كثيراً ما ينظر إلى بعض القادة السياسيين في الغرب بشيء من الاعجاب والشوق! فيحدثك أحدهم أن رئيس وزراء اليابان يأتي إلى مكتبه في المبنى الحكومي على دراجته الهوائية، وكذلك رؤساء دول عدة، ويتمنى أن يشاهد سياسييه يفعلون ذات الأعمال التي تنم عن تواضعهم، ورغبتهم في التواصل مع الناس، (إنه فن التواصل والتواضع في أسمى صوره) وليس من خلف الزجاج المظلل لسياراتهم الفارهة، ولو نظرنا إلى البنية النفسية التي تحدثنا بمثل هذا السلوك الذي نصفه بالقوامة والاستقامة، فإنها لتعكس حالة من الضيق من تصرفات بعض سياسيي هذا البلد أو ذاك، وتعكس كذلك الانزعاج من بعد المسافة بين السياسي ومن يفترض أنهم مواطنوه (ليسوا رعاياه!)، فهل سلوك السياسي في بلادنا ينم عن ترفع وتعالي عن الناس؟! أو أن السياسي لا يشجع اختلاطه مع العامة، فضلاً عن رفضه النزول بينهم!، اعتقد ولست جازماً أن سلوك البعض يبدو ملوكياً أو كهنوتياً أيضاً (مليء بالأسرار، والتي قد لا تكون كذلك)، فيختفي السياسي ولا يظهر إلا عبر وسائط، وأن كان سلوك بعضهم فيه الكثير من التواضع الجم، والأريحية السودانية المحببة إلى نفوس الكثيرين منا، لكن والحال كذلك لنطرح السؤال، ما هي مواصفات السياسي (النموذج)؟ وكيف نريده نحن المواطنون! بالطبع لو أجرينا استبيان وسط شريحة عشوائية من الناس، سنحصل على إجابات متقاربة، مثلاً نريده (حلو اللسان، طيب القلب، يملك اذنين ولسان واحد ليسمع أكثر، أن تكون داره مفتوحة لقضاء حوائج الناس..الخ)، وفي الختام سنحصل على نسخة طبق الأصل من جلالة حضور الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضوان الله عليه، ولكنني لن أكون سعيداً بنتيجة كهذه! والسبب أن زمان بن الخطاب ليس كزماننا، ومن الخفة المعرفية أن نطمح في وجود سياسي قريب الشبه من مولانا عمر بن الخطاب، الخليفة العادل، طيب، ما المطلوب من مواصفات لسياسي يعيش زمان غير زمان الخليفة الثاني؟. الواقع أن وظيفة السياسي اليوم ليست كما كان العهد في وقت الخلفاء الراشدين، الخليفة كان حينها يحكم بإمارة الدين والسلطة، يعيش سلطته في دينه، ودينه في سلطته، إنه نموذج عالي المقام لرجل يعيش من أجل مبادئه، وطبيعي أن في ذلك الوقت كان الحاكم هو أمير المؤمنين، أما اليوم فالصورة تغيرت، السياسي موظف في الجهاز التنفيذي يخضع للقوانين المنظمة لعمله، ويحاسبه مجلس الوزراء أو البرلمان (لم يحصل أن فعلها!)، جيد لنقترح سياسي عصري وبمواصفات (سلفيه)؟ تعود إلى تجربة بن الخطاب المثال الأكبر، والنموذج الأشمل للسياسي محل حب الناس وودهم.. ورأينا أن نجعلها 10 مواصفات، لنرى ماذا نقترح؟ أولاً: أن يستخدم السياسي لغة خطاب مفهوم للجميع، يحادثهم بما يفهمون، لا يستخدم عبارات تنم عن غموض، أو لا تفهم بطريقة مباشرة، ويتحلل من تبيعة دراسته في الجامعات الأمريكية أو الغربية عموماً، فلا يداخل حديثه بعبارات أجنبية تقف دلالة على تلقيه تعليم أعلى من الآخرين، فهو هنا يمارس طغياناً لغوياً ، ودكتاتورية ثقافية تبعده أكثر فأكثر عن مستمعيه، فما فائدة اللغة إن عجزت عن الاتصال والتواصل؟ ثانياً: أن يكون للسياسي مساهمات اجتماعية في محيط بيئته التي خرج منها، ويستمع إلى ملاحظات كبار أهله وعشيرته، لتتكشف له ذاته أكثر، فالولد المشاغب الذي كان صغيراً يضرب أبناء القرية، كان يفعل ذلك بدافع غريزي يحركه ضد الآخرين، أما الآن فهو مسئول عن من يحب ولا يحب، فالشريط لا بد أن يعاد من أوله، عن ما كان عليه في صغره، كيف كان يلهو؟ من هم أصدقائه؟ وكيف كانت علاقتهم به، هذا سيجعله أقرب إلى فهم نفسه، فيروضها على القبول بفكرة إنسانيته التي تشبه كل البشر، فلا يظنن أنه (مختار)، أو أن ذكائه الحاد وراء تسنمه موقع تنفيذي، فأكيد أنه ليس أذكى الناس، على الأقل في محيطه الذي نشأ فيه، لذا فإن عليه أن يطبق مقولة سقراط (أعرف نفسك..!). ثالثاً: أن يتمتع السياسي بحس فني محب للحياة، ذلك سيجعله يتفهم أهمية أن تكون السياسة ذات بعد وجداني، فيتغير خطابه، وتتحول أمثلته التي يضربها من قبيل (لغة طق الركب) إلى لغة إنسانية راقية، تكسبه أنصار جدد. رابعاً: أن يبتعد السياسي عن ممارسة دور شيخ القبيلة، الذي يمارس سياسة (الصمت)، فيقوم إلى الناس متى ما اشتد أمر ولزم. خامساً: على السياسي أن يترك لوجهه الضوء، ولا يعتمد التكشيرة في وجه مواطنيه (يا أخي تبسمك في وجه أخيك صدقة). سادساً: أن يخضع نفسه لبرنامج قراءة ولو ساعتين في اليوم، لا نطالبه أن يقرأ لفرجيينا ولف - ماركيز أو جورج أمادو، ليقرأ روايات ولو بدافع التسلية حتى يكتشف عوالم أخرى فتتلطف روحه، ويعرف إلى أي مدى لهذه الحياة جوانب أخرى. سابعاً: بطبيعة الحال نريده شفافاً صادقاً فيما يقول، لكن ليمارس صدقه بينه ونفسه، قبل الآخرين.. حينها لن يقطع وعوداً لا مجال لتطبيقها، وسيكون واقعياً غير مضلل. ثامناً: متى ما شعر بعجزه تقديم إضافة لمواطنيه، يتنحى ويفتح المجال لآخرين يودون اختبار ملكاتهم وقدراتهم في خدمة الناس، وسيظل ولو بعد تنحيه مضرباً للمثل، ومحل تقدير. تاسعاً: أن يكون السياسي مرناً في تعصبه، يملك ناصية الحوار حتى مع معارضيه، إنها الخصومة من أجل المصلحة العامة. عاشراً: رغم صعوبة ذلك؛ فإن على السياسي أن يختار بطانته التي لابد من وجودها وفق ما تقدمه هذه النخبة المختارة صاحبة الكفاءة، لكنها تفتقر إلى مواجهته متى ما أخطأ التقدير. ترى لو طبقنا هذه المعايير على سياسيينا (حكومة ومعارضة) كم سينال السياسي نسبة نجاح وفقاً لهذه المواصفات العشر؟ لا أدري، لكن لو تحققت نسبة لا تتجاوز الت(40%) مما ننشد فسيكون السياسي قد اجتاز اختباره عند مواطنيه.. ولنمنحه درجة امتيازاً مع مرتبة الشرف..!