لمدة تقارب الثماني سنوات، وحتى قبيل إنفجار إنتفاضة أبريل المجيدة، كان تنظيم الإخوان المسلمين بقيادة د. حسن الترابي متحالفاً مع نظام مايو بعد أن تشبث بعرض المصالحة الوطنية الذي قدمه لمعارضيه أواخر السبعينات من القرن الماضي. ورغم صعوبة هذا التحالف وما لازمه من شدٍّ وجذب، نجح الإخوان في تحقيق سقفٍ عالٍ من المكاسب على جبهات عدة، أهمها: بناء تنظيمهم عبر استغلال حرية الحركة التي أتيحت لهم، اكتساب كوادرهم خبرات سياسية وإدارية، بناء قاعدة إقتصادية قوية واختراق أجهزة الجيش والأمن، وهذا المكسب الأخير هو ما استُعمِل لاحقاً للغدر بديموقراطية ما بعد الإنتفاضة والإنقضاض عليها ليلة الثلاثين من يونيو 1989. طوال فترة المصالحة، شكّل الإخوان مصدات لنظام مايو أمام مختلف أنواع المقاومة الشعبية وتحديداً بمحاولاتهم تخريب الإحتجاجات النقابية والطلابية، وبلغ تأييدهم لنظام مايو أقصى مدىً له بعد إعلانه قوانين سبتمبر حيث بايعوه إماماً ووصفوه ب "مجدد المائة"، وكانوا جزءً أساسياً من ماكينة التنكيل بالشعب السوداني عبر المشاركة في محاكم الطوارئ وأجهزة سلطة مايو المختلفة وتنظيمها الأوحد، وذلك قبل أن يلجأ نظام مايو، مع تنامي المقاومة الشعبية في مواجهة الأزمة الإقتصادية والضائقة المعيشية والإستبداد السياسي وتقييد الحريات، لأسلوبه المعروف ويقلب ظهر المجن لحلفائه الإخوان ويسوقهم للمعتقلات سوق الشياه في بداية مارس 1985، غير أن الوقت كان قد فات على نظام مايو لإجهاض الإنتفاضة التي انفجرت في مارس/أبريل من ذات العام، كما فات الوقت على الإخوان للمشاركة في تفجيرها أو في قيادتها. لكنّ المفارقة العبثية المؤلمة حدّ الفجيعة هي أن الإخوان ومَن انضم إليهم مِن بقايا مايو وسدنتها كانوا هم أصحاب الحصاد الأوفر في فترة ما بعد الإنتفاضة. الدارس لتاريخ الثورات التي وقعت في مختلف أنحاء العالم يجد أن هناك قاعدة مشتركة تكاد تنطبق عليها جميعاً، وهي أن الثورة يقوم بها أحرارٌ شجعان بينما يقطف ثمارها من لم يكن لهم فيها مساهمة تذكر. هذا بالضبط ما حدث في السودان بعد السادس من أبريل 1985، فقد تمكن الإخوان استناداً على المكاسب المختلفة التي حقوقها خلال فترة المصالحة من السيطرة المباشرة وغير المباشرة على هياكل السلطة الإنتقالية وتوجيه سياساتها لتنفيذ أجندتهم وخدمة مصالحهم، ساعدهم على ذلك فشل الشجعان الذين قادوا الإنتفاضة في توحيد طاقاتهم وتماسكها وفشلهم في استخدام شرعيتهم الثورية لتحويل شعارات جماهير الإنتفاضة إلى واقع. في الرابع من أبريل 1985 تم ترحيلنا، ضمن مجموعة من قادة النقابات والطلاب، من سجن دبك إلى سجن كوبر العمومي تمهيداً لتقديمنا للمحاكمة، حيث أُودِعنا في القسم الذي كان يوجد فيه ما يقارب الثلاثين من قيادات تنظيم الإخوان. بحلول صباح السادس من أبريل، وفي الوقت الذي كانت فيه الإذاعة تبث موسيقا المارشات العسكرية قبل بيان إنحياز الجيش، كانت حشود الجماهير الثائرة تقتحم السجن العتيد وما هي إلاّ لحظات والبوابة الحديدية التي تفصلنا عن الحرية تتهاوى تحت ضربات الثوار. كان مشهداً لا يماثله في التاريخ إلاّ سقوط الباستيل بأيدي الثوار الفرنسيين، كان مشهداً مهيباً تعجز الكلمات عن وصفه .. مشهداً لم نجد لإستيعابه غير الدموع والهتاف بحياة شعبنا وعظمته. لكنّ الحدث الذي لا يزال عالقاً بذهني طوال هذه السنوات هو إرتفاع صوت أحد قيادات الإخوان المعتقلين معنا، في تلك اللحظات التاريخية، مُصدِراً تعليماته لبقية زملائه بضرورة الإستعداد للدفاع عن أنفسهم مُقترِحاً عليهم دخول الزنازين وإغلاقها تحسباً من إعتداء الجماهير عليهم!!! .. هذا حدثٌ لا يحتاج لتعليق، ومعظم الشهود عليه أحياءٌ يرزقون. كان من المؤمل أن تكون إنتفاضة أبريل المجيدة مفتاحاً لنهوض وطني ديموقراطي، لكن يبدو أنها اصطدمت بالسؤال الإشكالي الذي طرحه سارتر ذات يوم عن "ما الذي يمكن للديمقراطيين أن يفعلوه بأعداء الديمقراطية؟" ولمّا لم يجد إجابة من أحد، أجاب هو نفسه كعادته، قائلاً: "إذا قتل الديمقراطيون أعداءهم فهم غير ديمقراطيين على الإطلاق، وإذا سمحوا لهم بالبقاء فإنهم يعرضون ديمقراطيتهم للخطر وربما للإبادة" .. بالطبع ما كان لأحدٍ أن يدعو لقتل أعداء الديموقراطية، لكن كان من الممكن الحؤول دون تحقيق الشق الثاني من إجابة سارتر لولا التسامح المفرط الذي لم يأخذ الحذر في الإعتبار. Omer Eldigair [[email protected]]