أوردت صحيفة الأحداث في صفحتها الأولى في عددها رقم 1617 بتاريخ يوم الخميس 19 أبريل عام 2012 خبراً عنوانه "مؤامرة لاختطاف مبادرة السودان بشأن مياه النيل." وأفادت الصحيفة أن "معلوماتٍ حصلت عليها الأحداث كشفت عن مساعٍ تقودها منظمة الرؤية الاستراتيجية بدعمٍ مباشر من الحكومة السويسرية لاختطاف المبادرة التي طرحها السودان لحل الخلافات بين دول حوض النيل." وأوردت الصحيفة أن المستشار القانوني لوزارة الري والموارد المائية وعضو وفد السودان لمفاوضات حوض النيل أحمد المفتي كشف "أن المؤامرة بدأت فصولها حين طرح السودان مبادرة التوفيق وطالب بعقد اجتماع لوزراء حوض النيل في يناير الماضي إلا أن مصر طلبت تأجيله للظروف السياسية التي تمر بها الأمر الذي أغضب بقية الدول ودفعها للاحتجاج على التأجيل ليحدد بعده اجتماع في فبراير الماضي وتطلب ذات الدول التأجيل لتبدأ بعدها التدابير والإعداد لاختطاف مبادرة السودان." وذكرت الصحيفة أن السيد أحمد المفتي نوه " إلى أن المنظمة النرويجية نظمت ورشة عمل بجنيف بدعم كامل من الحكومة السويسرية شاركت فيها كل دول الحوض بأكثر من 6 أشخاص فيما حددت المنظمة مشاركة السودان بمهندس واحد من وزارة الري عديم الصلة بالملف." نكتفي بهذا الاقتباس مما ورد في الصحيفة من خبرٍ ومن تصريحاتٍ للدكتور أحمد المفتي. 2 اندهشت كثيراً وأنا أقرأ هذا الخبر وهذه التصريحات المنسوبة للدكتور أحمد المفتي. مصدر دهشتي الكبيرة هو المغالطات والادعاءات غير الصحيحة والأخطاء التي تضمنها الخبر والتصريحات. وسوف أتناول الرد عليها من خلال الرد على ثلاثة أسئلة هي: (1) هل هناك حقاً مبادرة سودانية لحل النزاع حول مياه النيل، وما هي هذه المبادرة، وما هي الدول المتنازعة التي يود السودان التوسط بينها؟ (2) ما هي الدول التي طلبت عقد الاجتماع الاستثنائي لدول حوض النيل، وما هي الدول التي تغيبت، وماذا حدث في ذلك الاجتماع؟ (3) ما هي منظمة الرؤية الاستراتيجية وما الذي دار حقاً في ورشة العمل التي نظمتها المنظمة، ومن هم الذين حضروا الورشة؟ أود أن أشير في البداية إلى أنني كنت أحد الذين تمّتْ دعوتهم بصفةٍ شخصية لحضور ورشة العمل التي عقدتها منظمة الرؤية الاستراتيجية، وأحد الأشخاص الذين طلبت منهم المنظمة التحدث خلال الورشة، ولكنني اعتذرت عن المشاركة قبل أسبوع من بداية الورشة لأسباب خاصة. 3 إن الخلاف الأساسي والرئيسي بين دول حوض النيل في الوقت الحاضر يدور حول اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. وقد بدأ النقاش والتفاوض حول الاتفاقية في عام 1999 تحت مظلّة مبادرة حوض النيل، واستمر هذا التفاوض حتى عام 2009 عندما فشلت دول حوض النيل في التوصل إلى نصٍ للاتفاقية مقبولٍ لكل الأطراف. وقد قامت خمس دولٍ هي اثيوبيا وتنزانيا وكينيا ويوغندا ورواندا بالتوقيع على الاتفاقية في شهر مايو عام 2010 في مدينة عنتبي (لذا تُسمّى اتفاقية عنتبي). وقد أصبحت دولة بوروندي الدولة السادسة عندما وقّعت على الاتفاقية في شهر فبراير عام 2011. من الجانب الآخر تعترض مصر والسودان اعتراضاً تاماً على الاتفاقية، وتصران على أن استعمالاتهما وحقوقهما القائمة والمشار إليها في اتفاقية مياه النيل لعام 1959 (55,5 مليار متر مكعب لمصر و18,5 للسودان) خطٌّاً أحمر لا يمكن عبوره وغير قابلة للتفاوض، بينما تُصِرُّ الدول الأخرى على أنّ لها حقوقاً في مياه النيل تحت نظرية الانتفاع المنصف والمعقول وأنه يجب على مصر والسودان الاعتراف بهذه الحقوق كما هو واردٌ في اتفاقية عنتبي. كما أن هناك خلافاً حول مبدأ الإخطار المُسبّق بالمشاريع التى تنوي الدول المشاطئة القيام بها، فمصر والسودان تُصرّان على مبدأ الإخطار المُسبّق والذي ترفضه الدول الأخرى خاصةً اثيوبيا لأنها ترى فيه مدخلاً لاستعمال حق النقض الذي تدعيه مصر بموجب اتفاقيتي 1902 و1929. وبينما تطالب مصر والسودان بأن يكون تعديل اتفاقية عنتبي بالإجماع لضمان موافقتهما على أى تعديلٍ مقترح، تُصِرُّ الدول الأخرى على أن يكون تعديل الاتفاقية بالأغلبية العادية، شملت أم لم تشمل مصر والسودان. إذن نحن أمام خلافاتٍ كبيرةٍ وجوهريةٍ بين مصر والسودان من جهة، وبين اثيوبيا وكينيا ويوغندا وتنزانيا وبوروندي ورواندا من جهةٍ أخرى. تحت هذه الظروف لا بد من إثارة السؤال: هل يعقل أن تكون دولةٌ طرفا رئيسياً وأساسياً في الخلاف وتكون في نفس الوقت وسيطاً لها مبادرة لحل هذا الخلاف؟ ما هي هذه المبادرة؟ ولماذا لم يفصح عنها السودان أثناء الثلاثة أعوام الماضية التي تضخّمت خلالها الخلافات وتباعدت فيها الرؤى والمواقف؟ وإذا كان السودان قد طرح المبادرة كما ذكر الخبر فأين هي ولماذا لم يتم نقاشها حتى الآن؟ 4 ما هي الدول التي طلبت الاجتماع الاستثنائي لدول حوض النيل، وما هي الدول التي تغيبت، وماذا حدث في ذلك الاجتماع؟ كان من المقرر أن يلتئم في نيروبي عاصمة كينيا يوم الجمعة 27 يناير عام 2012 الاجتماع الاستثنائي لوزراء مياه دول حوض النيل، وبالفعل فقد ابتدأ وزراء دول المنبع في الوصول إلى نيروبي يوم الخميس. ولكن فجأةً أعلنت كلٌ من مصر والسودان أن وزيري المياه في الدولتين لن يحضرا هذا الاجتماع. نتج عن هذه التغيّب الكثير من الإحباط بين وزراء المياه في دول المنبع بسبب أن هذا الاجتماع قد تمّت الدعوة له بناءاً على طلب مصر والسودان نفسيهما. فقد قدّم البلدان الطلب لاجتماع المجلس الوزاري التاسع عشر لدول حوض النيل الذي انعقد في نيروبي في شهر يوليو عام 2011، وكان غرض مصر والسودان من الاجتماع الاستثنائي مناقشة اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل. غير أن دول المنبع والتي كانت قد وقّعت على الاتفاقية (اثيوبيا وتنزانيا ويوغندا ورواندا وكينيا وبوروندي) رفضت فتح باب النقاش في الاتفاقية. وأخيراً اتفقت هذه الدول الست مع مصر والسودان على أن يكون موضوع الاجتماع الاستثنائي آثار وتداعيات اتفاقية الإطار التعاوني بدلاً من مناقشة الاتفاقية نفسها. اتفقت الأطراف كذلك على أن يُعقد الاجتماع في كيغالي عاصمة رواندا في شهر اكتوبر عام2011. قبل أيامٍ من اجتماع كيغالي طلبت مصر والسودان تأجيل الاجتماع لأن مصر ستكون مشغولةً بالانتخابات. وتمّ فعلاً تأجيل الاجتماع إلى شهر ديسمبر عام 2011. مرةً أخرى طلبت مصر والسودان تأجيل الاجتماع إلى شهر يناير عام 2012، وقد وافقت بقية الدول على التأجيل، ولكن على مضضٍ. هذه المرّة لم تطلب مصر والسودان تأجيل الاجتماع وإنما قررتا عدم حضوره، ولكنّ وزراء دول المنبع قرروا المُضيَّ قُدماً في الاجتماع بدون مصر والسودان، وتمّ الاجتماع كما كان مُقرّرا له في نيروبي في 27 يناير عام 2012. اتخذت تلك الدول مجموعةً من القرارات يمكن تلخيصها في الآتي: أولاً: قرّر الوزراء المجتمعون المُضِي قُدماً في التصديق على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل حتى يتسنى لها أن تدخل حيّز التنفيذ ويتمَّ بموجبها إنشاء مفوّضية حوض النيل، وأن يمدّوا بعضهم البعض بالمعلومات عن التقدم في عملية التصديق على الاتفاقية. هذا القرار يعني ببساطة أن هذه الدول قد قررت إلغاء القرار السابق بتأجيل التصديق على الاتفاقية لإعطاء مصر بعض الوقت بعد ثورة 25 يناير عام 2011. وكان قرار التأجيل قد اتُخِذ بعد زيارة الوفد الشعبي المصري لاثيوبيا في أبريل الماضي، والتي تلتها زيارة السيد عصام شرف رئيس الوزراء المصري السابق لاثيوبيا في مايو الماضي. وإذا صادقت الدول الست على الاتفاقية فإن الاتفاقية ستدخل حيز التنفيذ بعد ذلك بدون مصر والسودان. وهذا بدوره سوف يخلق وضعاً قانونياً معقّداً حول وضعيّة مبادرة حوض النيل وبرامجها وأصولها بدون مصر والسودان، ويُعمّق النزاعات وحالة التمحور داخل دول حوض النيل. ثانياً: قرر الوزراء المجتمعون مواصلة النقاش مع الدول الثلاث التي لم تُوقّع على الاتفاقية (مصر والسودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية) بغرض إقناعها بالتصديق على الاتفاقية، على أن يكتمل النقاش مع هذه الدول في مدة الستين يوماً القادمة. هذا القرار لا يُمكن قراءته إلّا على أنه إعطاء هذه الدول الثلاث فرصةً أخيرة لتنضم إلى الاتفاقية قبل أن تدخل حيّز التنفيذ بعد مصادقة الدول الست التي وقّعت عليها. كما يجب ملاحظة أن القرار يتحدّث عن النقاش حول الانضمام للاتفاقية وليس فتح باب التفاوض في نقاط الخلاف حولها. ثالثا: عبّر الوزراء المجتمعون عن إحباطهم على التردّد الذي أبدته مصر والسودان فيما يخص الاجتماع الاستثنائي، والذي نتج عنه إلغاء عددٍ من الاجتماعات بواسطة الدولتين في اللحظات الأخيرة. وأشار الوزراء أيضاً إلى أن اجتماع نيروبي كان يمكن أن يكون فرصةً للمُضيّ قُدماً للتعاون في حوض النيل. وقد طلب الوزراء المجتمعون من رئيسة مجلس وزراء دول حوض النيل الحالية (السيدة شاريتي إنجيلو وزيرة الرّي والمياه الكينية) نقل حالة الإحباط والقلق إلى كلٍ من مصر والسودان. عليه فإن مصر والسودان هي التي تغيّبت عن الاجتماع. وقد تم الاجتماع بدون مصر والسودان وقرر المجتمعون المضي قدماً في التصديق على اتفاقية الإطار التعاوني بدون مصر والسودان. وإن كان حقاً هناك مبادرة سودانية فان السودان لم يتقدم بها خلال الثلاثة أعوام الماضية، وقد فاتها القطار الآن. لكن الحقيقة أنه لايوجد أي شيء يمكن تسميته المبادرة السودانية. كما أن السودان طرفٌ أصيلٌ في هذا النزاع الحاد ولا ترى الدول الأخرى أية مصداقية للسودان لأن تكون له مبادرة أو أن يكون وسيطاً في نزاعٍ هو طرفٌ رئيسيٌ فيه. 5 ما هي منظمة الرؤية الاستراتيجية وما الذي دار حقاً في ورشة العمل التي نظمتها المنظمة، ومن هم الذين حضروا الورشة؟ المنظمة التي دعت لورشة العمل (منظمة الرؤية الاستراتيجية) ليست نرويجية بل هي منظمة هندية مقرها مدينة مومباي (بومباي سابقاً) في الهند، وهي منظمة جديدة وصغيرة وغير معروفة في دنيا المياه الدولية. كان الغرض من الورشة هو التفاكر وتبادل الآراء حول الوضع في حوض النيل، لا أكثر ولا أقل. وقد عُقِدت الورشة في مدينة زيورخ وليس في مدينة جنيف. وقد حضر الورشة 34 شخصاً من دول حوض النيل، منهم من حضر بصفة شخصية والبعض الآخر يعمل بوزاراتٍ أو مؤسساتٍ حكومية. كان الوفد المصري أكبر الوفود إذ حضر ثمانية أشخاص من مصر، بينما كان هناك ستة من اثيوبيا، وأربعة من تنزانيا وأربعة من كينيا وثلاثة من يوغندا وثلاثة من بوروندي وثلاثة من رواندا وأثنين من السودان وواحد من جنوب السودان. وقد كان عدد الذين تمّ دعوتهم من السودان خمسة أشخاص، أثنين من وزارة الموارد المائية (وليس شخصاً واحداً) بالاضافة إلى الدكتور عبد الله عبد السلام ومندوب مكتب السودان في جنيف وشخصي. وقد قررت وزارة الموارد المائية عدم مشاركة مندوبيها، ولم أشارك أنا في الورشة لأسباب خاصة. وعليه فقد كانت مشاركة السودان بشخصين. لم تكن هناك مبادرة على طاولة الورشة وبالتالي لم تخطف المنظمة الهندية المبادرة السودانية التي لا وجود لها بالأساس، أو أية مبادرة أخرى. كما لم تكن هناك قرارات لأن الحضور ليست لديهم أحقية أو وضعية إصدار قرارات أو حتى توصيات، فمعظم الحضور لم يكونوا يمثلون سوى أنفسهم. كما أن المنظمة نفسها ليس لديها الحق أو المقدرة على تبنّي أية قرارات. فكما ذكرنا فهي منظمةٌ صغيرة وجديدة على دنيا المياه الدولية، ولاتملك من الخبرة أو الإمكانيات أو الطموح ما يجعلها تطرق باباً صعباً ومعقّداً مثل نزاعات حوض النيل. بل إنني اعتقد أن المنظمة قصدت أن تكون ورشة العمل هذه مبادرةً للإعلان عن نفسها قبل أن تكون مبادرةً تساهم من خلالها في حل نزاعات مياه النيل. 6 إن السودان يواجه حالةً كبيرةُ من الارتباك والتناقض والاضطراب فيما يتعلق بحوض النيل. وقد تجلّى هذا الارتباك مليّاً في موقف السودان من مبادرة حوض النيل نفسها، فقد غادر وفد السودان اجتماع كنشاسا في مايو عام 2009 بعد ساعةٍ من بدايته احتجاجاً على مناقشة الاجتماع لاتفاقية الإطار التعاوني، وأعلن السودان بعد ذلك مباشرةً انسحابه من مبادرة حوض النيل. ثم غيّر موقفه وأعلن عن تجميد عضويته في المبادرة وليس الانسحاب منها. ثم عاد وغيّر موقفه مرّة ثانية وأعلن عن تجميد مشاركته في مشاريع المبادرة وليس المبادرة نفسها. ولا أحد حتى الآن يدري ما هو الموقف الرسمي للسودان من مبادرة حوض النيل. وتجلّى الارتباك أيضاً في موقف السودان من سدّ الألفية في اثيوبيا (والذي يعرف الآن بسدّ النهضة). فقد قرأنا في الصحف تصريحاً من أحد مهندسي وزارة الري تعترض فيه الوزارة على السدّ بحجة أنه سيقلل من انسياب الطمي (الذي أفقد سدودنا أكثر من نصف فاعليتها)، ثم قرأنا في اليوم التالي تصريحاً من السفير السوداني في أديس أبابا يعلن تأييد السودان الكامل للسدّ. وكانت جريدة الصحافة قد أوردت في عددها رقم 6627 بتاريخ الثلاثاء 10 يناير 2012 في صفحتها الأولى خبراً مفاده أن سفير السودان باثيوبيا السيد عبد الرحمن سرالختم "كشف عن وساطة ينوي السودان أن يقودها بين مصر واثيوبيا بشأن ملف مياه النيل." وكنا قد قمنا بالرد على ذلك الإدعاء في سلسلةٍ من المقالات، ولكن لم يصدر أي ردٍّ على تلك المقالات، ولم نسمع بعد ذلك عن تلك المبادرة. وها نحن نقرأ الآن عن اختطاف مبادرةٍ لا وجود لها، بواسطة منظمةٍ لا طموح لها في دنيا المبادرات، وعن وساطة دولةٍ هي طرفٌ أصيلٌ ورئيسيٌ في النزاع ولا ترى بقية دول حوض النيل أية مصداقيةٍ لها كوسيط. 7 كنت قد اقترحت علي الدكتور سيف حمد وزير الموارد المائية قبل شهرين عقد ورشة عملٍ يدعو لها الخبراء الوطنيين لتقييم وضع السودان في مسألة مياه النيل ونزاعاته، ولوضع استراتيجيةٍ متكاملة للسودان عن حوض النيل حتى نُوقِف حالة الارتباك والتناقض في مواقف السودان، ونُوقِف أيضاً المغالطات والادعاءات غير الصحيحة والمبادرات التي تجعل السودان مصدراً للتندّر بين دول حوض النيل. إنني آمل مخلصاً ان يتبنّى الدكتور سيف هذا الاقتراح وأن يحصل على السند السياسي لهذه الورشة وللتوصيات الفنيّة التي ستتحذها هذه الورشة لأن التناقض بين القرار الفني والقرار السياسي كان وما يزال هو أيضاً أحد العلل الرئيسية للسودان في قضايا مياه النيل. [email protected]