بورتسودان وأهلها والمطار بخير    المريخ في لقاء الثأر أمام إنتر نواكشوط    قباني يقود المقدمة الحمراء    المريخ يفتقد خدمات الثنائي أمام الانتر    ضربات جوية ليلية مباغتة على مطار نيالا وأهداف أخرى داخل المدينة    مليشيا الدعم السريع هي مليشيا إرهابية من أعلى قيادتها حتى آخر جندي    الأقمار الصناعية تكشف مواقع جديدة بمطار نيالا للتحكم بالمسيرات ومخابئ لمشغلي المُسيّرات    عزمي عبد الرازق يكتب: هل نحنُ بحاجة إلى سيادة بحرية؟    فاز بهدفين .. أهلي جدة يصنع التاريخ ويتوج بطلًا لنخبة آسيا    بتعادل جنوني.. لايبزيج يؤجل إعلان تتويج بايرن ميونخ    منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    عقب ظهور نتيجة الشهادة السودانية: والي ولاية الجزيرة يؤكد التزام الحكومة بدعم التعليم    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رجال حول الرئيس ... بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 01 - 07 - 2009


[email protected]
(1)
استهواني إلى حد كبير الحبر الغزير الذي انسكب مدراراً خلال الأسابيع القليلة الماضية من أقلام عدد من كبار الكتاب وصغارهم، ومن هم في منزلة بين المنزلتين، في جهدٍ مثابر لتسوّر حائط الحديث الشريف (اذكروا محاسن موتاكم)، أو القفز عليه بالزانة، أو الالتفاف حوله سيراً على الأقدام، وصولاً إلى الهدف المنشود وهو التنديد بالرئيس الراحل جعفر نميري والنعي على شخصيته وصفاته وذم سيرته في الحكم وفضح سوءاته السياسية. والأثر النبوي (اذكروا محاسن موتاكم) من الآثار الأكثر تداولاً في الحياة الاجتماعية السودانية والأعمق رسوخاً في الوجدان العام. وقد استقرَّ في يقين الأمة، خلفاً وسلفاً، أن أخلاق الفروسية تأبى على الحي الذي يتبختر فوق ظاهر الأرض ممتطياً صهوة العافية أن يجلد الموتى، وهم رُقودٌ هُمود في بطن أديمها، بسياط لواذع ما كانوا يملكون لعذابها دفعاً لولا أن عاذوا بحِمَى العدالة الكبرى وباتوا في كنَف مليك مقتدر.
ومع أن المقام مقام جدٍّ لا يسع الهزل، إلا اننى لم أستطع أن أقاوم نوبات الضحك اللاإرادي التي انتابتني وأنا أتابع، في الصحافة الورقية والمنابر الإسفيرية، المغامرات الفقهية والفتوحات الشرعية وهى تولد من رحم معاناة كتاب وكاتبات لم يُعرف عنهم وعنهن علو الهمة في علوم الدين أو قوة الشكيمة في استنطاق إرث الصالحين، ولكنهم مع ذلك شمّروا وتنمروا وخاضوا محيط الاجتهاد خوضاً حتى بلغوا حدود الصين، يبتغون تضعيف الحديث الشريف ومحاصرته وتحجيمه، أو على الأقل تحييده، تحسباً لهجمات مضادة تلتحف رداء الدين ومكارم الأخلاق، تصدهم عن بغيتهم فى نبش قبر الرئيس الراحل ونتف ريشه. وهو أمر لا يشِفُّ عن تنطع هؤلاء بقدر ما يُسفر عن توسع سطوة الدين توسعاً تسيطرياً، واندياح سلطته فوق سماء الصحافة والثقافة، بحيث بات حرياً بمن رغب في التصدي للأقضية العامة أن يحرص على التعامل المبكر مع الهواجس الدينية وتحييدها وإبطال اليورانيوم المخصّب فى مفاعلاتها حتى لا تفضي به إلى التهلكة.
وانبساط سلطة الدين في حيوات الناس مما يُحمد بطبيعة الحال حمداً كثيراً طيباً، لولا أنه حال بيني وبين رؤية كثير من أحبابي من عِترة أهلي الأقربين عند زيارتي الأخيرة الى السودان بعد عهد متطاول من الغياب: أزور الدار وأسأل أين عمتنا فلانة؟ فيقال: ذهبت إلى دروس تحفيظ القرآن، ثم أزور الدار الأخرى: أين خالتنا فلانة؟ فيقال ذهبت إلى دروس تجويد القرآن. ليس هو تحفيظٌ فحسب، بل تحفيظٌ وتجويد. بارك الله في من حفظ فجوّد. وبارك في الأمة الحافظة المجوّدة. وقد قصدت مع صديقٍ مأتماً لنقدم تعازينا فلما أذّن في الخلق مؤذن المغرب قام الناس قومة رجلٍ واحد إلى أبسطة الصلاة تاركين الصيوان من خلفهم قاعاً صفصفا. وعجبت فقد تركت الخرطوم قبل عقد ونصف وفيها التقاة والعُصاة. جماعة غالبة تقوم إلى الصلاة، وجماعة من الخوالف تتقهقر حتى يكمل التقاة الشعيرة. وعدتُ بعد سني الغياب فإذا بالتقوى "يقطّع بعضها بعضا" كما يقول الأحبة فى شمال الوادي. ولكن صديقي لم يرد أن يتركني هانئاً أسعد باكتمال التدين عند قومي، فقد همس في أذني حين أشركته في خاطراتي قائلاً: في زمانك ما كان يصطف للصلاة إلا المتطهرون المتوضئون، بينما يتوارى العصاة منحسرين حتى يفتح الله عليهم بنور الهداية. ولكن الذي تراه اليوم وتحسبه انبساطاً لسلطان العقيدة إنما هو في حقيقته من قبيل التدين الصورى الزائف الذي غمر قطاعات واسعة من المجتمع، هل ستصدقني إذا قلت لك بأن عدداً مقدراً من الذين رأيتهم وقد استقاموا للصلاة كالبنيان المرصوص منذ قليل لم يكونوا قد توضأوا للصلاة أصلاً؟ كبرت كلمةٌ تخرج من فمه. ما هذا الذي يقول صاحبي؟ لم أصدقه بالطبع. سمعت ورأيت ووقفت على مؤشرات عدة استجمعت من ثناياها ما حملني على الاعتقاد بأن جملةً من مظاهر الحياة العامة والخاصة تتمسح بمسوح الدين تمسحاً، في غير مسوّغٍ من الدين نفسه، على نحوٍ يستفز العقل ويُحيّر الفؤاد، ولكنني لم أقبل قط دعوى صاحبي بأن الأمر قد تلف تلفاً بلغ حد أن يستوي الناس في صف الصلاة على غير وضوء!
(2)
بيد أنّ البحث المتجرد من التهجُّسات والوساوس، في شأن جعفر النميري وشانئيه من كُتّاب الورق والأسافير، يهدينا إلى أن تقويم الشخصيات العامة التي يكون لإراداتها المطلقة وتأثيراتها النافذة القدح المعلَّى في تشكيل مسارات الحياة البشرية هو من أشغال التاريخ لا من بضاعة الدين. هو من مهمات العلم لا من مسائل الفقه. صحيح أن العلم نفسه يمكن أن يتدين، ولكنه مع ذلك يظل علماً في مبناه ومعناه، له مضماره ومعياره، وشروطه اللازمة وقوانينه الحاكمة. وحين يدوِّن تاريخ السودان المعاصر والحقبة المايوية على وجه التخصيص، من هم أهل لذلك من الرجال والنساء، فإن سود الصحائف لا بد واجدةٌ مكانها بحذاء بيِضها في كتاب جعفر النميري. وليست صحائف النميري بيضٌ كلها ولا سودٌ كلها. الرجل في نهاية المطاف ليس استثناءً من زمرة الحكام الذين وضعتهم أقدار الله الغالبة على دكك الحكم في بلدان العالم الثالث بُعيد أفول الحقبة الاستعمارية عند منتصف القرن العشرين وما بعده، فأحسنوا وأساؤوا وأصلحوا وأتلفوا. ومنطق التاريخ مثل منطق الدين، لا فرق فيه بين عربي أو أعجمي إلا بالتقوى: تقوى الله في الدين، وتقوى الشعوب في التاريخ.
(3)
ليس كتاب جعفر النميري همُّ يومي وغرض مقالي. ذلك شغلٌ له عدته وعتاده وأهل ذكره من كهنة التاريخ. ولكن حام في ذهني يوم أتاني نبأ رحيل الرجل شريطٌ مهلهلٌ متسلسل من أحاديث وأحداث سمعتها وشهدتها خلال سنوات كنت فيها قريباً من الرجل إلى حد ما بحكم ثغرةٍ مدنية تنفيذية تسنمت ذُراها. ولا أعرف لماذا توقفت في ذلك الشريط المتداعي عند أحاديث وأحداث بعينها، وتجاوزت غيرها مما بدا لي في أوانه وزمانه أكثر قيمة من حيث المعاني والمغازي. وقف بي الشريط عند أحد من آحاد أول الثمانينات، والأحد في زماننا ذلك هو يوم انعقاد الجلسة الأسبوعية الدورية لمجلس الوزراء التي كان يرأسها رئيس الجمهورية، كما هو مقتضى النظام الرئاسي الذي حكم النميري تحت ظله اثنا عشر عاماً، منذ إقرار دستور 1973م الذي تضافر على صناعته ثلاثة من عتاة المثقفين السودانيين: الدكتور جعفر محمد علي بخيت، الدكتور منصور خالد، والأستاذ بدر الدين سليمان، وأقره البرلمان الذي عرف باسم مجلس الشعب الأول. منح الرئيس الفرصة عند مناقشة ما عرف ب (البرنامج السياسى الشامل) لوزير الاتصالات الدكتور أحمد السيد حمد، أحد القادة التاريخيين للحزب الاتحادي الديمقراطي، والذي كان قد دخل حكومة النميري مستوزراً عام 1978 في أعقاب المصالحة الوطنية. ركبنى الهم والكدر، كما ركب زملائي في فريق السكرتارية، فلم يكن نظام التسجيل الالكتروني قد أدخل، وكانت السكرتارية وقتها تقوم بتدوين محاضر مجلس الوزراء تدويناً يدوياً. ومتابعة الوزير أحمد السيد حمد ورصد وتسجيل مداخلاته من أكثر المهام عُسرا ومشقةً، فمن طبع الرجل انه لا يتقيد بموضوعات الأجندة، ولا يدخل مباشرة في صلب البند المطروح، بل ولا يريح بالك فيهديك إلى مراده من الكلام أصلاً، بل يدور فى حلقات حلزونية ثم يقفز قفزات بكلمات منثورة في مطارف الهواء، تحاول في صبر أن تمسك بمعانيه فتعييك المحاولة. صوّب الوزير كلماته إلى الرئيس نميري فوصفه بأنه بلغ عند شعبه مبلغ القادة التاريخيين من أمثال جواهر لال نهرو وجوزيف بروز تيتو وجمال عبد الناصر. وأضاف بأن شعب السودان سيسطر له بأحرف من ذهب عطاءه وبلاءه في سبيل نمائه ونهضته. انتفخت أوداج النميري وهو يستمع إلى كليمات الوزير السياسي المعتق حتى خلته سينفجر من فرط ما امتلأت نفسه بالرضا والحبور. وفجأة وبغير مقدمات انقلب الدكتور أحمد السيد حمد في اتجاه معاكس لم يكن ليخطر لأحد على بال. قال بصوته المجلجل، إن جعفر نميري قد أكمل مهمته التاريخية على خير وجه (لم يوضح الدكتور ماذا كانت تلك المهمة التي أنجزها الرئيس على خير وجه ونوعها وطبيعتها)، ثم أضاف أنه قد آن الأوان للنميرى أن يعيد أمانة الحكم إلى الشعب وأن يشرع من فوره في خطى استعادة الديمقراطية وتهيئة البلاد للإنطلاق نحو مستقبل وطني تتوسع فيه المشاركة ويكتمل بناء الديمقراطية التي يتوق إليها شعب السودان. هنا ارتج على النميري الذي اُخذ على حين غرة وانقلب وجهه واكفهر، وسيطر عليه غضب شديد، ثم شرع في الرد على الوزير قبل أن يكمل الأخير حديثه. كان النميري، رحمه الله، من الذين إذا تمكن منهم الغضب فقدوا المنطق جملةً واحدة فيطربقون ويخربقون بعبارات تفتقر إلى الترابط. ولكن الذي لفت نظري حقاً في رده الغاضب على الوزير هو ما كشفه عن تصور متواضع شديد السذاجة لمفهوم الديمقراطية ومحتواها في ذهنه. تمحور حديث النميري حول أن مايو – بحسب زعمه - فتحت أبواب المشاركة فعلياً لكل الناس بدون فرز، ثم أضاف لدهشتي الواسعة: ( ما في مثقف سوداني مايو ما أدتو فرصة يكون وزير!) ثم غادر كرسيه في صدر القاعة ودخل إلى مكتبه تاركاً وزراءه وكأن على رؤوسهم الطير لا يدرون ما يفعلون ببقية الأجندة، لولا أن تدخل نائبه اللواء عمر محمد الطيب ليدير الجلسة في غياب الرئيس المُغاضب. وثورات غضب جعفر نميري، وما أنتجته من كلمات وعبارات تقافزت على لسانه كاشفة عن رؤاه وأنماط تفكيره تجاه المعضل من القضايا، كانت بالنسبة لي شخصياً من العوامل الأساسية التي أماطت اللثام عن صفات مركزية في شخصية الرجل.
وقد تكرر ذات المشهد السابق بعد أشهر قليلة بين رئيس الجمهورية وحاكم إقليم دارفور الأستاذ أحمد إبراهيم دريج الذي خاطب الرئيس أثناء جلسة لمجلس الوزراء منتقدا حملات تفريغ العاصمة التي استهدفت بصفة رئيسية – بحسب دريج - أبناء أقاليم بعينها منها إقليم دارفور، علاوة على ما وصفه الحاكم بضعف تفاعل الحكومة المركزية مع الأوضاع الناجمة عن الجفاف والتصحر، التي بلغت ذروتها بانتشار المجاعة في إقليم دارفور في مبتدأ الثمانينات. وكان من نتيجة حديث الحاكم أن غادر الرئيس القاعة مغاضباً كعادته بعد تعقيب منفعل يفتقر كسابقه للتماسك المنطقي والحجج الموضوعية. وكانت تلك هي جلسة مجلس الوزراء التي غادر على أثرها الأستاذ أحمد إبراهيم دريج السودان ولم يعد حتى انهيار نظام مايو في أعقاب الانتفاضة الأبريلية. ولعلها أول سابقة في تاريخ السودان يغادر فيها شاغل لمنصب دستوري البلاد، هاجرا مسئولياته الدستورية. وقد كان هذا المشهد الأخير مما شغلني كثيراً لا سيما وأن أمر المجاعة التي ضربت مناطق متعددة من السودان وبلغت ذروتها في العام 1984م، وتعامل حكومة نميري معها كان قد أهمني واستغرقني استغراقاً كاملاً لفترة من الزمان قمت خلالها بتناول القضية أكاديمياً؛ حيث اتخذتها مادة لأطروحتي للدراسات العليا في علم السياسات العامة والإدارة. ذلك أنني على حرصي الشديد على تلمس الدوافع الحقيقية لبعض مواقف الرئيس السابق والتي كان لها أكبر الأثر في استفحال المجاعة، أخفقت إخفاقاً مزرياً في استيعاب مقاصد الرئيس وحكمته. والثابت انه قد كانت لمماطلة نميرى وتردده في السماح لمنظمات الإغاثة الدولية بالدخول إلى السودان لمباشرة جهود محاصرة الأزمة الإنسانية الكبرى التي أحاقت بالملايين من فقراء السودان عند بداياتها في مقدمة العوامل التي أدت إلى تفاقم الأزمة وانفلاتها واتخاذها ابعادا مأساوية، بتدمير المقومات الاساسية لحياة الملايين وهلاك الآلاف المؤلفة من البشر. ففي جميع الجلسات التي طُرح فيها الأمر على طاولة مجلس الوزراء كان الرئيس يردد باللغة العامية السودانية، بغير تبديل او تعديل، عبارة واحدة يتيمة في مقام توضيح الدوافع الكامنة وراء موقفه اللا إنساني: (لو أعلنا المجاعة، وفتحنا الباب للمنظمات، العالم ده كلو حيجينا داخل ويتكبّ لينا بي جاي). وقد حاورت في وقت لاحق عدداً من وزراء الحكومة التي عاصرت مأساة مجاعة 1984م، التى ما أظن الا ان التاريخ سيسجلها فى كتاب جعفر النميرى بمداد من قطران، مستفسراً عن المدلولات والمعاني الواقعية لعبارة (العالم كلو يجينا داخل بي جاي)، وعن حقيقة المخاطر المفترضة او المزعومة الناتجة عن دخول المنظمات الدولية المتخصصة في إدارة الكوارث في وقت لم يكن السودان يملك فيه أداة تنفيذية للطوارئ. وقد فوجئت بأن جميع من قصدت من الوزراء لم يكن أفضل مني حالاً في معرفة وادراك معنى عبارة الرئيس واستكناه حقيقة هواجسه. ما أبشع الشموليات الدكتاتورية، الجوع والبؤس والهلاك ينقر على ابواب الملايين ويحصدهم حصدا وليس ثمة من يعرف معنى عبارة واحدة تمثل عند كثيرين الفارق بين الحياة والموت!
(4)
بعد انقضاء ما يقرب من ربع قرن على سقوط نظام جعفر نميري جاز للمتخصصين في الرصد والبحث التاريخي والمهتمين إجمالاً أن يصوبوا النظر بإتجاه وثائق تلك الحقبة. والعهد المايوي من أفضل العهود السياسية السودانية تدويناً وتوثيقا. وكنت قد أشرت فى مقال سابق إلى التشريعات العريقة السارية في عدد من الدول المتقدمة التي تلزم السلطات التنفيذية برفع ستار السرية عن ملفاتها ومستنداتها الرسمية وإتاحة حق الإطلاع عليها للباحثين و لعامة الجمهور خلال فترات زمنية محددة. والقانون الذي يكفل هذا الحق المسنود بالدستور في الولايات المتحدة هو قانون حرية المعلومات لسنة 1966م. ويلزم القانون جميع وكالات الحكومة الفدرالية بفتح ملفاتها للراغبين في الإطلاع عليها، مع استثناءات محددة تتصل بمقتضيات الأمن القومي. ويتكرر عين التشريع بما يقارب ذات الروح والنصوص في جميع الدول الأوربية بلا استثناء، فضلاً عن عدد كبير من الدول ذات التقاليد الديمقراطية الراسخة في القارة الآسيوية كالهند واليابان. وربما كنا في الحالة السودانية على وجه التخصيص في مسيس الحاجة إلى مبادرة تشريعية ربما كان أولى الناس بتولي كبرها هم ممثلو القوى السياسية المختلفة المقيمة تحت قبة البرلمان الحالي على علاته. وبالنظر الى القِصَر النسبي لعمر الدولة السودانية، منذ مراحل التأسيس وحتى يومنا المشهود، فإن ربع القرن الذي انقضى على نظام الرئيس جعفر نميري يعتبر حقاً فترة كاملة المعقولية يحق بعدها الإلحاح على سن تشريعات تجيز فتح ملفاتها، من واقع الوثائق الرسمية، ووضعها في مجال النظر المتاح لصفوة المتخصصين وجمهرة الناس على حد سواء. وأعني بهذه الوثائق تحديداً محاضر جلسات مجلس الوزراء خلال الفترة الممتدة من 1969 حتى 1985م، ومحاضر المجلس الأعلى للاقتصاد الوطني، ومحاضر مجلس الأمن القومي، ومحاضر المكتب السياسي لتنظيم الإتحاد الاشتراكي السوداني وغيرها من الكيانات الحاكمة. ومن المعلوم أن أجهزة الدولة التنفيذية كانت قد حرصت على تقليد راسخ يقضي بحفظ هذه الوثائق وفق أنظمة إدارية ممعنة في السرية. وإن تيسر تسرب بعض أسرارها خلال العهد المايوي بطرق استثنائية غير مشروعة، سبق أن أشرت إلى بعضها ضمن سلسلة مقالات نشرتها في وقت سابق حول مذكرات وزير رئاسة مجلس الوزراء السابق الأستاذ أبوبكر عثمان محمد صالح. غير أن الصحافي السوداني محمد سعيد محمد الحسن كان قد تمكن بوجه غير مشروع أيضاً، ربما بمعاونة واحد من كبار موظفي الأمانة العامة، من الحصول على وثيقة واحدة متضمنة لمحضر آخر اجتماع لمجلس الوزراء في العهد المايوي، وهو الاجتماع الذي عُقد صبيحة السادس من أبريل من عام 1985م والذي ترأسه النائب الأول لرئيس الجمهورية اللواء عمر محمد الطيب، وقام محمد سعيد بنشر أجزاء منه في كتاب له منشور. ولم تقم أي جهة قانونية بملاحقته كما كان مفترضاً. وكانت تلك الجلسة التاريخية من أغرب ما شهد التاريخ، إذ كان مجلس الوزراء قد فقد شرعيته واقعياً بإذاعة الفريق عبد الرحمن سوار الدهب لبيانه ذلك الصباح، ولكن النائب الأول لرئيس الجمهورية الذي لم يكن على علم بالتطورات العسكرية والسياسية خارج القاعة، استمر مترئسا للاجتماع، منهمكاً في تقويم الوضع السياسي والأمني وإصدار التوجيهات للوزراء بحماس وهمة، حتى تقدم منه أحد أفراد السكرتارية لينبئه بأن القوات المسلحة استولت على السلطة، فتوقف ثم غادر هو وجميع الوزراء مبنى المجلس على عجل مبهوتين مرتبكين. وذلك باستثناء الوزير الجنوبي أندرو ويو، الذي بقيَ لفترة من الوقت مستغرقاً في نوبات متصلة من الضحك الصافي العميق قبل أن يغادر إلى منزله راضياً مرضياً. ولم يكن بوسع أحد أن يلومه على وصلة الضحك والتعليقات الساخرة الطريفة التي أمتعنا بها، فقد كان المشهد العام الذي انهار عليه نظام جعفر نميري كما رأيناه يتهادى أمام أعيننا، مما يبعث على الضحك، بأكثر مما يبعث على أية مشاعر أخرى.
(5)
وحين يزال الغطاء عن الوثائق ذات الهول وتستنطق الحقائق من شهودها العدول، ويكتب تاريخ الحقبة المايوية الثقاة من أهل الذكر، فسيرى الناس أن وزراء جعفر نميري لم يكونوا كلهم أشباحاً خائفة، ذوي قلوبٍ واجفة وأيدٍ مرتجفة، كما أشيع بين الورى. سيعرفون انه كان هناك من وزرائه من حفظ السودان في سويداء القلوب ولم يخشَ في حقوق شعبه لومة لائم. سيقرأون كيف وقف وزير المالية الدكتور عبد الرحمن عبد الوهاب ومحافظ بنك السودان وعضو مجلس الوزراء فاروق المقبول، ووزير التجارة فوزي وصفي كالأسود المتوثبة يجابهون بعيون تقدح شرراً الملياردير السعودي عدنان خاشقجي، الذي أتى به جعفر نميري إلى داخل قاعة مجلس الوزراء في سابقة لا مثيل لها في الدول ذات السيادة، يصحبه عدد من السماسرة الدوليين يقودهم الراحل الدكتور بهاء الدين محمد إدريس، ليعرضوا على المجلس خطتهم لاحتكار كل إنتاج السودان من القطن لعشرين عاماً، فارتدَّ النميري وشيخه السعودي وسماسرته إلى خارج القاعة كظيمين خاسئين، بعد أن تواثق الوزراء الثلاثة على أن السودان قمين بتسويق ثرواته بمعرفة بنيه وليس بحاجة إلى السماسرة الدوليين. وسيقرأ الناس عن الراحل الدكتور يوسف الخليفة ابوبكر وزير الشئون الدينية والأوقاف الذي أمره النميري بأن يعيد إلى موقعه إماماً لمسجد عزله الوزير عن دور الإمامة بعد أن قبضت عليه الشرطة متلبساً في قضية أخلاقية ولكنه كان ذا صلات واشجة ببعض كبار رموز الدولة، فرد الوزير: أمرك يا سيادة الرئيس واجب الطاعة ولكن أمر الله أوجب، وأنا احترمك ولكنني أخشى الله، ولا ألقاه أبداً وأنا خائنٌ أخون المسلمين وأنصِّب عليهم إماماً أعلم أنه لا يصلح للإمامة. سيقرأ الناس ويعرفون كيف وقف النائب العام الراحل الرشيد الطاهر بكر بجلَد ومضاء عزم ضد مهازل محاكم الطوارئ التي أنتجتها قوانين سبتمبر وفضح جهل قضاتها وتدنى كفاءتهم القانونية، وكيف انه واجه الرئيس بالأخطاء الجسيمة التي ارتكبها القاضي في محاكمة البعثيين الشهيرة فلما ردَّ القاضي، الذي أحضروه أمام الرئيس، بأن المحامي طه إبراهيم جربوع شيوعي، أجاب الرشيد الطاهر بعزم وحسم: القضاة الجالسون على منصة العدالة لا شأن لهم بالانتماء السياسي للمترافعين، وإنما شأن القاضي الحجج والدفوع والبينات ومدى مطابقتها للقانون. وحجة المحامي طه إبراهيم جربوع في مواجهتك ناهضة يسندها القانون.
نعم، سيقرأ الناس ويعرفون عن عشرات ومئات النماذج الساطعة لمن حملوا أمانة الوظيفة السياسية العامة تحت ظل حكومات النميري بحقها، جنباً إلى جنب مع إخوتهم من السارقين والمنافقين ونهازى الفرص وأهل الهمم الواطية.
كان نظام النميري قصعةً كبرى، جمعت فأوعت. استوى فوق صهدها الصالح والطالح. وقد حكم النميري ظالماً وحكم مظلوماً. ظلم الناس وظلمه الناس. وبنو البشر يظلمون أخاهم الإنسان حين يأتونه في البكور والعشيات ويصبون في أذنيه شعراً من شاكلة: لا حياة بلا شمس ولا سودان بلا نميري!
نقلا عن صحيفة ( الاحداث )
مقالات سابقة:


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.