عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    اهلي جدة الاهلي السعودي الأهلي    أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    التلفزيون الجزائري: الإمارات دولة مصطنعة حولت نفسها الى مصنع للشر والفتنة    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين مقالين: استلاب جيل (2) ... بقلم: الخاتم محمد المهدي
نشر في سودانيل يوم 22 - 06 - 2009


وَإِنَّما نَحنُ في جيلٍ سَواسِيَةٍ
شَرٌّ عَلى الحُرِّ مِن سُقمٍ عَلى بَدَنِ
. أبو الطيب المتنبي
تذكرة:
في الجزء الأول من هذا المقال نوهنا إلى ما كتبته نادية عثمان مختار، وما سطره طلحة جبريل، ضمن آخرين. وأشرنا إلى ما اسميناه حالة "الاستلاب" التي يعاني منها هذا الجيل. وانطلقنا من تعليقنا على ثلة من الكتابات احتفت بالرئيس السبق جعفر نميري، المتوفي قبل اسابيع، وعبرت عن اشواق نعيناها على هذه الفئة العمرية. وقلنا إن مصطلح الاستلاب يعبر في تقديرنا عن هذه الحالة المتبدية من الكتابات المشار إليها.
إضاءة
فالجيل هو مرحلة التعاقب الطبيعية من أب إلى ابن، ويعرّف تقليديا على أنه "متوسط الفترة الزمنية بين ولادة الآباء وولادة أبنائهم." وهذا هو ما يعرف بالجيل الأُسري- Familial ، نسبة إلى أسرة، تفرقة له عن الجيل الثقافي Cultural، ويقصد به مزيج أخلاط من الناس وحدت بينهم حادثة أو حوادث أو أنماط تأريخية بعينها، شكلت السمة الفارقة في شبابهم. ويقول تعريف موقع ويكيبيديا إن الأجيال الثقافية في القرن العشرين اقصر من نظيرتها الأسرية.
أما الجيل لغة فهو الصنف أو الضرب من الناس. ويشير بروفيسور أحمد شفيق الخطيب، أستاذ علم اللغة بجامعة الأزهر، في "اجتهادات لغوية" إلى أن:
(... من معاني (الجيل) الأمة. و(الجيل) : الجنس أو الصنف من الناس : فالترك جيل ، والروم جيل. و(الجيل) القرن من الزمن. و(الجيل) ثلث القرن يتعايش فيه الناس.)
وعلى تشعب المشتغلين باللغى في تعريفهم للمقصود بالجيل، إلا أنه يتفقون على شرط المكان دون الزمان في تخصيص الجماعة دون عموم الأمة والناس بأنها “جيل". ويزيد النابلسي توضيحاً:
(... أما د. أحمد مختار عمر فيذكر أن كلمة جيل تطلق على الجماعة من الناس يختلف مكانها. أما إطلاقها على الجماعة من الناس يختلف زمانها فلم يرد في أي معجم قديم. ويضيف أن أول معجم يسجل هذا المعنى هو تاج العروس للزبيدي الذي توفي عام 1205. ثم جاءت المعاجم الحديثة فسجلت هذا المعنى ، مثل المحيط للبستاني ، وأقرب الموارد للشرتوني ، و المعجم الوسيط. ويمضي د. عمر قائلا إنه على تفسيرها بالقرن يكون الخلاف في تحديد مدتها الزمنية كالخلاف في تحديد المدة الزمنية لكلمة قرن.)
موت الجماعة عِرِس...
وَإِنَّما نَحنُ في جيلٍ سَواسِيَةٍ ----- شرٌّ عَلى الحُرِّ مِن سُقمٍ عَلى بَدَنِ
ويشرح اليازجي أن الجيل هو الصنف من الناس . وسواسية بمعنى متساوين قيل وهو خاص بالذم ولا يقال في المدح أي متساوين في اللؤْم والخسة . وشرّ تفضيل بمعنى أشرّ . والحر خلاف العبد والمراد بهِ هنا الكريم. وفي شرح الواحدي أن الجيل هو: الضرب من الناس، وسواسية أي متساوون في الشرّ ولا يقال في الخير. ووافقه المعري. أما العكبري، فيقول إن الجيل: ضرب من الناس (ولقد أضلّ منكم جيلاً) بالياء (المثناة) تحت وسواسية: متساوون في الشرّ دون الخير. الواحد: سواء، من غير لفظه. والسقم: المرض، يقال سَقم وسُقم، كحزن وحزن.
وباجماع شراح شعر المتنبي يكون معنى البيت: نحن في قرن من الناس قد تساووا في الشرّ دون الخير، فما فيهم أحد يركن إليه.
وهذا عين مقصدنا.
ففي نواحي العام 2003 بزغ في بريطانيا نجم برنامج تلفزيوني في القناة الثانية لهيئة الاذاعة البريطانية. البرنامج- واسمه كُهول نَكِدُون Grumpy Old Men (وهي أفضل ترجمة استطعتها حتى الآن)- هو من شاكلة الحوارات التلفزيونية في قالب وثائقي- يلقي نظرة فاحصة على الناس والحياة في البلد العجوز من خلال إفادات مجموعة من المشاهير ممن هم في منتصف العمر، أظهروا فيها برماً وضيق صدر وسخط شديد على أمور ومظاهر حياتية نغصت عليهم. لم يوفر هؤلاء شيئاً من لدن الانتشار الكثيف والملحوظ لإشارات المرور، وحتى حب التظاهر بالهواتف الجوالة، واللغو والصياح المصاحبين له، دون أن يغمطوا حقاً للإعلام، والشرطة، وكاميرات المراقبة، ودعاوى المسؤولية التقصيرية في المحاكم.
المشاركون أغلبهم من ذوي الدربة والمراس بالحياة، وجلهم (شيال حال) ذي لسان إنغليزي (سنين)، ظفروا بفرصة للتنفيس عن غيظ كظيم، فافلتوا تذمراً ملأ نيفاً وعشرين حلقة. فكان أن لقي البرنامج نجاحاً غير مسبوق، بسبب جرثومة الفكاهة الصرفة المستكنّة فيه. فتولدت عنه نسخ ثانية وثالثة ورابعة، بل واستنسخت منه مجموعة نسائية مشابهة، ثم أُتِبع بكتاب سموه: "كُهول نَكِدُون: اليوميات السرية".
ولما كان الكتاب واضحاً من عنوانه- في عامية أهل مصر- فقد استمرأت فكرة أن جيلي التعس هذا هو الأكثر نكداً من بين سابقيه، ولنا أن نضيف لاحقيه أيضاً. ولم لا؟ فهو جيل اجتمعت عليه منغصات يكاد يخطئها العد ويعييك حصرها، والتئمت عليه أشتات من النواقص وصنوف من العثرات مما لم تجتمع على جيل مشابه- ما خلا العراق في السنين الحاضرة. وهو من بعد "مما هو منه باكٍ محسود". ويعيب عليه بعض من سابقيه أنه جيل كسولٌ، برِمٌ، لا يقيم وزناً لكبير، ويرأف بصغير. وهو- عند كمال الجزولي مثلاً- جيل أدمن الشكوى من بؤس حاله، ثم أمعن في الهرب من مجابهة تحدياته. وكنت قد تعرضت إلى شيء من هذا في المساحة السمحة التي افردها لي الجزولي في روزنامته قبل عامين. وكتبت في "جدلية النيم" عن تمظهرات هذا (الهرب)، ولم يرق كثير منها للجزولي، لكنه لاك صبراً جميلاً على مقالي، ولم يعقب.
ويقيني أن مثل البرنامج المشار إليه بعاليه لو أتاح لأي من أندادي فرصة- ليست أعرض بكثير من الرقراق- لقال الشيء الكثير، ولأفرط في التسخط والتبرم، ولأشبع جيل الآباء والأعمام ذماً لا ينتهي عند سوء الأدب في الإشارة إلى كل من هو أسنّ ب (يا عمّك!). وهو سوء أدبٍ يضرب بأصوله في الثمانينات المنصرمة حين طفح لفظ (الجُلكين) لدى الإشارة إلى عم أو أب أو خال. واللفظ إياه مستفاد من لغة الشارع ومخلوط في أصله بتأثير من (الرندوك) وشيء من (العامية الضرورية). وهو دليل وثيق على حركات تمرد لغوي، فيها ما هو عفوي بحكم السن المراهق، وما هو عمدي املته اعوجاجات المجتمع ونواقصه، وما ينتج عنها من ضغوط هائلة على شباب في سنٍ غضة ولا مثال يحتذى لديه، فيهرب من هذه إلى تلك.
وجيلي الذي اكتهل عمراً، مشبع بالعذابات واقعاً وظرفاً. ثم هو ولا شك مشرف على تلك الفترة الرمادية الحدود، ذات الاكتئابات العظمى، والمعروفة ب أزمة منتصف العمر. ولئلا يطعن مشكك في صحة ما نزعم، نسوق له أن منتصف العمر هو الفترة العمرية بين الشباب الباكر، وأرذل العمر. وبسبب من اللغط الكثيف بشأن تعريف جامع مانع لهذه الفترة، ولأنه لم يصح توافق على تحديدها بالأرقام، فسنعمد إلى تقسم العمر إلى أرباع، وعندئذ يصح أن نعني بها الربع الثالث من الحياة الطبيعية للإنسان. ولنا أن نشير هنا إلى ، قاموس كولينز يرى أن منتصف العمر يقع عادة بين الأربعين وبين الستين على وجه التقريب. وهو المعتمد في سائر الدنيا، إلا في الولايات المتحدة، حيث تصنّف هيئة التعداد الأميركي أنها الفترتين العمريتين بين سن الخامسة والثلاثين إلى الرابعة والأربعين، وسن الخمسة والأربعين إلى الرابعة والخمسين!
وبعض أنغص هذه العذابات الباعثة على التبرم مردّها إلى ساس يسوس. وكنت كتبت في هذه الصحيفة قبل أعوام عن أزمة الشباب من الجيل الحالي (وكنا في شرخ العشرين وقتها) ممن استمسكوا بالسياسة طريقاً لحل مشاكل المجتمع، فتفرقت بهم الأحزاب أيدي سبأ. وقلنا أن أزمة الأحزاب السودانية- في حقيقتها- هي أزمة قيادة. فكل زعامات الأحزاب الراهنة – ما خلا الحركة الشعبية- هي قيادات (مشيخية) حسب تعريف معاجم اللغة. وبحسب تعريف بروفيسور الخطيب فإن:
(الكهل) هو من جاوز الثلاثين إلى نحو الخمسين. وجمعها كهول، وكُهَل – بضم الكاف وفتح الهاء وتشديدها وكُهْلان – بضم الكاف وسكون الهاء. أما (الشيخ) فهو من أدرك الشيخوخة ، وهي غالباً عند الخمسين، وهو فوق الكهل ، ودون الهرم. وجمعها شيوخ ومشايخ – وصدق أو لا تصدق – ومشيوخاء !! وأما (الهرم) فهو الشيخ يبلغ أقصى الكبر.
و"أقصى الكبر" هذه لابد وانها تعني من هو فوق السبعين. وغالب قيادات الأحزاب الحالية هم فوق ذلك!
وشددنا في المقال المذكور على أن هذه القيادات المشيخية كانت مسؤولة بالأساس عن انتاج، وإعادة إنتاج القسط الأوفر من أزماتنا الراهنة. ونعينا على تلك القيادات استنساخها لثلة أورثتها سماتها وغبائنها، لتعيد سيرتها الأولى حذوك النعل بالنعل. ومن حيث أجمع العرب في لسانهم على أن الكهل هو المرتبة العمرية بين الشيخ وبين الهرِم، فهو إذن (الوسيط). وفي بليغ الحديث النبوي أن خير الأمور أوسطها. فمن باب أولى، أن خير السياسيين أوسطهم- عمراً على الأقل.
كنت آمل كتابتذاك في جائحة سياسية أو مجتمعية، تجمع كل تلك القيادات المشيخية على صعيد واحد، ثم تهوي عليه بغضب شبابي جارف، فتجعله صعيداً جرذاً... أو نحو ذلك. ومن حيث أيقنت أن تلك القيادات باقية، مثّاقلة إلى مقاعدها، ولا أمل في أن تذهب إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، أرجعت النظر في عاطفتي الكتابية تلك، فالفيتها تمت بسبب وثيق إلى ضيقي بالوضع السياسي وقتها، والقرن الجديد قد أعلن عن نفسه بتغييرات مزلزلة في الدنيا من حولنا. ولمست في ردود الأفعال على المقال وقتها شيء من غضب مشترك على تمترس الشيوخ وتقاعس الشباب.
على أن الأمر أوخم من ذلك.
"العرجاء لي مُراحا"
فالضيق الذي يحمحم في الصدور هو إنذار بتمرد قادم. وهو لا يكون إلا حيث تمدد الاستبداد. وفي طيات ازمة هذا الجيل المفضية إلى استلابه يسرح الاستبداد بصنوف واشكال وتفانين. ويقول المثل العامي أن "الما عندو كبير يشتريلو كبير". وذا ضرب في تكريس الأبوية عهدناه وتواطئنا عليه. وهنا تسعفنا هبة رؤوف، المُدرّسِة بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة، بتعريف للابوية في مقالها: "القوامة بين السلطة الأبوية والإدارة الشُوريَّة" بأنها:
ويقيني أن تركتنا التي ورثناها عن آباء أحياء بالمعنى الاصطلاحي للجيل، لهي ثقيلة للحد الذي فررنا منها ومن تعقيداتها. أقول فررنا، بنون الجماعة، وأعني بها الموجة الأولى من هذا الجيل. وهم ممن قلنا أنهم خرجوا إلى الدنيا ومايو قد علا كعبها أو كاد نجمها يبزغ. ونشأ أكثرنا في تلك الفترة، وتفتح وعينا في الحشرجات الأخيرة لمايو وطغمتها. ومن جاء بعدنا هم من مزاحمينا في ضيق هذا الجيل، لكنهم من المتأخرين عن عذاباتنا. وإلى هؤلاء يؤول السهم الأكبر من تركة السواد هذه.
وجيلي- شاء ذلك أم أبى- هو امتداد طبيعي لجيل الآباء الذي تنضوي تحته القيادات المشيخية المنعيّة. وسائر ما نعانيه من اضطرابات جمعية- على اختلاف موجات ترددها- تعود بطريقة أو بأخرى إلى طبيعة تكوين الجيل السابق، وما ينتج عنها من اضطرابات. وليس أذكى ولا ابلغ دلالة لسياقنا هذا مما ذهب إليه الأستاذ الدكتور محمد أحمد النابلسي- أستاذ الطب النفسي، في مقاله المهم: "دور الاب في تحديد شخصية الطفل" وتحت العنوان الفرعي "اضطرابات السلطة الأبوية" من أن الطفل وهو يتلمس خطواته إلى الإدراك، يبدأ في:
(... إدراك الفوارق بينه وبين أبيه. فيدرك في البداية قوة الأب، ثم يدرك تدريجياً عوامل هذه القوة ومظاهرها. )
ويزيد النابلسي أنه:
(... يمكننا ... رد اضطرابات الأطفال، في معظمها إلى اضطرابات السلطة الأبوية. والحقيقة أن لهذه الاضطرابات جذورها في اضطرابات شخصية الأب وبنيتها الفردية. لذلك فإنه ومن الصعوبة بمكان التوصل إلى تحديد هذه الاضطرابات خاصة وأنها مرتبطة أيضاً، وبطريقة مباشرة، بشخصية الأم وبموقفها من كل من الطفل والأب)
وفي عرضه لأشكال اضطراب السلطة الأبوية يسمي النابلسي ستة أنواع للأب: المشاكس، واللا مبالي، والسيئ، والعظامي، ثم الميت، وأخيراً الغائب. وهي أشكال خبرنا أكثرها- بل كلها- في أضراب القيادات المشيخية التي نعايش، وفي البطانة المتحصنة حول عصاها النخِرة. وتلتفت هبة رؤوف إلى أن التصور الاستبدادي لسلطة الأب داخل الأسرة يمكن إدراكه:
(... من اشتقاق كلمة الأسرة Familia ذاته، حيث كان يعني عند الرومان الحقل والبيت والأموال والعبيد، أو التركة التي يتركها الأب والزوج للورثة...)
على أن ذلك ليس أس الأزمة، بل بعض من أساسها. فإن جاز لنا أن وصف الجيل الحالي بالمأزوم، فمن العسير- ولو من باب الجناس والطباق- أن نصفه بالمهزوم. صحيح أنه جيل مضطرب، وصحيح فيما قدمنا أنه جيل مُستلب، لكن الصحيح أيضاً أن التقانة الحديثة والتغييرات الهائلة في صيغ التواصل الاجتماعي (ولنا عودة متمكثة إليها إن شاء الله في مقال قادم) يسرت له من حيث لم يحتسب سبيلاً إلى تمرد مستتر على مستوى موازٍ للتمرد الاجتماعي الطبيعي الذي تمليه السن. ومن حيث تضاءل الاخير بعامل السن ذاته، تصبح تلك الصيغ ذات خطر وتأثير، لا يحتوشه مجرد التحول أو التحوّر في العلاقات الاجتماعية. واقل جوانب ذلك الخطر هو التهديد المباشر لهرمية المجتمع الراهن.
ويلزم هنا أن نشير إلى أن هذه الهرمية مستمدة من التركيبة الأبوية لمجتمعنا هذا، حيث السلطة الأبوية فيه مطلقة. ويعرّف د. مصلح النجار سلطة الأب على أنّها: (إشارة إلى علاقات القوّة، التي تخضع في إطارها ... مصالح جميع أفراد الأسرة لربّ هذه الأسرة). ويضيف النجار أن هناك وحدة كلاسيكيّة بين الرجل والسلطة: شُرطيّا، وحاكما، وأبا. ويرى النجار أن سلطة الأب غدت مهددة، وهي:
(... آخذة بالتداعي من كثرة الرّكْل، وبخاصّة أنّها غدت مضرب المثل في البطريركيّة. ... إنّ مراهقا لا يعترف بسلطة أبيه في المنزل، على الرغم من أنّه يرتبط به منفعيّا، لن يلتزم بسلطة المعلّم في المدرسة، أو الشرطيّ في الشارع، وعلى المستوى المجتمعيّ، ولن يلتزم كذلك بأطر سلطة السلطان على مستوى الدولة.)
وهذا التهديد- الذي اشرنا إليه بعاليه في خطر صيغ التواصل الاجتماعي الجديدة- هو بالطبع التغيير في أجلى مقدماته. ويكاد يوافق ما ذهبنا إليه بعض مما يضيفه النجار من انه:
(وفي حالات التغيير كان خطاب الأبناء يتحوّل إلى ردّ على سلطة الآباء، فيصبح خطابهم متمحورا حول الحرمانِ الذي عانَوه، والزهدِ بطلبِ أيّ شيء من الآباء، وحول حالات الأنانية التي مارسها الآباء، في مواقف معيّنة، على حساب الأبناء أو الأسرة.)
ويحذر النجار من أن عدم الوعيِ بعواقب الإطاحة بسلطة الأب في الأسرة تترتّب عليه خسارة أفدح. فمن حيث يخسر الأب سلطته، ستجد السلطةُ الإداريّة، أو الأمنيّة، أو السياسيّة نفسَها مهدّدة.
وحيثما تهددت السلطة المسيطرة على المجتمع من فئاته اليافعة، أنذر ذلك- بالضرورة- بتغيير قادم لا يوفر الأصول ولا الفروع. على أن سيرورة التغيير في المجتمع أصلية فيه، فهو لا بد وأن يتجدد بتعاقب الأجيال. ومنشأ الجدل هو من إصرار الجيل السابق على إلباس اللاحق جلبابه، متناسياً قول علي- كرم الله وجهه- في باطن المجتمع الاسلامي الأول: لا تقسروا أبناءكم على آدابكم؛ فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم". وهو زمان سيبدعونه هم وفق هواهم، ووسع قدرتهم وبامكان آلتهم. وهذا المعنى ليس من جديد ابتكاري، ولاكان انتباهي له ضربة لازب أصابت من حيث اعشت الرؤية، بل سبقني إليه كثير. ولعل أفصح من أبان عنه كان الشاعر الفخم الضخم محمد المكي إبراهيم في قصيدة ذائعة، غناها وردي بلحنه الموّاج، لتكون شعاراً للجيل السابق:
من غيرنا يعطي لهذا الشعب معنى أن يعيش وينتصر
من غيرنا ليُقرر التاريخ والقيم الجديدةَ و السِير
من غيرنا لصياغة الدنيا وتركيب الحياةِ القادمة
جيل العطاءِ المستجيشُ ضراوةً ومصادمة
والمكي لم يقل ان جيله ورث الدنيا مصفوفة مرتبة، معلومة أشراطها، بل شدد على دورهم الواضح في تقرير “القيم الجديدة" وحشرها حشراً- لضرورة شعرية، أو لأغراض اخرى- بين متشابهين: التأريخ" و “السير"! ليس هذا فحسبن بل إن المكي يعلن بلا مواربة أن جيله:
حتماً ُيذلُّ المستحيل .. وننتصر
وسنبدعُ الدنيا الجديدةَ وفقَ ما نهوى
ونحمل عبءَ أن نبني الحياة ونبتكر
وأذكر على أيام طلابنا العلم بالجامعات، والدنيا تسعيناتذاك “إنقاذية"، أن الطيف السياسي من أقصاه إلى أقصاه سقط صريعاً لسحر هذه الأبيات. وكنت أضاحك أخداني أن متثاقفي اليسار واليمين آلف البيتين الأخيرين بين حبهم للهتاف. فكنت تراهما في صارخين باللون الأحمر والخط العريض على جريدة حائط “الجبهة الديمقراطية"، ثم تخطو إلى اليمين قليلاً في “النشاط" لتسمعهما داويين في مفتتح ركن خطابي ملتهب للأنصار في حزب الأمة. وقبل أن ينصرم نهارك، يختتم بها صائحو أركان نقاش الحزب الاتحادي الديمقراطي. بل إن أحد أكثر الكوادر الخطابية شعبية في جامعة القاهرة فرع الخرطوم في آخر ايامها كان من أنصار السنة، وكان يتعمد أن يدخلهما في إشعال حماس الركن ومرتكنيه، مماحكة لآخر من طلاب “الاتجاه الاسلامي" وبينهما بضعة صفوف ومترين لا أكثر!
ملحمة ود قِنعنا
وبعد...
هل من مندوحة عن تكريس أزمة الجيل الراهن، وزيادة تعقيدها؟ في تقديري المتواضع: لا. فعلى أما أفضنا فيه مما سبق، نزعم أن شدة تعقيد الأزمة يضرب بأصله عميقاً في تربة التنشئة الاجتماعية. وجاءت عليه أطوار من اضطرابات السياسة، وما أفضت إليه من ترد اقتصادي، وتضعتضع اجتماعي، وسلبية ثقافية تتاخم العدمية. ونزعم أن تمظهرات الاستلاب المشار إليها في مقالنا الأول هي نتيجة مباشرة لبؤس القالب الاجتماعي الذي انصببنا فيه برغمنا. وبعض ما نعتضد به في هذا الزعم، النتيجة الساطعة البرهان التي انتهى إليها الدكتور حسن المحمداوي، أستاذ العلوم التربوية والنفسية، في مقاله المعنون: "الاغتراب والتنشئة الاجتماعية" من أن:
(.... أسلوب التنشئة الأجتماعية يعد بمثابة القالب الثقافي الذي يهب الآنسان خصائصه الآنسانية ، وأن الاغتراب (Alienation) ماهو الا أنعكاس لدرجة الشدة والتسلط والهيمنة في اساليب التنشئة الآسرية والأجتماعية السائدة في مجتمع ما.)
ونشير إلى أن الاغتراب والاستلاب هم مترادفان لمعنى واحد. وإن كنا نفضل استعمال كلمة “استلاب" فهذا لا يعني أن اغتراب غير صحيحة. لكن فضلنا الأولى على الثانية لكونها الأخيرة ذات تعبير مغاير في ثقافتنا المحلية.
ومع أن المحمداوي في مبحث آخر عن " اغتراب الشباب في أحضان الوطن" يذهب إلى أن:
إلا أننا نوافقه ونزيد عليه أن هذا الجيل ارتأى سائر أرجاء ارضه منفى، وسائر أحزابه خرائب يستحكم على واحدها غراب مستصلع، حوله بطانة من (أم رخم الله)، وألفى سائر رغائبه سراباً بقيعة أحزانه، فحسبه مما يستطفي به ذي الغلة الصادي، فأعمل في مناكب الأرض ضرباً واغتراباً وما لحق به إلى تأريخ كتابته.
واستحرّ التغريب والاستلاب بأبناء جيلي حتى إن الزبدة الأكثر من الموجة الأولى من هذا الجيل ممن يطلب اسمها ورسمها في أضابير “جهاز شؤون المغتربين"، ومقره واضح يُزار.
قال الوسيم القسيم عمر الطيب الدوش، رحمه الله الرحمة الحقة:
وارقُد فى ضواحى السُوق
وأحلَم والعمر مشنوق
تجينى بلاد
أبيع فيها الفَضَل من شوق
تطوفْنى بلاد
أغيِّر فيها شكل القُفَهْ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.