دورات تعريفية بالمنصات الرقمية في مجال الصحة بكسلا    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: الدور العربي في وقف حرب السودان    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مقتل 68 مهاجرا أفريقيا وفقدان العشرات إثر غرق قارب    ريال مدريد لفينيسيوس: سنتخلى عنك مثل راموس.. والبرازيلي يرضخ    نقل طلاب الشهادة السودانية إلى ولاية الجزيرة يثير استنكار الأهالي    السودان..إحباط محاولة خطيرة والقبض على 3 متهمين    توّترات في إثيوبيا..ماذا يحدث؟    اللواء الركن (م(أسامة محمد أحمد عبد السلام يكتب: موته وحياته سواء فلا تنشغلوا (بالتوافه)    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    دبابيس ودالشريف    منتخبنا المدرسي في مواجهة نظيره اليوغندي من أجل البرونزية    بعثة منتخبنا تشيد بالأشقاء الجزائرين    هل محمد خير جدل التعين واحقاد الطامعين!!    دقلو أبو بريص    أكثر من 80 "مرتزقا" كولومبيا قاتلوا مع مليشيا الدعم السريع خلال هجومها على الفاشر    شاهد بالفيديو.. بلة جابر: (ضحيتي بنفسي في ود مدني وتعرضت للإنذار من أجل المحترف الضجة وارغو والرئيس جمال الوالي)    اتحاد جدة يحسم قضية التعاقد مع فينيسيوس    حملة في السودان على تجار العملة    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفكرة الخرطوم (5): كباب الحكومة وإرهاب المعارضة .. بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 24 - 06 - 2009


(1)
في الفيلم العربي الكوميدي الشهير (الإرهاب والكباب) للمؤلف وحيد حامد والمخرج شريف عرفة، كان النجم عادل إمام قد قصد مجمع الوزارات بميدان التحرير في قلب القاهرة لإنجاز أغراض معينة لدى إحدى الوحدات الخدمية الحكومية، ولكن الحال انتهى به الى أجندة جديدة لم تكن قد خطرت له ببال، إذ وجد الموظف الغلبان نفسه على حين غرة وهو يقود – دون تخطيط أو توقع أو استعداد - معركة حقيقية مسلحة، تؤازره في أتونها عناصر موالية، يستخدم فيها المتفجرات وبنادق الكلاشينكوف ضد قوات وزارة الداخلية المصرية مدعومة بكتائب الصاعقة. وقد وجدت نفسي خلال الأسابيع الماضية فى قلب واقعٍ يقرب كثيراً من المعمعة التي وجد بطل فيلم (الإرهاب والكباب) نفسه في قلبها. الفارق الوحيد هو أن القوات التي وجدتُ نفسي في مواجهتها ليست قوات حكومية، بل قوات تتبع لجبهات المعارضة، التي قمت بتصنيفها فوصفت فريقاً منها بمعارضة الكيبورد والأخرى بمعارضة الكهوف. إلا أن معارضة الكيبورد استنكرت هذه التسمية وواجهتها بحملة مضادة عنيفة. وقد توجه أحد هؤلاء إليّ بالسؤال متحدياً: (انت البتطرقع فوقو ده طورية ولاّ كيبورد؟). وقال آخر يدافع عن كرامة خياره النضالي: (لو أنا مناضل كيبورد فأنت مطبّل كيبورد)، يعني انه يناضل ضد نظام الإنقاذ بكيبورده، في حين أطبل لها انا مستخدماً نفس طاولة المفاتيح. أما في الجهة الأخرى فقد فاجأتني "معارضة الكهوف" من حيث لم أحتسب بترحيبها الشديد بالتسمية، إذ تقبلتها أحسن القبول، وباركتها وعدّتها شرفاً لا يعدله شرف، بل وعملت على تأصيلها في الواقع النضالي السوداني تأصيلاً لا بأس به. كتب صديقي الأستاذ فتحي الضو: (أحمد الله الذي جعلني من أهل الكهوف في زمن التهافت والتساقط والانكسار، وأشهد انه رغم مرور عقدين من حياة الذل والمهانة والكذب والانحطاط، ما زلت أشعر أنني ما لبثت [ في الكهف] يوماً أو بعض يوم، وان في يدي ورقاً ما يزال صالحاً لكل زمان ومكان أستطيع أن أدخل به إلى أي مدينة وأبتاع منها ما يدرأ عني الظمأ ويبعد عني شرَّ المسغبة). وبين غضبة مناضلي الكيبورد وغبطة مناضلي الكهوف قنعت بمقامي، فليس من سبيل لإرضاء الخلق جميعاً. وقد قال الأقدمون: رضا الناس غاية لا تُدرك!
(2)
كنت حين قفلت راجعاً من عاصمة المشروع الحضاري بعد حضور المؤتمر التداولي الاعلامي قد سجلت في دفاتري عدداً من النقاط ازمعت ان أتطرق إليها في سلسلة مقالات يدور بعضها حول فعاليات المؤتمر ومناشطه ونتائجه وخلاصاته. وتدور أخرى حول معالم التحولات الكبرى كما رأيتها تشخص أمامي في خرطوم 2009م سياسياً واجتماعياً وثقافياً، وكما وقعت من ذهني عبر حوارات مطولة مستفيضة واليتها مع عدد كبير من خاصة أصدقائي، على يسار المشهد الوطني وعلى يمينه، من المهتمين بالشأن العام بدءاً بمولانا وراعينا وولي أمرنا الثقافي الأستاذ كمال الجزولي، الذي غادرنا داره ذات الجلال عند مطلع الفجر، أنا والأستاذين ضياء الدين بلال ومحمد عثمان ابراهيم، بعد أن امتلأت منا الرؤوس فكراً وعلماً والبطون اُرزاً ولحماً. وانتهاءً بأحبابنا من فتية الإنقاذ الأشاوس الذين تفرقت بهم الطرق أيدي سبأ فمنهم من قفز من على ظهر السفينة في عرض البحر كصديقي الأستاذ حسين خوجلي، الذي أولم لنا في داره الرحيبة – أنا وشيخي العلامة الدكتور عبد الله حمدنا الله - وأفاض علينا من فيوضاته المترعة وهام بنا في دنياوات السياسة والثقافة والفن. ومنهم من ينتظر على متنها وما بدلوا تبديلاً كأخى السفير والمثقف النابه ماجد يوسف وصحبه، ومنهم جماعة الخير ممّن اختلط عليَّ أمرهم فما دريت ان كانوا داخل السفينة أو خارجها، مثل الدكتور محمد محجوب هارون والدكتور خالد التجاني والأستاذ العبيد أحمد مروح. ومنهم صاحبي ذاك الذي أعلم عنه انه كان مسئولاً عن صحافة الإخوان في جامعة الخرطوم وكان عضواً في مكتب العلاقات الخارجية للجبهة الإسلامية القومية حتى فجر الثلاثين من يونيو الأغر أو الأغبر، حسبما تكون ضفتك من النهر، ولكنه يقسم أمامي انه لم يكن قط عضواً منظماً في الحركة الإسلامية، ثم يلقي بكلتا يديه في الهواء قائلاً: (لو كلامك ده صاح كان حالي بكون كده؟!). ومنهم من لا يعرف للإسلاموية بابا، ليسوا من عجينها وليست من دقيقهم، لكن تألفت الإنقاذ قلوبهم ودعتهم ليسدوا ثغرات تتوق الى رجاحة عقولهم وفضول علومهم فاستجابوا للنداء راضين مرضيين مثل حبيبنا الوزيرالاقليمي والأديب الضخم البشير جمعة سهل. ومنهم آخرون يندّون عن الحصر من كادرات الحركة الشعبية لتحرير السودان والقوى السياسية والمدنية الأخرى حاورناهم وحاورونا، وجالدناهم وجالدونا، وأرهقناهم من أمرهم عسراً وأرهقونا.
ولكن حال بين مسلسل حلقات هذه المفكرة وبين الانطلاق التلقائي والطبيعي على النحو الذي ابتغيناه حوائل لم نكن قد حسبنا حسابها. فما أن اتخذنا قرارنا بالتوجه الى الخرطوم حتى رأينا السهام الصدئة تنتاشنا من كل حدب وصوب، كوننا قبلنا دعوة العصبة المنقذة للمشاركة في المؤتمر الإعلامي التداولي، وتتالت إتهامات الانخذال والسقوط والانتهازية والتهافت والارتشاء بغير اختشاء، تسد علينا المنافذ من فوق المنابر الالكترونية. وقد كان بوسعنا بطبيعة الحال أن نسد آذاننا بالطين وأن نغض الطرف عن الطنين. ولكننا اخترنا طائعين أن نخرج عن طريقنا المرسوم فنقف الموقف اللائق بنا ضد العدوان الغاشم، لا دفاعاً عن أنفسنا فحسب، بل حرصاً على حماية غيرنا من أصحاب – وصاحبات - الفكر المستقل، من الذين يرون أن الله الذي أودع في رؤوسهم وديعة العقل، وخصهم بفريضة التفكير، قد خلقهم أحراراً لا يتّبعون إلا ما يُمليه العقل المتفرّد والضمير المتجرّد. لهذا أردنا أن نقف محتسبين أمام صولة الباطل، فنتصدى للإرهاب بكافة أشكاله، وللإبتزاز بشتى تجلياته، فقصدنا مواقع الإرهاب والإبتزاز الأكثر فاعلية، وتخيرنا عن سابق تصور وتصميم أن نسدد مدفعيتنا باتجاه الحصون الثقافية المنيعة على الشبكة الدولية، فاستهدفناها من داخلها ومن خارجها، واتقنّا التصويب باتجاه عشيرة بني ثقيف، ممن تقاطعت مواقفنا مع مواقفهم على درب الحوار الوطني. وكنا نتمنى لو أن معارضي المهاجر هؤلاء استعصموا بأدب الخلاف وتساموا به الى مراقي الإمام الشافعي: (رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). ولكننا ابتلينا بقوم ملأت أعطافهم رياح الغرور، وصورت لهم نفوسهم أنهم الفئة الناجية، وانهم في الشأن الوطني مستودع الحكمة وأهل القول الفصل، فإما اتبعتَ ملتهم وإما تحوطتك قوارب البهتان وأغرقتك في لجج العلل القادحة، علل الانتهازية والوصولية والشراء والرشاء. شعب السودان عند هؤلاء صنفان: صامدٌ وساقط. وشهادات الصمود والسقوط يصدرها أصحابنا هؤلاء من حواسيب المَهَاجر موثقة ومختومة، كما تصدر المصارف شهادات "شهامة" وما شاكلها من صكوك الأسهم والسندات.
ولكننا لم نرَ عند القوم علماً ولا حكمة ولا فصل خطاب. سألناهم متواضعين متأدبين أن يفسروا لنا – تفكيراً وتنظيراً – التناقض الصارخ بين مباركتهم المعلنة والمستترة لحوارات الأحزاب والقوى السياسية والمدنية في الداخل مع نظام الإنقاذ، وهو ما جوّزه غالبية فقهاء المعارضة المهجرية ولم يروا فيه بأساً، وبين انبثاقاتهم الهستيرية ضد مشاركة عناصر مستقلة من بنية المجتمع المدني ممثلة في الإعلاميين والكتاب الصحافيين المقيمين بالخارج في مؤتمر حواري تداولي محدود دعا اليه ذات النظام. فأتانا هؤلاء الفقهاء، في مقام التفسير والتبرير، بحذلقات وفذلكات لو بسطناها بين يديك – يا هداك الله – لقتلك الضحك مرة وقتلك الهمُّ مرتين. ولكن الله لطيف بعباده. فكما يستل من الليل الفلق، كذلك يُقيض الله من ظُلُمات الغرور الثقافي ودياجير الغطرسة السياسية أقباس الصدق وأقلام الحق. هاك يا صاح مقتطفات مما سطرت يمين المثقف الشاهق الدكتور النور حمد، الذي ترعرع تحت شجرة شهيد الفكر الأستاذ محمود محمد طه، وأكرمه الله بأن صار والداً لأسباطه. كتب الدكتور النور حمد، وهو يقف بعباءة التقوى أمام جبروت الإرهاب وأحباره من أيقونات منابر المَهَاجر:
(إن الحوار الذي يدور الآن في هذا المنبر [المنبر الالكتروني: السودان للجميع] يدل على أننا بدأنا ندخل مرحلة حوارية لقاحية جديدة، لم تعد أُطر وأدبيات المعارضة السودانية القديمة تسعف فيها. ما يسعف اليوم هو الفكر الحر المنفلت من تخشب الدوغما. أعني الفكر الذي لا تعميه الأُطر المتشكلة عن قراءة الواقع الذي ينزلق كل صبح جديد في مجارٍ شديدة السيولة. لقد مرت تحت الجسر في العشرين سنة الماضية مياه كثيرة أصبح معها إعمال الأطر القديمة في التحليل والاستنتاج مثل محاولة استخدام "الورق" القديم، الذي جاء به أهل الكهف حين دلفوا الى المدينة عقب نومتهم الكهفية الطويلة ممنين أنفسهم بأشهى طعام). ويضيف الدكتور النور حمد: (.. إن أهل الإنقاذ ليسوا كوماً واحداً، ولا يمثلون دون سائر القوى السودانية الأخرى الشر المطلق الذي يسير على قدمين. أجد نفسي في حقيقة الأمر أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأن فرصة خروج طاقة معارضة قادرة على تعديل مسارات النمو في السودان من داخل جسم الإنقاذ أكبر من فرص خروجها من داخل جسم القوى التقليدية التي تتجمع اليوم لتخلق "قوة معارضة فجائية". نحن بحاجة الى الديالوج لنحله محل المونولوج القائم الذي يلف كل الكيانات في مشيمات منفصلة. كل القوى السياسية السودانية ظلت تمارس المونولوج ولم تعرف الى الآن ما يقتضيه الديالوج. قليلون منا أولئك الذين بدأوا يحسون بأن الحوار القديم قد كان عقيماً وغير منتج. أعني ذلك العراك الذي ظل يلفنا عبر العقود السبعة الماضية. أي منذ مؤتمر الخريجين). ويمضى قدما فيقول: (داخل نظام الإنقاذ انقسام، ويمكن للفعل الإيجابي القاصد الى التغيير أن يمد جسوراً للطرف المنفتح في جسد الإنقاذ، والطرف المنفتح في شريكها في نيفاشا "الحركة الشعبية". هذان الطرفان يمكن أن يصبحا جزءاً من المتشكل الجديد الذي يعيّن مسارات المستقبل. لا يوجد كيان موحد على الاطلاق، ففي كل ما نظنه وحدة صماء انقسام من نوع ما. ولا حاجة بي للقول ان ذلك يقع في صلب ما يسمى بالديالكتيك، هيجيلياً كان، أم ماركسياً، أم روحانياً. وأنا أعوّل على عنصر الروح وعنصر الضمير في تشكيل مواقف الأفراد بأكثر مما أعول على "الحالة الآيديولوجية"و" الحالة الطبقية").
وفى مواجهه الإرهاب والإبتزاز كتب الدكتور النور حمد: (أنا ضد "الخم" بجميع أنواعه، وضد كثير من كليشيهات أدبيات المعارضة، الطارف منها والتليد، وضد التفكير الخطّي (Linear thinking). الفكر ليس قطاراً يسير على قضيب ولا يملك فرصة الخروج عنه. أنا أيضاً ضد التخويف، بالكلمة كان ذلك أو بالكاريكاتير. مهم جداً أن يصدر الناس عن ذواتهم دون خوف من أحد. مهم جداً أن تفكر كما تريد، وتقول كما تفكر، وتعمل كما تقول، وتتحمل مسئولية فكرك أو قولك أو عملك أمام قانون دستوري كما ذكر الأستاذ محمود محمد طه). ثم كتب: (يحسب شخصي الضعيف نفسه معارضاً. ولكني لا أحب أن أعارض بالكليشيهات الجاهزة وبالمفاهيم المبسطة وبالتفكير الخطّي وبخلق "كوم" معارض لا يغني ولا يسمن من جوع، ثم حراسته بالعصا الغليظة)، (لا أستطيع بأي حال أن أقول انه لا يمكن فعل أي شئ مطلقاً إلا إذا ذهبت الإنقاذ. هذا نوع غريب من التفكير، بل اني أجد في هذا النوع من التفكير دوغمائية ما بعدها دوغمائية. حين يعارض المرء عليه ألا يكون عمياً عن منزلق تصبح معه المعارضة فانتازيا نخبوية لا تعرف شيئاً عن حراك الواقع وهمومه. لا خير مطلقاً في معارضة لا تهتم بغير التمسك بما تسميه المبدأ، والسهر على حراسته بتدبيج الصيغ اللغوية البلاغية، وقمع كل من يشرع في التفكير بشكل مختلف).
أمام سطوة هذا الفكر النقي كما البللور، وصولة هذا الفارس الساطع كما جذوة الشمس، تضعضعت مواقع الإرهاب السياسى والثقافى، وسكتت مدافعها، وآوت الى متاحف تعصمها من رياح التغيير، وخفت ضجيج الأحبار من ديناصورات معارضة "الفانتازيا النخبوية!".
(3)
كنت قد عزمت أن يكون ختام هذه الحلقات نداء أتوجه به من موقع المناصحة إلى قادة وكادرات الإنقاذ والمعارضة في آن معاً باعتماد طريق (الحقيقة والإنصاف والمصالحة) كما استقر أمرها في حقل العلوم السياسية الحديثة مفهوماً نظرياً وآليات قضائية وتشريعية وتنفيذية، تكف المظالم وترد الحقوق وتضمد الجراح. وهو مفهوم سبقتنا الى دروبه الخضراء بلدانٌ أخرى، عسى أن يكون لنا فيه مخرجاً من الأزمة السياسية القومية المستحكمة التي تمسك بتلابيبنا. وذلك تأسياً بالتجارب الباهرة لبلدان العالم المحترمة التي تحررت من أسر مواضٍ بغيضة كالحٌ سوادها، ونجحت في زراعة بذور الثقة بين بنيها، ثم حصدت ثمار شجرة (الحقيقة والإنصاف) استقراراً وتنمية وشفاء صدور وهدأة بال، وهي بلدان يشهد التاريخ أن إرثها من المظالم وأهوالها مما يتضاءل أمامه ويتقزّم إرث السودان خلال العقدين المنصرمين، في مقدمتها جنوب افريقيا والارجنتين وشيلي وغواتيمالا وبيرو والسلفادور وبنما والمغرب. وعزمت أن أدعو قيادة الإنقاذ لأن تبدأ عهد (الحقيقة والإنصاف والمصالحة) بالاعتذار لشعبها عن أخطاء الماضي وخطاياه، وفي مقدمتها ادعاؤها الخارق غداة انقلابها العسكري في 1989م انه لا صلة تجمعها من قريب أو بعيد بتنظيم الجبهة الإسلامية القومية. وهو ادعاء مهما انتصبت مسوغات العصبة المنقذة له في عين نفسها فإنه يصادم مصادمة مباشرة القيم الأخلاقية الأساسية لشعب السودان، المستندة على الأديان السماوية وكريم المعتقدات، وهي في جملتها قيم تنبذ الكذب وتعده من الموبقات. وأجد نفسي، فضلاً عن النجاح المشهود لتجارب (الحقيقة والإنصاف والمصالحة) في بلدان عديدة، شديدة التأثر بالتجربة الحضارية للولايات المتحدة في ممارسة الاعتذار العلني لقطاعات معينة من شعوبها عن الخطايا التاريخية والمظالم التي لحقت بهم. والفهم الراسخ عند الشعوب المتحضرة التي تقدس وتكرّس ثقافة الاعتذار هو ان مشوار الإصلاح والتأهيل النفسي الذي يفسح الطريق أمام تجاوز انتهاكات الماضي ويفتح الطريق الى المستقبل لا يمكن له، مهما طال الزمان، أن يبدأ بداية حقيقية وأن يستقصد مراميه، دون إقرار المذنب بذنبه وطلبه الصفح علانية من ضحاياه، فرادى وجماعات، واتخاذ خطوات جادة بشأن رد المظالم القابلة للرد. وضحايا الإنقاذ ممن شربوا كؤوس عسفها وجورها وقهرها اعتقالاً وتنكيلاً وقتلاً وفصلاً وتضييقاً وانتهاكاً للحقوق ومصادرة للأموال، لا يقلون استحقاقاً عن غيرهم ممن طالتهم ذات الانتهاكات على يد أنظمه باطشة في بلدان اخرى من هذا العالم ثم دخلوا بعد ذلك في سلْم الحقيقة والإنصاف كافة، حكاماً ومحكومين. ولا شك أن مبدأ الاعتذار مقروناً بمبادئ الحقيقة والإنصاف يجد جذوراً راسخة في عقيدة الإسلام قبل أن يجد دعامته في ثقافات الشعوب الراشدة في عالم اليوم. والتوبة النصوح ورد المظالم من الشرائط الأساسية التي فرضها الإسلام وجعلها مناطاً لرجاء عفو الله سبحانه وتعالى.
ومن عجب أن الدول التي نمعن في وصفها بالاستكبار كانت سابقة الى الاعتراف بأخطائها التاريخية وطلب المغفرة من المتضررين من سياساتها. وآخر سطر في مسلسل الاعتذار عن أخطاء الماضي هو ما جاء في القرار التاريخي الذي صدر عن مجلس الشيوخ الأمريكي الأسبوع الماضي بالاعتذار للأمريكيين الأفارقة عن ظلامات الماضي وجاء فيه نصاً: (إن مجلس الشيوخ الأمريكي يقر بالطبيعة الظالمة والوحشية وغير الإنسانية للعبودية وقانون جيم كرو الذي رسخ التمييز العنصري على مستوى الولايات وعلى المستوى المحلي في البلاد حتى ستينات القرن الماضي. وان مجلس الشيوخ يقدم الاعتذار للأمريكيين الأفارقة نيابة عن شعب الولايات المتحدة عن المظالم التي ارتكبت بحقهم وحق أسلافهم الذين عانوا من العبودية). ومن الملامح الثابتة في الحياة العامة في الولايات المتحدة اعتذار الدولة عن أخطاء الحاضر والماضي، ففي عهد الرئيس السابق بيل كلينتون اعتذرت الحكومة الأمريكية لقطاعات معينة من شعبها عدة مرات عن حادثات عرفت بمخالفتها للتشريعات والأعراف الإنسانية ومن ذلك الاعتذار الشهير الذي توجه به الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في عام 1999م الى أسر أربعمائة أمريكي مصاب بمرض الزهري من منطقة توسكاجي بولاية الباما؛ حيث قامت وكالة طبية حكومية بإجراء تجارب عليهم دون علمهم لدراسة تطور المرض بين السود. وقد بدأت هذه التجارب في عام 1932م؛ حيث تم اختيار المرضى من الأميين والجهلة وإيهامهم بأنهم سيعطون علاجاً لمرضهم وكانوا يغرونهم بوجبات ساخنة عند دخولهم المستشفى وإجراء جميع الفحوصات عليهم وإعطائهم مادة ليس فيها دواء. وذلك على الرغم من وجود عقار البنسلين والذي كان يتم استخدامه فعلياً آنذاك على نطاق واسع لمعالجة الزهري. ولكن الإدارة الطبية رفضت أن تعطيهم ذلك العلاج حتى تتمكن من معرفة تطور المرض لأغراض الأبحاث والتجارب التي كانت تجرى عليهم. واستمرت هذه الجريمة البشعة إلى أن قام أحد الأطباء بمبادرة منه بكشف أسرارها فنشرها في الصحافة المحلية عام 1972م مما أثار حفيظة الرأي العام. وقد قام الرئيس بيل كلينتون بالاعتذار رسمياً نيابة عن الحكومة الفيدرالية الأمريكية عن هذه الممارسات اللاإنسانية في حفل مراسمي أجريَ بالبيت الأبيض بعد ثلاثة عقود من وقوع أحداثها. وغني عن البيان أن عدداً مقدراً من رؤساء الولايات المتحدة لم يستنكفوا الاعتراف بأخطائهم الشخصية واعتذروا عنها علانية وأشهر هؤلاء ريتشارد نيسكون الذي اعتذر لشعبه عن دوره في فضيحة ووترغيت التي هزت العالم في منتصف السبعينات.
وفي عام 2008م أعلنت أستراليا رسمياً من داخل البرلمان، على لسان رئيس وزرائها، اعتذارها كدولة لذرية السكان الأصليين لاستراليا الذين يعرفون في المصطلح المستخدم ب (الأجيال المسروقة)، ولسكان جزر توروز ستريت الذين أخذوا بالقوة من عوائلهم ومجتمعاتهم وأراضيهم قبل قرون، عن الأحزان والمآسي التي تسببت فيها الدولة الاسترالية في مراحل تأسيسها. وجاء في خطاب الاعتذار: (نحن اليوم نخطو الخطوة الأولى لمواجهة الماضي القبيح ونضع الأسس لمستقبل ينهي كل مظالم الماضي ويصنع مستقبلاً يضع حلولاً لمشكلاتنا المعلقة التي فشلت كل السياسات القديمة في استئصالها، مستقبل يستند على الثقة والاحترام المتبادل والمسئوليات المشتركة).
على خلفية هذا التراث المستوعب لعصارة تجارب كبرى والمعبّر عن حكمة بلدان وشعوب متقدمة، وأخرى سائرة في طريق النمو، والذي تتصل فيه عبقرية الإنسان بإرادة الخالق، ومعاملات الدنيا بقيم السماء، نأمل أن تجد الإنقاذ قاعدة صلبة تنطلق منها لبناء صروح الثقة بينها وبين بني وطنها، لا سيما في هذا المنعطف الحاد الذي تتجه فيه الأمة يداً واحدة وقلباً واحداً لإكمال خُطا التحول الديمقراطي المنشود. بغير الاعتراف بخطايا الماضي وتكريس ثقافة رد المظالم، يصعب تجسير الهوة النفسية بين الحكام والمحكومين، وتتبدد آمال النمو السياسي المنشود، وتغص بمرارة الاحباط واليأس كل الحلوق.. بلا استثناء!
بيني وبين القارئ
ورد في مقال الأسبوع الماضي عبارة جاء فيها: (وكنت أتمنى لو أن فتحي أقلع عن عادته في نقل محتويات محادثاته الهاتفية الخاصة وإذاعتها على الملأ بغير إذن أصحابها). وبالرغم من انني نقرت حروف هذه العبارة بأصابعي على مفاتيح الطابعة، إلا اننى عندما طالعتها لاحقاً في المقال المنشور بدا لي وكأن كاتبها شخص غيري، سطرها ثم دسها في بطن مقالي. ولكن الظن لا يغني من الحق شيئاً. ولا أداور في مقامي هذا ولا أناور، ولا أتمحك المعاذير. هذه عبارة لا يكتبها في كمال عقله وتمام وعيه من يعرف نسيج فتحي الضو وخلقه ومبادئه وطهارة نفسه. فتحي في شخصه النبيل محل حُبنا (وفي فكره الوبيل محل حربنا). وقد تقبل اعتذارنا بما عرفنا عنه من سماحة ورحابة صدر، بل ودعانا لزيارته وقضاء عطلة نهاية الأسبوع القادم في (كهفه) بشيكاغو فقبلنا الدعوة بسرورٍ غامر. الأمل معقود أن يقبل الاعتذار قراؤنا المشتركون.
أحزان منيسوتا
إزداد السودان فقراً بفقد الشريف عبد الرحمن عبدالرحيم الشريف الهندي، الذي عاجلته المنية بمدينة واشنطن الأسبوع الماضي. وقد رُوّع المجتمع السوداني بولاية منيسوتا التي اتخذها الراحل مقاماً له ولأسرته الصغيرة خلال العقدين المنصرمين برحيله المبكر. كان الفقيد شعلة من مشاعل منيسوتا المضيئة وفارساً من فرسانها الأماجد، وبغيابه تنطوي صفحة عبقة من صفحات الكرم والمروءة وطيِّب الخصال. نسأل الله أن يحسن قبوله وأن يجعل مقامه من جنان الخلد الفردوس الأعلى. صادق تعازينا لحرمه السيدة الفضلى كارين ولابنيه جمال وجميلة، ولسائر آل الشريف الهندي بالسودان والولايات المتحدة.
نقلا عن صحيفة ( الاحداث )
مقالات سابقة:


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.