويض بعثة تقصّي الحقائق الدولية    الأهلي الفريع يكسب خدمات نجم الارسنال    الطاهر ساتي يكتب: بنك العجائب ..!!    «تزوجت شقيقها للحصول على الجنسية»..ترامب يهاجم إلهان عمر ويدعو إلى عزلها    صحة الخرطوم تطمئن على صحة الفنان الكوميدي عبدالله عبدالسلام (فضيل)    بيان من وزارة الثقافة والإعلام والسياحة حول إيقاف "لينا يعقوب" مديرة مكتب قناتي "العربية" و"الحدث" في السودان    وزير الزراعة والري في ختام زيارته للجزيرة: تعافي الجزيرة دحض لدعاوى المجاعة بالسودان    حسين خوجلي يكتب: السفاح حميدتي يدشن رسالة الدكتوراة بمذبحة مسجد الفاشر    بدء حملة إعادة تهيئة قصر الشباب والأطفال بأم درمان    إبراهيم جابر يطمئن على موقف الإمداد الدوائى بالبلاد    لجنة أمن ولاية الخرطوم: ضبطيات تتعلق بالسرقات وتوقيف أعداد كبيرة من المتعاونين    المريخ يواجه البوليس الرواندي وديا    هجوم الدوحة والعقيدة الإسرائيلية الجديدة.. «رب ضارة نافعة»    هل سيؤدي إغلاق المدارس إلى التخفيف من حدة الوباء؟!    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المطلوب والمفقود في جدليات الربيع العربي .. بقلم: البروفسور امباي بشير لو

حين تطل علينا سنة جديدة من اندلاع الربيع العربي، تجدر بنا مراجعة الأحداث في ضوء الأفكار التي تكتنفها. ومجمل قراءتنا للأدبيات الفكرية التي تؤرخ لهذه الأحداث أو توجه عناصرها أنّها قصرت في استنارة واقع الدولة المعاش أو الاستلهام بالثورات المماثلة التي واكبت عصر النهضة الحديثة في كثير من أرجاء المعمورة. إنّ أزمة تشخيص تشكيلة مركز السلطة واطاحتها كما في مصر، وإشكالية الموازنة بين الانتماء القبلي والواجب الوطني كما في ليبيا بعد حكم القذافي، وتلابس العنف الشرعي والعنف اللاشرعي كما في اليمن، وتسربل المعارضة في الحركتين السلمية والعنفية كما في سوريا، إنّما يعكس واقع أدبيات الربيع العربي وعجز المفكرين في فرز فرضيات تقدميّة توازن بين الموضوعية الفكرية والموضوعية الجهوية. سواء أكانت هذه الجهوية بدافع جاه أو مال أو معتقد.
في مسحنا لما يزيد على خمسمائة مقال في الصحف العربية المحلية منها والدولية منذ بزوغ فجر الربيع العربي قرابة عام مضى، لم ألف سوى بضع مقالات خرقت حاجز الجهوية الفكرية لقراءة تداعيات مطالب الشارع العربي للتغيير في ضوء المفقود فكريا و المطلوب عمليا في المنطقة. أقصد هنا أن القدر الأعظم من كتّاب الثورات العربية لم يبدو في تحليلاتهم للأحداث أنهم أحرار وعتقاء المتردّم في عطائهم الفكري، ممّا يثبطهم عن تحليل الأوضاع تحليلا موضوعيا وفي صالح المواطن العادي. إن التأييد اللاشرطي للحرّية بكلياتها هو نفسه ثورة ذاتية لا يقدر عليها إلا الأحرار الطلقاء. إنّ الثورات لا تعتمد على رجالاتها المشاة بقدرما تستلهم من كتابها المخلصين. أنجع ثورات التاريخ الحديث أنتج فكرا نقديا بئيرا وذا طابع إنساني لا يقل أثرا في التاريخ الفكري من تضحيات الثوّار أنفسهم. وفي هذا يذكر الفيلسوف والشاعر البريطاني المولد جلبرت كيث أنه "من المستحيل صناعة الديموقراطية من الثورة لا بد من ديموقراطية أولا لصناعة الثورة". وهو هنا يعبر عن ضرورة بثّ أدبيات الحرية وأفكار ديموقراطية يحتكم إليها الثوّار بمختلف اتجاهاتهم وتناقضاتهم لتمكنهم من خلق واقع ثوري ايجابي. طبيعة الثورة هي التناقض وخلق جوّ مفعّم بالفتنة من أجل تفنيد شرعية الواقع المهيمن. بهذه المعادلة يفترض أنّ التكالب على السلطة والضرب في غياهب تغييرها مغامرة في عالم الاحتمالات. ممّا يعني في علم الاحتمالات probabilities أنّ العائد الأوفر من الثورة يكون بقدر التضحيات التي تزهق في سبيلها.
في محاولته لتفسير تخلّف الدول الافريقية والإسلامية مقارنة بالدول الغربيّة، كان العالم السنغالي شيخ أنتا جوب قد طرح نظريّة الثورات كفرضية لهذا التباين. وهو يعني أن تقدّم الدول الغربيّة بعكس دول الجنوب جماع لمعطيات ثوراتهم وتضحياتهم في سبيل التحرر بعكس واقعنا المستعيذ من الثورات. ويذكر الزعيم الكوبي الثوري فيديل كاسترو أنه، "بدأت الثورة مع 82 "اثنان وثمانون" نفرا. ولو قدرت لي إعادتها لفعلت مع عشر أو خمسة عشر نفرا ذوي همم وارادة، إذ المهم ليس العدد بل الهمم والعمل."
وقد كان الزعيم الصيني ماووتسي تنع صائبا حين ألمح إلى أنّ الثورة "ليست بمثابة حفلة عشاء، ولا بمقالة، أو لوحة تصوير، وليس غرفة للتجميل. مستحيل هو إدارة الثورة عن كثب أو بالتدرج أو بحذر أو بالتحسب أو احترام أو بتأدب أو حتى بمصارحة أو تواضع."
الثورة إذا سنة من سنن التقدّم السياسي، وإن عظمت تكاليفها فإنّ معطياتها في تقدم الشعوب وتحررها يجعل ثمنها بخسا والمتاجرة فيها تجارة قلما تبور. ويرى إزايا برلين، أحد أكابرة فلاسفة الثورة في القرن العشرين، أنّ أزمة الثورات تكمن في تحديد ماهية الحريّة بكفيها السلبي والايجابي. فبينما يطالب الثوار في شوارعهم للحريّة السلبية، وهي الحرية من استبداد واستعباد الحكام بهم شتان ما توافق الحكام على هذا المطلب لكن الحكام يتبنون الحرية الايجابية: وهي الحوجة إلى تدريب الثوّار والشوارع على ترنّمات المسؤولية ومدارج النضج وبلوغ المواطنة حتى تتسنى لهم المعاملة مع الحرية بمسؤولية. ويرى برلين أنّ هذا التمايز في تاويل الحريّة هو سبب الأزمة في كل ثورات العصر الحديث محلّلاً المواجهة في الثورة الفرنسية والروسية بين ما أسماه بجبهة الباشوات وجبهة الفلاحين. وبما أنّ الأزمة تكمن في إشكالية ماهية الحرية، فالتهالك على الموت والاقتتال باسم هذه الحرية، تبقى سمة ملازمة لطبيعة الثورات. و هذا جلي في أعظم ثورات العصر الحديث: الثورة الأمريكية، الثورة الفرنسية، الثورة الروسية، الثورة الصينية، الثورة الكوبية، والثورة الإيرانية. فنجاح هذه الثورات نتج من جراء غلبة دعاة الحريّة السلبية على الحريّة الإيجابية، سواء استثمر هذا النجاح في مدّ أسباب الحرية السلبية خارج نطاق الدولة كما في الثورة الفرنسية والأمريكية مثلاً، أم تلكأ موكب الثورة إلى تقليص الحرية السلبية التي وصلت الى السلطة بحجة الدفاع عنها عقب تسلمها زمام الحكم والبدء في إعادة تشييد الحرية الايجابية كما في النماذج الصيني والروسي.
ومنتهى النقاش في هذا المجال هو أنّ منصة الحكم ومؤسسة الدولة ترنو دوما إلى تبني الحرية الإيجابية وتسخيرها في سبيل الحدّ من حرية المواطن مهما كانت نوعية الحكم أو خلفية السلطان. وبالتالي ينتقل مطلب الحرية السلبية مرة أخرى إلى الشارع ورواده من المؤسسات السياسية والمدنية. هذا هو سبب أزمة الدولة الحديثة وعجزها في إدارة الحرية، إذ هي جاءت لتحديد هذه الحرية بمنظورها المؤسسي الأمني والدفاع عنها حسب مراد السلطان. فيرى المفكر الأمريكي روبرت باتنام أن الديموقراطية المستديمة تكمن في قدرة المجتمع المدني على العراك والديمومة في مواجهة مؤسسة الدولة في الشارع و مقاضاتها في المحاكم. وهي نفس النقطة التي حدا بأزايا برلين قبله إلى الاستخلاص بأنّ مشكلة المجتمع الحديث هي اشكاليّة مؤسسة الدولة وأنّ مسيرة الديموقراطية تقتضي تقوية المجتمع المدني وإعداده للعراك الدائم والحدّ من سطوة الدولة. وكان أبو فكرة النظام الفدرالي الأمريكي جيمس مديسون من أوائل من فقهوا هذه المعادلة وألمح الى وجود خطر قابع في مؤسسة الدولة وهو طبيعتها التسلطية التي يجب إلجامها. فدعا إلى الاعتراف بالحزبية والطائفية مبررا أن وجودهما في الساحة السياسيّة سيجبر مؤسسة الدولة على التحذّق في فنون إدارة التنوع وافساح الحريّة لأنّ مصلحة الدولة هي بقاؤها وهذا يقتضي الحدّ من ديكتاتورية الأغلبية وثورة الجماهير. ومعروف أنّ أفكار مديسون هي التي صاغت الحياة السياسيّة الأمريكية، كما أنّها أوحت الى تشكل وتطور الدستور الأمريكي الذي يعتبر الآن أقدم دستور يتعامل به في التاريخ الحديث.
هذه النقاط كما النقاش حولها جدّ خطير في أدبيات الثورات. لكنها مع سوء الحظ غائبة إلى حدّ كبير في أحاديث المفكرين عن الربيع العربي. فمع أنّ بدائيات الربيع العربي محلية الصنع في مدينة سيدي بوزيد بتونس وميدان التحرير بالقاهرة فإنّ معظم الكتاب عن هذا الحدث التاريخي يمثلون ردود فعل لمقالات أو مقامات الأمريكيين والاسرائيليين بدلا من استنباط الحقيقة المطلوبة من غياهب الواقع المفقود. انّ القارئ ليجد أحيانا مراجعات حرفية لما يكتبه الغربيون عن الربيع العربي وكأنما الكاتب يرنو الى موكب الربيع العربي عبر ثنايا الصحف الغربية، وكانت من انعكاسات هذا التحليل المخل أن بدأ نشطاء الربيع العربي الجدد يبحثون عن الشرعية السياسية في منابر الإعلام الغربي بدلا من الشارع العربي. ولم يكن هذا شأن التباشير الأولى للربيع العربي في تونس ومصر، لكنها تغيرت بصفة درامية في ليبيا وسوريا وانعكس سلبا على احتمالات الثورات في بلاد المنطقة، كما أنذر المواطن العادي من فتنة الثورات وأنّ (الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها).
مع أنّ الدول ليست سواسيّة في قدراتها ونظمها، فهي متساوية بينها في الحقوق وتمتاز باحتكارها للعنف الشرعي شريطة ألاّ يستخدم على المدنيين حربا كانت أم سلما. هذه من مبادئ اميريج دي فاتيلEmerich de Vattel الديلوماسي السويسري الذي مهدت نظرياته لتطور القانون الدولي الحديث. وهي نفس النظريات التي تجيز وصف المدنيين بارهابيين لو تطاولوا على الدولة في استخدام هذا العنف. ومبدأ الكفاح السلمي أو المقاومة المدنيّة اللاعنفية، التي انطلق منها الربيع العربي، هو تجريد الدولة من أحقيتها في احتكار العنف الشرعي وذلك بمعاركتها جماهيريا وسلميّا وعلى مرأى الملء من حولها ولو على حساب نفس أو مال المقاوم. و يرى أبو النظرية، المفكر الأمريكي هانري تورو، أنّ التمرد السلمي على قوانين أو معاملات الحكومة الجائرة مسؤولية أخلاقية تقتضيها المواطنة الراشدة، قد تكون مكلفة لكنها أمضى سلاح في تعرية الدولة أخلاقيا من أحد أسس شرعيها، وأنّه ليس من واجب الأفراد تغيير الحكومة الجائرة بأيديهم لكن من مسؤوليتهم المدني التبرم من سلطتها علنيا. وفي ذلك أعلن في أوّل مقال له عي نظريّة المقاومة المدنية اللاعنفية عام 1849، أنّ "خير الحكومات أقلها سلطة في الحكم." ومنه استلهم القائد الهندي مهاتما غاندي والمناضل الأمريكي مارتن لوثر كينج فكرة المقاومة اللاعنفية في معاركة الحكم الجائر. فاستخدمها الأول لارغام الاستعمار البريطاني على المفاوضة لاستقلال الهند، كما استخدمها الثاني في مدينة سلما بولاية ألاباما الأمريكية حين شهرت الحكومة المحلية أنياب العنف في وجه المعتصمين العزل المعارضين للتمييز العنصري ضدّ السود. وكانت تضحيتهم ولاعنفيتهم مااستنفرت الرأي العالمي وبالأخص الغربي والأمريكي ممّا أدّى الى تبني قوانين الفيدرالية لمعاقبة خارقي حقوق الأقليات .
ان سرعة سقوط ابن على في تونس و مبارك في مصر لها علاقة عضوية بلاعنفية المقاومتين، وليس صحيحا القول بأنّ حكومتيهما لم تستخدما العنف ضدّ المقاومة. كذلك مجريات الثورة في ليبيا واليمن وسوريا لها أيضا علاقة ترابطية بعدم لاعنفية المقاومة. وليس دقيقا وصف حركات المقاومة هذه بالمدنية اللاعنفية. وبديهي القول انّ أمن دول المنطقة درب منذ نهاية الحرب الباردة وبالأخص تحت وصاية الحرب على الارهاب على مواجهة العنف المدني التنظيمي، اذا احتمالات ارتباك الحكومات في مواجه المقاومة المدنية اللاعنفية أكبر ورودا من انهيارها في وجه المقاومة المدنية العنفية. كان المناضل مارتن لوثر كينج يقول بعد سنوات من عدم جدوى حركته في تبني المقاومة اللاعنفية واستعجال أقرانه للتغيير أنّ مغريات العنف المضاد ضدّ الحكومة من قبل النشطاء المقاومين هي أكبر خطر للمقاومة اللاعنفية، لأنّ الجبروت الذي استغرقت عقودا في بنائه قد يستنزف سنوات لهدمه.
لم يستنزف كتاب الربيع العربي مسألة الحريّة بحثا في أطروحاتهم بقدر ما يرمزون الى انعدامها في تصرفات مؤسسة الدولة. في الحقيقة ان غياب الحريّة في التطبيق السياسي ليس سوى صورة تعكيسية لغيابها في التطبيق الفكري. ان أكثر الموضوعات حضورا في الكتابات الغربية منذ عصر النهضة هو موضوع الحريّة. فليس هناك مجال في الفكر الانساني الا وقد تنوول من منظور الحريّة. واذا كانت الحريّة ليست من مقاصد الشريعة الاسلامية، كما ألمح الى ذلك المفكر السوداني حسن مكي في حديث لنا عن مكانة أطروحة الحريّة في المرجعيات الاسلامية، فذلك لا يقلّل من مركزيتها في تطلعات المجتمعات المعاصرة، بما فيها المجتمعات المسلمة. انّ اضطراد ورود كلمة الحريّة و العدالة في أسامي الأحزاب الاسلاميّة المعاصرة في كثير من الدول، لا يعبر عن آمال الدول الغربية بقدر ما يعكس تطلعات مواطني هذه الدول. وما أفصح المطرب المصري هاني عادل كناطق باسم الشعب حين ترنّم أنّه "في كل شارع في بلادي صوت الحرية بينادي (ينادي)". وأكبر ظنّي هو أنّه لو كان الامام الشاطبي ظهيرا بيننا لأفرد بابا للحريات السياسية في كتاب الموافقات. لأنّه مثل الكثيرين من علماء التراث أمثال الامام مالك، كان يعتمد الاستقراء والعرف في اضفاء المسوح الديني.
هناك ثلاثة كتاب عن الربيع العربي وما نتج عنه من الثورات: إسلاميون، وطنيون، وليبراليون. كل هذه الاتجاهات، فيما يبدو لي يخاطب القارئ عمّا يقوم أو يمثله الآخر، أكثر ممّا يعرّف القارئ عمّا يطرحه هو في مجال الحريات، علمًا بأنّ الأزمة السياسيّة في العالم العربي متجذرة في قصور الدولة عن ادارة التنوع وتفسيح الحريات، ممّا يعني أن البديل يجب أن يكسب الشرعية السياسية بناءًا على معطياته وعروضه العملية في حل هذه المعدلة. وبديهي القول أن الإسلامي لا ينقض الآخر بوجوده ولا العلماني الليبرالي تستلزم الأسلمة بعدمه. ومن سوء الحظ أنّ معنى الوطني أفرغ من أصوله العملية فاصبح موقفا سياسيا مراوغا لا يبت الى مبداثابت بصلة. وبما أنّ الإسلاميين هم المستفيدون الأوائل من الربيع العربي حسب النتائج الانتخابية في تونس، مصر وغيرها قد أطبق شظايا النقاش على حالهم. تطبيقات الحكم الإسلامي في السودان وإيران ومحاولاته في باكستان وأفغانستان ليست مبشّرة في عين المواطن العادي. ومهما تعطى لذلك من تعاليل فإن أزمة مؤسسة الدولة في هذه النماذج لا تختلف في جوهرها عن أزمة مؤسسة الدولة تحت حكم مبارك أو القذافي أم ممن بقي من دونهم. وحسب دراسات الأكاديميين الذين تعرضوا لدراسة نماذج الحكم في ظل الحزب أم الدولة الاسلامية المعاصرة فانّ بعض المشكلة فلسفي. وهي أنّ الديموقراطية في العصر الحديث تتطلب من المجتمع المدني تشخيص الدولة كعقبة وعدوة للحريات. أو بكلام الصحفي والمفكر البريطاني مالكوم موجريدج: "استمرارية حرية الإنسان تفرض الحدّ من سلطة الدولة وتجريدها من مركزيتها وجعل السلطان أقل سلطة في كيان المجتمع." وبأسلمة مؤسسة الدولة تلتبس معارضة الدولة بمعارضة حكم الإسلام وتصبح معاداة مؤسسة الدولة، ومعاداته هي دأب المؤسسات المدنيّة، في فقه محاربة الاسلام، وهذه المعادلة قد تكون صريحة كما في إيران، أو ضمنياً كما في معظم باقي الأمثلة المذكورة من قبل.
هذه النقاط ذات ِشان ووزن في تصورنا لجدليات الربيع العربي. فهناك حوجة إلى مراجعة المطلوب تطبيقاً من حيث الموازنة بين المعتقدات والتطبيقات، وهذا يتطلب منا التفكير النقدي لمعتقداتنا الفكريّة في ضوء المثاليات العملية. فمجريات الثورات تستلزم الموافقة بين مطلب الثورة ومطمع الدولة. في غياب هذه الموافقات تبقى فكرة الأستاذ مالك ابن نبي عن "القابلية للاستعمار" واردة في واقع المنطقة. فالنظر في العلاقة بين الأفكار والتصرفات عبر الحدود والأزمنة ليست أقل شأنًا من التأريح لها، وبدونها ستبقى المنطقة عرضة للغزو العسكري حينا ومضيافا للجيوش الأجنبية المستجار بها حينا آخر.
____ _____ _____
Mbaye Lo [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.