خطة مفاجئة.. إسبانيا تستعد لترحيل المقاول الهارب محمد علي إلى مصر    مشاهد من لقاء رئيس مجلس السيادة القائد العام ورئيس هيئة الأركان    (خطاب العدوان والتكامل الوظيفي للنفي والإثبات)!    من اختار صقور الجديان في الشان... رؤية فنية أم موازنات إدارية؟    المنتخب المدرسي السوداني يخسر من نظيره العاجي وينافس علي المركز الثالث    الاتحاد السوداني يصدر خريطة الموسم الرياضي 2025م – 2026م    البرهان يزور جامعة النيلين ويتفقد مركز الامتحانات بكلية الدراسات الاقتصادية والاجتماعية بالجامعة    وزير الصحة المكلف ووالي الخرطوم يدشنان الدفعة الرابعة لعربات الإسعاف لتغطية    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    كمين في جنوب السودان    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدلية الواقع والفن في أدب جابرييل قارسيا ماركيز - قراءة في مذكراته .. بقلم: عبد المنعم عجب الفيا
نشر في سودانيل يوم 21 - 06 - 2009

بعد طول إنتظار وتلهف من قبل القراء وتحت عنوان " نعيشها لنرويها " صدرت قبل بضع سنوات مذكرات الكاتب الكولومبي الأشهر جابرييل قارسيا ماركيز ، وفور صدروها تلقفها المترجمون ونقلوها الى العديد من لغات العالم ومن بينها العربية حيث يتمتع ماركيز بشعبية عريضة بين المثقفين وعامة القراء .وما أمتع قراءة المذكرات وأحلاها ، بقلم روائي مثل ماركيز ، فهو إلى جانب أنه قاص و" حكاي " لا يشق له غبار ، فانه ذو اسلوب صحفي نادر وسيناريست محترف.
وتكشف هذه المذكرات عن خاصية ذات دلالة ومغزي كبيرين وهي أن قصص وروايات ماكيز هي جزء من حياته وذكرياته وأيام طفولته حيث تجد ان كثيرا من الوقائع والحكايات التي يسردها قد وردت بحذافيرها في رواياته وقصصه. ولا ينسى ماركيز ان ينعش ذاكرتك بين الفينة والاخرى وانت تبحر معه في عوالم سيرة حياته المختلفة ، بانه قد افاد من هذه الواقعة او تلك في كتابة القصة الفلانية او الرواية العلانية ، مما يدل على ان ماركيز على وعي وادراك كامل بدلالة توظيف هذه الذكريات في أعماله السردية. الأمر الذي يفتح باب الاسئلة على مصراعيه من جديد ، عن علاقة النص الأدبي بالواقع وإلى اي مدي يمكن للفنان ان يفيد من تجاربه وذكرياته في صياغة عوالم فنه الروائي والقصصي.
اذكر انه حينما اعلن فوز ماركيز بجائزة نويل في الآداب سنة 1982 اطلق النقاد على اسلوبه السردي ، الواقعية السحرية ، لكونه يجمع بين الواقع والاسطورة في نسيج قصصي ساحر. ولكن يبدو ان ماركيز لم يروقه هذا الوصف ، فعلق على ذلك في حوار صحفي اجرى معه ونشر في مجلة الدوحة في ذلك الوقت ، بقوله :" انني لم اكتب سطرا واحدا لا يستند إلى واقع ، فأول سطر في ( مائة عام من العزلة ) تجربة حدثت لي شخصيا. فعندما كنت طفلا صغيرا قلت لجدي أنني لم أر الثلج أبدا ، فأصطحبني إلى معسكر شركة الموز الأمريكية وأمر بفتح صندوق من الفاكهة المثلجة جعلني أضع يدي فيه ، فانبثقت رواية ،مائة عام من العزلة ، من هذه الصورة " .
وبهذه الصورة التي يبدو انها قد حفرت عميقا في الذاكرة منذ الطفولة الباكرة استهل ماركيز رواية مائة عام من العزلة بهذا المشهد : " تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ، وهو يقف أمام فرقة الاعدام ، عصر ذلك اليوم البعيد الذي أصطحبه فيه والده للتعرف على الثلج لأول مرة ."
لاحظ كيف انبثقت ذكرى التعرف على الثلج من لحظة اطلاق النار وتامل المفارقة البديعة في الجمع بين الضدين ، الثلج والنار ، في نقطة التلاشي : الإعدام ! انها عبقرية الاستهلال التي برع فيها قارسيا ماركيز.
ومن المعروف ان ماركيز يتخذ من قرية وهمية تدعى " ماكندو " مسرحا لاحداث عدد من نصوصه. غير ان ماكندو ليست من نسج الخيال المحض وانما لها خلفيتها في ارض الواقع فهي اسم مزرعة للموز بالقرب من اراكاتاكا مسقط راس ماركيز ومرتع صباه .
يقول في مذكراته ، ان اسم ماكندو كان مكتوبا على باب المزرعة وقد لفت نظره منذ الطفولة في جولاته الاولى مع جده وحين كبر اكتشف وقعه الشعري ثم شيئا فشيئا اعجبه وقعه الموسيقي دون ان يدرك معناه او دلالته . ولكنه عرف فيما بعد ، بمحض الصدفة من موسوعة ان ماكندو اسم لشجرة استوائية ، ثم عرف من الموسوعة البريطانية ان هنالك سلاسة في تنجانيقا تعرف بسلالة آل ماكندو .
و ماكوندو المتخيلة هي وجه من وجوه التعبير الرمزي الفني لعالم قريته ، اتخذه كقناع لصياغة عوالم روايته وقصصه والنفاذ من خلالها لتصوير رؤيته الكونية لبلده وللعالم. وفي شيء من النوستالجيا ، يسترجع ماركيز في مذكراته صورة القرية في ايام طفولته ، فتبدو وكأنها هي ماكندو الموصوفة في رواية (مائة عام من العزلة ) حيث يقول متاملا :
" كنت أتذكرها كما هي مكانا حسنا للعيش ، الجميع فيه يعرفون بعضهم بعضا على ضفة نهر تتدفق مياهه الصافية في مجرى من الحجارة الضخمة المصقولة البيضاء كانها بيض ما قبل التاريخ . كانت جبال سييرا نيفادا في سانتا ماريا تبدو عند الغروب وخاصة في كانون الأول حين ينقضي موسم المطر ويصبح الجو ماسيا كانها تقترب بقممها البيضاء من مزارع الموز على الضفة المقابلة. وكان الهنود الاورهاكويون يهرعون وهم يجرون اكياس الزنجبيل ويمضغون كرات الكوكا يشغلون بها حياتهم .. "
وهذا الوصف يكاد يكون صورة طبق الاصل لماكندو الموصوفة في السطور الاولي من رواية مائة عام من العزلة:" .. كانت ماكوندو في ذلك الوقت قرية صغيرة تتكون من نحو عشرين بيتا من العيدان والقصب ، بنيت على حافة نهر تنساب مياهه الشفافة في مجرى حجارة ملساء بيضاء كبيرة كانها بيض ما قبل التاريخ .كانت الدنيا غضة ، وبعض الاشياء بلا اسماء ، يكتفى في التعرف عليها بالاشارة .وكانت تاتي في مارس من كل عام ، عائلة من الغجر رثة الثياب تنصب خيمتها في طرف القرية وتعرض على الناس مخترعاتها العجيبة ، وسط صخب شديد من زعيق المزامير وقرع الطبول .. "
اما قصة الحب في رواية (حب في زمن الكواليرا) التي جمعت بين عامل التلغراف وعازف الكمان الانيق ، وبين تلك الحسناء الخجول ، فهي في الواقع مستوحاة من العلاقة الغرامية التي جمعت بين والديه.
حيث كان والد ماركيز بالفعل يعمل موظفا للتلغراف وعازفا للكمان في ارتاكاتا حين وقع في غرام والدة ماركيز. وكان كل من والدي ماركيز يحكيان له قصة غرامهما الشيقة وفي كل مرة يضيفان ويحذفان . ويبدو انها كانت قصى شائقة الى الحد الذي جعلت والد ماركيز ينوي وضع كتاب عن تلك الذكريات الغرامية ، ولكنه تخلي عن الفكرة عندما علم برواية ( حب في زمن الكوليرا ) .
ويحكي ماركيز عن ذلك في مذكراته قائلا: " ..بعد ستين عاما سألت أبي حين حاولت ان اسطو على هذه الذكريات لروايتي الخامسة (حب في زمن الكوليرا ) عما اذا كان يوجد في لغة التلغراف الاصطلاحية كلمة محددة لعملية الربط بين مكتب واخر . لم يحتج الى التفكر فاجاب التعشيق . فالاتصال بين مكتب واخر كان يتم من خلال مفتاح موجود على لوحات الطرفيات البرقية . لكني لم أناقش ذلك مع والدي و حين سالوه في مقابلة صحفية قبيل وفاته عما اذا كان بوده لو كتب رواية ، أجاب : نعم ! ولكنه تراجع حين سألته عن كلمة التعشيق فقد اكتشف ان الكتاب الذي كنت اكتبه هو ذاته الذي فكر بكتابته . "
وفي مفارقة تراجيدية يمزج ماركيز بين الحب والموت ، بين الايروس والناتوس ، في رواية( الحب في زمن الكوليرا ) حين يفتتح الرواية بمشهد انتحار المحارب القديم الذي وضع حدا لحياته للتخلص من ذكرياته الأليمة حيث تبدا الرواية هكذا :
" لا مناص : ان رائحة اللوز المر كانت تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية. ذلك ما أدركه الدكتور خوفينال اوربينو منذ دخوله البيت الذي مازال غارقا في الظلام ، فاللاجيء الانتيلي جيرمادي سانت امور ، مشوه الحرب ومصور الاطفال واكثر خصومه في لعبة الشطرنج ، قد تخلص من عذابات الذكرى باستنشاقه ابخرة سيانور الذهب "
هذا المشهد هو في الواقع قصة حقيقية وقعت في القرية وهو احد شهودها حين كان طفلا يافعا يجرى من تحت جده .
ذلك الشخص البلجيكي في الواقع كما يقول ماركيز في مذكراته جندي سابق في الحرب العالمية أصيب في الحرب وبترت ساقه وعاد للتقاعد والعيش في القرية والتكسب بادرة استديو للتصوير الفوتغرافي . وكان ذلك الرجل صديقا لجد ماركيز الذي كان كثيرا ما يصطحب معه الطفل ماركيز الى استديو ذلك الشخص للعب الشطرنج . و كان اللعب يستمر دائما الى وقت متاخر من الليل وطوال هذه الساعات يظل الطفل منتظرا فيصاب بالملل والنعاس حتى صار ينفر من ذلك الرجل العجوز .
حين علم الطفل ماركيز بخبر انتحار الرجل وذهب مع جده لمشاهدة جثته ، خاطب جده بكل عفوية وبراءة : " اذن ان البلجيكي لن يلعب الشطرنج ثانية " . فصارت هذه الجملة مصدرا للضحك والتندر بين أفراد أسرة ماركيز. ويقول ماركيز ان هذا التعليق رغم بساطته قد أعطى الاشارة الأولى على عبقريته الروائية .
وكان الجد قد حمل الطفل ماركيز حملا الى بيت البلجيكي لمشاهدة واقعة الانتحار التي يتذكر تفاصيلها كما انها وقعت بالامس: " هنالك كانت الجثة مغطاة ببطانية على سرير عسكري فردي والعكازان تركهما صاحبهما قريبا منه قبل ان يستلقي ليموت والى جانبه وعلى مقعد صغير السطل الذي بخر فيه السيانيد وورقة كتب عليها بحروف كبيرة مرسومة بالقلم لا تتهموا احدا قتلت نفسي لانني أحمق ."
وبعد سنين طويلة يسترجع هذه التفاصيل في مخيلته عند عودته الى قريته في صحبة امه فيصفها في مذكراته بقوله: " مررنا بالدار التي كان يعيش فيها دون اميلوا المعروف اكثر بالبلجيكي الجندي المحنك في الحرب العالمية الاولى الذي فقد ساقيه في حقل للالغام في النورماندي ونجا ذات احد من آحاد العنصرة من عذاب الذاكرة باستنشاق بخار حمض الذهب . لم اكن قد تجاوزت الست سنوات ومع ذلك اتذكر الهرج والمرج الذي احدثه الخبر في السابعة صباحا كأنه البارحة."
وهكذا كل هذه المشاهد الواقعية لحادثة انتحار ذلك الرجل ، نقلها ماركيز بحذافيرها في مفتتح رواية الحب في زمن الكوليرا. هذا اضافة الى روايات وقصص قصيرة اخرى يقول ماركيز انها انبثقت عن تجارب حقيقية حدثت له وعايشها مثل رواية (ساعة نحس) وقصة ( الاوراق الذابلة ) وغيرها. وكان ماركيز قد ذكر في الحوار الصحفي المشار اليه ، أن رواية ( قصة موت معلن ) قصة حقيقية وقعت أحداثها سنة 1951م وأنه لم يكتبها إلا في سنة 1981م وأن بعض شخصياتها هم أقربائه وأصدقائه .
كذلك تضمنت المذكرات العديد من الوقائع التاريخية والحوادث السياسية والاجتماعية الاخرى التي نجدها معالجة فنيا في نصوص ماركيز الابداعية مثل حرب الالف يوم ، ومذبحة مزارع الموز ، وقصة صعود وانهيار شركة الموز المتحدة الضخمة (ينايتد فروت كومبني ) والانقلابات العسكرية وحكم الجنرالات والحروب بين دول امريكيا اللاتينية وغيرها.
ان هذا التشابك بين الواقع وعالم الفن المتخيل على النحو الذي بسطه ماركيز في مذكراته يعيد من جديد طرح مكانيزم العملية الابداعية ويجعلنا نعيد النظر في مقولات تم التعامل معها في الماضي كمسلمات نهائية مثل مقولة (موت المؤلف ) مثلا . فمع التسليم باستقلالية النص الادبي وبانه ليس سجلا لسيرة الكاتب ولا ينبغي له أن يكون .الا ان النص الأدبي لدى التحليل الأخير هو محصلة لتفاعلات الكاتب الذاتية في جدله مع المحيط التاريخي والاجتماعي الذي يتحرك ويكتب فيه فتجارب الكاتب وذكرياته وعلاقته الاجتماعية ونزعاته الفكرية والفنية ، تشكل المادة الخام التي يستمد منها الكاتب رؤاه وعوالمه القصصية والروائية . وذلك بخلاف ما روجت له بعض نظريات ما بعد الحداثة في مسعاها الى عزل النص الأدبي عن كاتبه إلى حد التضحية بالكاتب والإعلان عن ( موت المؤلف ) إمعانا في نفي الغائية والقصدية وكل ما له علاقة بمكتسبات الكاتب ومقدراته الفردية كما ذهب إلى ذلك الأديب والناقد الفرنسي رولان بارت .
وكان رولان بارت قد اتخذ مما ، عرف في الخمسينات والستينات في أوربا (بالرواية الجديدة ) نموذجا لتجسيد مقولة(موت المؤلف) حيث يجرد السرد الروائي من تأثير العنصر الإنساني وتصور الأشياء والأحداث كأنها تحدث بمعزل عن إرادة الفرد. حتى الشخصيات ينظر إليها كأشياء وأدوات وأفعال وليست كذوات فاعلة .
ولكن آلن روب رائد ما عرف بالرواية الجديدة ، ينكر ما قيل عن حكاية موت المؤلف في رواياته ، ويقول في الحوار الذي اجرته معه مجلة (الكرمل ) العدد 30/1988 أن الأمر لا يعدو أن يكون " خدعة سببها رولان بارت وشارك هو نفسه فيها ." ويضيف : " أنني لم أكتب يوما أي شئ إلا عن نفسي " حتى أشهر رواياته ( الغيرة ) التي اتخذت كمثال على مقولة موت المؤلف يقول عنها : " البيت الموصوف بدقة هو نفسه إلى حد ما ، ذلك الذي أقمت فيه في فورد دوفرانس ، والرواية كلها تجربة حقيقية عشتها . ولكنى كنت الجار لا الزوج ،.. فالعناصر الواقعية تضاف إلى الأخرى المتخيلة وتتحول إلى شئ مختلف تماما " .
ويكاد يجمع كبار كتاب القصصص والروايات ان ذكرياتهم هي الرصيد والمعين الذي يصدرون عنه ويصيغون منه ، عوالم فنهم . ويعدون مرحلة الطفولة المكون الاعظم لذلك الرصيد والمعين . فالطيب صالح مثلا يعلق أهمية خاصة على مرحلة الطفولة في صياغة عوالمه الإبداعية إلى حد انه يقول : " .. أعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه ، والإبداع نفسه ربما فيه البحث عن هذه الطفولة ، والأدب برمته بحث عن فردوس ضائع .. كان عالم الطفولة بالنسبة إلى فردوسا ، ااا " .
ففي رواية ، عرس الزين " الشخصيات هي أهلي كما عرفتهم إلى حد كبير . بيد أن في هذا العمل طبعا عنصر الفن المتعمد ، أي الدفع بالشخصية إلى أقصي مدى ممكن ، أقصي حدود تحملها " .
ونحن نرى ان عبارة : الفن المتعمد ، هنا ، تلخص العملية الابداعية كلها حيث يعمد الفنان الى اعادة انتاج وتشكيل الوقائع والاحداث لتكون المحصلة مخلوقا جديدا وفق رؤيته الفنية .ويفصح الطيب صالح اكثر عن سر ذلك التخلق الفني بقوله : " تجدني دائما أقول أنني أعتمد على إنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهما .. هذا يلائمني تماما .. بمعني آخر تكفيني جملة سمعتها عرضا في الشارع لاستوحى منها جملة واحدة أسمعها قد تثير في نفسي أصداء لا حدود لها " .
ويؤكد الروائي صنع الله ابراهيم على ذلك في الحوار الذي اجرته معه الدوحة ونشر بعدد ديسمبر 2008 ويقول : " النقطة المهمة في الموضوع انني اعتبر ان اي عمل يقوم به كاتب او فنان في اي مجال من الفنون به عنصر مهم جدا من السيرة الذاتية سواء كان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر فاحساس الفنان مثلا بالون معينة مرتبط بالطفولة واحساس الموسيقى بنغمة معينة مرتبط بالطفولة والمواقف التي يلجا لها الكاتب في اعماله اذا كانت مواقف اصلية غير مفتعلة تكون نتاج تجربة اصلية اما حدثت له او عايشها. "
غير انه يجب ان نكون حذرين حتى لا نقع في الخلط بين ذكريات الكاتب وهي موجود كمادة خام على ارض الواقع وبين وجودها وهي ممثلة ومعاد انتاجها على المستوى الفني في جسد النص الروائي. بلا شك ، ان القاريء المتمرس ، العالم بطبيعة هذه العلاقة الجدلية لا يقع في مثل هذا الخلط .فهو يتعامل مع النص الروائي كعالم متخيل مستقل بذاته بغض النظر عن العناصر الواقعية التي ساهمت في تشكيله.
ان معرفة السياق التاريخي والاجتماعي والذاتي يعيننا بلا شك على اضاءة وتذوق اعمق للنص ولكن لا ينبغي ان تكون هذه السياقات التي تشكل الاطار الخارجي او الزمان المرجعي بديلا للنص. فالاصل ان نتذوف النص ونتفاعل معه كفضاء ابداعي له استقلاليته من غير ان يقود ذلك بالضرورة الى الحكم بموت المؤلف او إهدار الزمان المرجعي لكتابة النص.
مصادر :
نعيشها لنرويها – جابريل قارسيا ماركيز – ترجمة رفعت عطفة – ورد للطباعة والنشر – سورية – طبعة اولى 2003
حوار جابرييل قارسيا ماركيز – مجلة الدوحة - عدد نوفمبر 1982.
مائة عام من العزلة – جابرييل قارسيا ماركيز- دار العودة - بيروت .
الحب في زمن الكوليرا – جابرييل قارسيا ماركيز- ترجمة صالح علماني – دار المدى – طبعة اولى 1998
حوار مع آلن روب غرييه – مجلة الكرمل – عدد 30 /1988.
الطيب صالح – عبقري الرواية العربية – دار العودة بيروت- الطبعة الثالثة 1981 .
على الدرب .. مع الطيب صالح – طلحة جبريل – مركز الدراسات السودانية 1997


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.