الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جدلية الواقع والفن في أدب جابرييل قارسيا ماركيز - قراءة في مذكراته .. بقلم: عبد المنعم عجب الفيا
نشر في سودانيل يوم 21 - 06 - 2009

بعد طول إنتظار وتلهف من قبل القراء وتحت عنوان " نعيشها لنرويها " صدرت قبل بضع سنوات مذكرات الكاتب الكولومبي الأشهر جابرييل قارسيا ماركيز ، وفور صدروها تلقفها المترجمون ونقلوها الى العديد من لغات العالم ومن بينها العربية حيث يتمتع ماركيز بشعبية عريضة بين المثقفين وعامة القراء .وما أمتع قراءة المذكرات وأحلاها ، بقلم روائي مثل ماركيز ، فهو إلى جانب أنه قاص و" حكاي " لا يشق له غبار ، فانه ذو اسلوب صحفي نادر وسيناريست محترف.
وتكشف هذه المذكرات عن خاصية ذات دلالة ومغزي كبيرين وهي أن قصص وروايات ماكيز هي جزء من حياته وذكرياته وأيام طفولته حيث تجد ان كثيرا من الوقائع والحكايات التي يسردها قد وردت بحذافيرها في رواياته وقصصه. ولا ينسى ماركيز ان ينعش ذاكرتك بين الفينة والاخرى وانت تبحر معه في عوالم سيرة حياته المختلفة ، بانه قد افاد من هذه الواقعة او تلك في كتابة القصة الفلانية او الرواية العلانية ، مما يدل على ان ماركيز على وعي وادراك كامل بدلالة توظيف هذه الذكريات في أعماله السردية. الأمر الذي يفتح باب الاسئلة على مصراعيه من جديد ، عن علاقة النص الأدبي بالواقع وإلى اي مدي يمكن للفنان ان يفيد من تجاربه وذكرياته في صياغة عوالم فنه الروائي والقصصي.
اذكر انه حينما اعلن فوز ماركيز بجائزة نويل في الآداب سنة 1982 اطلق النقاد على اسلوبه السردي ، الواقعية السحرية ، لكونه يجمع بين الواقع والاسطورة في نسيج قصصي ساحر. ولكن يبدو ان ماركيز لم يروقه هذا الوصف ، فعلق على ذلك في حوار صحفي اجرى معه ونشر في مجلة الدوحة في ذلك الوقت ، بقوله :" انني لم اكتب سطرا واحدا لا يستند إلى واقع ، فأول سطر في ( مائة عام من العزلة ) تجربة حدثت لي شخصيا. فعندما كنت طفلا صغيرا قلت لجدي أنني لم أر الثلج أبدا ، فأصطحبني إلى معسكر شركة الموز الأمريكية وأمر بفتح صندوق من الفاكهة المثلجة جعلني أضع يدي فيه ، فانبثقت رواية ،مائة عام من العزلة ، من هذه الصورة " .
وبهذه الصورة التي يبدو انها قد حفرت عميقا في الذاكرة منذ الطفولة الباكرة استهل ماركيز رواية مائة عام من العزلة بهذا المشهد : " تذكر الكولونيل اوريليانو بوينديا ، وهو يقف أمام فرقة الاعدام ، عصر ذلك اليوم البعيد الذي أصطحبه فيه والده للتعرف على الثلج لأول مرة ."
لاحظ كيف انبثقت ذكرى التعرف على الثلج من لحظة اطلاق النار وتامل المفارقة البديعة في الجمع بين الضدين ، الثلج والنار ، في نقطة التلاشي : الإعدام ! انها عبقرية الاستهلال التي برع فيها قارسيا ماركيز.
ومن المعروف ان ماركيز يتخذ من قرية وهمية تدعى " ماكندو " مسرحا لاحداث عدد من نصوصه. غير ان ماكندو ليست من نسج الخيال المحض وانما لها خلفيتها في ارض الواقع فهي اسم مزرعة للموز بالقرب من اراكاتاكا مسقط راس ماركيز ومرتع صباه .
يقول في مذكراته ، ان اسم ماكندو كان مكتوبا على باب المزرعة وقد لفت نظره منذ الطفولة في جولاته الاولى مع جده وحين كبر اكتشف وقعه الشعري ثم شيئا فشيئا اعجبه وقعه الموسيقي دون ان يدرك معناه او دلالته . ولكنه عرف فيما بعد ، بمحض الصدفة من موسوعة ان ماكندو اسم لشجرة استوائية ، ثم عرف من الموسوعة البريطانية ان هنالك سلاسة في تنجانيقا تعرف بسلالة آل ماكندو .
و ماكوندو المتخيلة هي وجه من وجوه التعبير الرمزي الفني لعالم قريته ، اتخذه كقناع لصياغة عوالم روايته وقصصه والنفاذ من خلالها لتصوير رؤيته الكونية لبلده وللعالم. وفي شيء من النوستالجيا ، يسترجع ماركيز في مذكراته صورة القرية في ايام طفولته ، فتبدو وكأنها هي ماكندو الموصوفة في رواية (مائة عام من العزلة ) حيث يقول متاملا :
" كنت أتذكرها كما هي مكانا حسنا للعيش ، الجميع فيه يعرفون بعضهم بعضا على ضفة نهر تتدفق مياهه الصافية في مجرى من الحجارة الضخمة المصقولة البيضاء كانها بيض ما قبل التاريخ . كانت جبال سييرا نيفادا في سانتا ماريا تبدو عند الغروب وخاصة في كانون الأول حين ينقضي موسم المطر ويصبح الجو ماسيا كانها تقترب بقممها البيضاء من مزارع الموز على الضفة المقابلة. وكان الهنود الاورهاكويون يهرعون وهم يجرون اكياس الزنجبيل ويمضغون كرات الكوكا يشغلون بها حياتهم .. "
وهذا الوصف يكاد يكون صورة طبق الاصل لماكندو الموصوفة في السطور الاولي من رواية مائة عام من العزلة:" .. كانت ماكوندو في ذلك الوقت قرية صغيرة تتكون من نحو عشرين بيتا من العيدان والقصب ، بنيت على حافة نهر تنساب مياهه الشفافة في مجرى حجارة ملساء بيضاء كبيرة كانها بيض ما قبل التاريخ .كانت الدنيا غضة ، وبعض الاشياء بلا اسماء ، يكتفى في التعرف عليها بالاشارة .وكانت تاتي في مارس من كل عام ، عائلة من الغجر رثة الثياب تنصب خيمتها في طرف القرية وتعرض على الناس مخترعاتها العجيبة ، وسط صخب شديد من زعيق المزامير وقرع الطبول .. "
اما قصة الحب في رواية (حب في زمن الكواليرا) التي جمعت بين عامل التلغراف وعازف الكمان الانيق ، وبين تلك الحسناء الخجول ، فهي في الواقع مستوحاة من العلاقة الغرامية التي جمعت بين والديه.
حيث كان والد ماركيز بالفعل يعمل موظفا للتلغراف وعازفا للكمان في ارتاكاتا حين وقع في غرام والدة ماركيز. وكان كل من والدي ماركيز يحكيان له قصة غرامهما الشيقة وفي كل مرة يضيفان ويحذفان . ويبدو انها كانت قصى شائقة الى الحد الذي جعلت والد ماركيز ينوي وضع كتاب عن تلك الذكريات الغرامية ، ولكنه تخلي عن الفكرة عندما علم برواية ( حب في زمن الكوليرا ) .
ويحكي ماركيز عن ذلك في مذكراته قائلا: " ..بعد ستين عاما سألت أبي حين حاولت ان اسطو على هذه الذكريات لروايتي الخامسة (حب في زمن الكوليرا ) عما اذا كان يوجد في لغة التلغراف الاصطلاحية كلمة محددة لعملية الربط بين مكتب واخر . لم يحتج الى التفكر فاجاب التعشيق . فالاتصال بين مكتب واخر كان يتم من خلال مفتاح موجود على لوحات الطرفيات البرقية . لكني لم أناقش ذلك مع والدي و حين سالوه في مقابلة صحفية قبيل وفاته عما اذا كان بوده لو كتب رواية ، أجاب : نعم ! ولكنه تراجع حين سألته عن كلمة التعشيق فقد اكتشف ان الكتاب الذي كنت اكتبه هو ذاته الذي فكر بكتابته . "
وفي مفارقة تراجيدية يمزج ماركيز بين الحب والموت ، بين الايروس والناتوس ، في رواية( الحب في زمن الكوليرا ) حين يفتتح الرواية بمشهد انتحار المحارب القديم الذي وضع حدا لحياته للتخلص من ذكرياته الأليمة حيث تبدا الرواية هكذا :
" لا مناص : ان رائحة اللوز المر كانت تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية. ذلك ما أدركه الدكتور خوفينال اوربينو منذ دخوله البيت الذي مازال غارقا في الظلام ، فاللاجيء الانتيلي جيرمادي سانت امور ، مشوه الحرب ومصور الاطفال واكثر خصومه في لعبة الشطرنج ، قد تخلص من عذابات الذكرى باستنشاقه ابخرة سيانور الذهب "
هذا المشهد هو في الواقع قصة حقيقية وقعت في القرية وهو احد شهودها حين كان طفلا يافعا يجرى من تحت جده .
ذلك الشخص البلجيكي في الواقع كما يقول ماركيز في مذكراته جندي سابق في الحرب العالمية أصيب في الحرب وبترت ساقه وعاد للتقاعد والعيش في القرية والتكسب بادرة استديو للتصوير الفوتغرافي . وكان ذلك الرجل صديقا لجد ماركيز الذي كان كثيرا ما يصطحب معه الطفل ماركيز الى استديو ذلك الشخص للعب الشطرنج . و كان اللعب يستمر دائما الى وقت متاخر من الليل وطوال هذه الساعات يظل الطفل منتظرا فيصاب بالملل والنعاس حتى صار ينفر من ذلك الرجل العجوز .
حين علم الطفل ماركيز بخبر انتحار الرجل وذهب مع جده لمشاهدة جثته ، خاطب جده بكل عفوية وبراءة : " اذن ان البلجيكي لن يلعب الشطرنج ثانية " . فصارت هذه الجملة مصدرا للضحك والتندر بين أفراد أسرة ماركيز. ويقول ماركيز ان هذا التعليق رغم بساطته قد أعطى الاشارة الأولى على عبقريته الروائية .
وكان الجد قد حمل الطفل ماركيز حملا الى بيت البلجيكي لمشاهدة واقعة الانتحار التي يتذكر تفاصيلها كما انها وقعت بالامس: " هنالك كانت الجثة مغطاة ببطانية على سرير عسكري فردي والعكازان تركهما صاحبهما قريبا منه قبل ان يستلقي ليموت والى جانبه وعلى مقعد صغير السطل الذي بخر فيه السيانيد وورقة كتب عليها بحروف كبيرة مرسومة بالقلم لا تتهموا احدا قتلت نفسي لانني أحمق ."
وبعد سنين طويلة يسترجع هذه التفاصيل في مخيلته عند عودته الى قريته في صحبة امه فيصفها في مذكراته بقوله: " مررنا بالدار التي كان يعيش فيها دون اميلوا المعروف اكثر بالبلجيكي الجندي المحنك في الحرب العالمية الاولى الذي فقد ساقيه في حقل للالغام في النورماندي ونجا ذات احد من آحاد العنصرة من عذاب الذاكرة باستنشاق بخار حمض الذهب . لم اكن قد تجاوزت الست سنوات ومع ذلك اتذكر الهرج والمرج الذي احدثه الخبر في السابعة صباحا كأنه البارحة."
وهكذا كل هذه المشاهد الواقعية لحادثة انتحار ذلك الرجل ، نقلها ماركيز بحذافيرها في مفتتح رواية الحب في زمن الكوليرا. هذا اضافة الى روايات وقصص قصيرة اخرى يقول ماركيز انها انبثقت عن تجارب حقيقية حدثت له وعايشها مثل رواية (ساعة نحس) وقصة ( الاوراق الذابلة ) وغيرها. وكان ماركيز قد ذكر في الحوار الصحفي المشار اليه ، أن رواية ( قصة موت معلن ) قصة حقيقية وقعت أحداثها سنة 1951م وأنه لم يكتبها إلا في سنة 1981م وأن بعض شخصياتها هم أقربائه وأصدقائه .
كذلك تضمنت المذكرات العديد من الوقائع التاريخية والحوادث السياسية والاجتماعية الاخرى التي نجدها معالجة فنيا في نصوص ماركيز الابداعية مثل حرب الالف يوم ، ومذبحة مزارع الموز ، وقصة صعود وانهيار شركة الموز المتحدة الضخمة (ينايتد فروت كومبني ) والانقلابات العسكرية وحكم الجنرالات والحروب بين دول امريكيا اللاتينية وغيرها.
ان هذا التشابك بين الواقع وعالم الفن المتخيل على النحو الذي بسطه ماركيز في مذكراته يعيد من جديد طرح مكانيزم العملية الابداعية ويجعلنا نعيد النظر في مقولات تم التعامل معها في الماضي كمسلمات نهائية مثل مقولة (موت المؤلف ) مثلا . فمع التسليم باستقلالية النص الادبي وبانه ليس سجلا لسيرة الكاتب ولا ينبغي له أن يكون .الا ان النص الأدبي لدى التحليل الأخير هو محصلة لتفاعلات الكاتب الذاتية في جدله مع المحيط التاريخي والاجتماعي الذي يتحرك ويكتب فيه فتجارب الكاتب وذكرياته وعلاقته الاجتماعية ونزعاته الفكرية والفنية ، تشكل المادة الخام التي يستمد منها الكاتب رؤاه وعوالمه القصصية والروائية . وذلك بخلاف ما روجت له بعض نظريات ما بعد الحداثة في مسعاها الى عزل النص الأدبي عن كاتبه إلى حد التضحية بالكاتب والإعلان عن ( موت المؤلف ) إمعانا في نفي الغائية والقصدية وكل ما له علاقة بمكتسبات الكاتب ومقدراته الفردية كما ذهب إلى ذلك الأديب والناقد الفرنسي رولان بارت .
وكان رولان بارت قد اتخذ مما ، عرف في الخمسينات والستينات في أوربا (بالرواية الجديدة ) نموذجا لتجسيد مقولة(موت المؤلف) حيث يجرد السرد الروائي من تأثير العنصر الإنساني وتصور الأشياء والأحداث كأنها تحدث بمعزل عن إرادة الفرد. حتى الشخصيات ينظر إليها كأشياء وأدوات وأفعال وليست كذوات فاعلة .
ولكن آلن روب رائد ما عرف بالرواية الجديدة ، ينكر ما قيل عن حكاية موت المؤلف في رواياته ، ويقول في الحوار الذي اجرته معه مجلة (الكرمل ) العدد 30/1988 أن الأمر لا يعدو أن يكون " خدعة سببها رولان بارت وشارك هو نفسه فيها ." ويضيف : " أنني لم أكتب يوما أي شئ إلا عن نفسي " حتى أشهر رواياته ( الغيرة ) التي اتخذت كمثال على مقولة موت المؤلف يقول عنها : " البيت الموصوف بدقة هو نفسه إلى حد ما ، ذلك الذي أقمت فيه في فورد دوفرانس ، والرواية كلها تجربة حقيقية عشتها . ولكنى كنت الجار لا الزوج ،.. فالعناصر الواقعية تضاف إلى الأخرى المتخيلة وتتحول إلى شئ مختلف تماما " .
ويكاد يجمع كبار كتاب القصصص والروايات ان ذكرياتهم هي الرصيد والمعين الذي يصدرون عنه ويصيغون منه ، عوالم فنهم . ويعدون مرحلة الطفولة المكون الاعظم لذلك الرصيد والمعين . فالطيب صالح مثلا يعلق أهمية خاصة على مرحلة الطفولة في صياغة عوالمه الإبداعية إلى حد انه يقول : " .. أعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه ، والإبداع نفسه ربما فيه البحث عن هذه الطفولة ، والأدب برمته بحث عن فردوس ضائع .. كان عالم الطفولة بالنسبة إلى فردوسا ، ااا " .
ففي رواية ، عرس الزين " الشخصيات هي أهلي كما عرفتهم إلى حد كبير . بيد أن في هذا العمل طبعا عنصر الفن المتعمد ، أي الدفع بالشخصية إلى أقصي مدى ممكن ، أقصي حدود تحملها " .
ونحن نرى ان عبارة : الفن المتعمد ، هنا ، تلخص العملية الابداعية كلها حيث يعمد الفنان الى اعادة انتاج وتشكيل الوقائع والاحداث لتكون المحصلة مخلوقا جديدا وفق رؤيته الفنية .ويفصح الطيب صالح اكثر عن سر ذلك التخلق الفني بقوله : " تجدني دائما أقول أنني أعتمد على إنصاف الحقائق والأحداث التي يكون جزء منها صحيحا والآخر مبهما .. هذا يلائمني تماما .. بمعني آخر تكفيني جملة سمعتها عرضا في الشارع لاستوحى منها جملة واحدة أسمعها قد تثير في نفسي أصداء لا حدود لها " .
ويؤكد الروائي صنع الله ابراهيم على ذلك في الحوار الذي اجرته معه الدوحة ونشر بعدد ديسمبر 2008 ويقول : " النقطة المهمة في الموضوع انني اعتبر ان اي عمل يقوم به كاتب او فنان في اي مجال من الفنون به عنصر مهم جدا من السيرة الذاتية سواء كان ذلك بشكل مباشر او غير مباشر فاحساس الفنان مثلا بالون معينة مرتبط بالطفولة واحساس الموسيقى بنغمة معينة مرتبط بالطفولة والمواقف التي يلجا لها الكاتب في اعماله اذا كانت مواقف اصلية غير مفتعلة تكون نتاج تجربة اصلية اما حدثت له او عايشها. "
غير انه يجب ان نكون حذرين حتى لا نقع في الخلط بين ذكريات الكاتب وهي موجود كمادة خام على ارض الواقع وبين وجودها وهي ممثلة ومعاد انتاجها على المستوى الفني في جسد النص الروائي. بلا شك ، ان القاريء المتمرس ، العالم بطبيعة هذه العلاقة الجدلية لا يقع في مثل هذا الخلط .فهو يتعامل مع النص الروائي كعالم متخيل مستقل بذاته بغض النظر عن العناصر الواقعية التي ساهمت في تشكيله.
ان معرفة السياق التاريخي والاجتماعي والذاتي يعيننا بلا شك على اضاءة وتذوق اعمق للنص ولكن لا ينبغي ان تكون هذه السياقات التي تشكل الاطار الخارجي او الزمان المرجعي بديلا للنص. فالاصل ان نتذوف النص ونتفاعل معه كفضاء ابداعي له استقلاليته من غير ان يقود ذلك بالضرورة الى الحكم بموت المؤلف او إهدار الزمان المرجعي لكتابة النص.
مصادر :
نعيشها لنرويها – جابريل قارسيا ماركيز – ترجمة رفعت عطفة – ورد للطباعة والنشر – سورية – طبعة اولى 2003
حوار جابرييل قارسيا ماركيز – مجلة الدوحة - عدد نوفمبر 1982.
مائة عام من العزلة – جابرييل قارسيا ماركيز- دار العودة - بيروت .
الحب في زمن الكوليرا – جابرييل قارسيا ماركيز- ترجمة صالح علماني – دار المدى – طبعة اولى 1998
حوار مع آلن روب غرييه – مجلة الكرمل – عدد 30 /1988.
الطيب صالح – عبقري الرواية العربية – دار العودة بيروت- الطبعة الثالثة 1981 .
على الدرب .. مع الطيب صالح – طلحة جبريل – مركز الدراسات السودانية 1997


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.