منظمة حقوقية: الدعم السريع تقتل 300 مدني في النهود بينهم نساء وأطفال وتمنع المواطنين من النزوح وتنهب الأسواق ومخازن الأدوية والمستشفى    وزير الثقافة والإعلام يُبشر بفرح الشعب وانتصار إرادة الأمة    السودان يقدم مرافعته الشفوية امام محكمة العدل الدولية    هل هدّد أنشيلوتي البرازيل رفضاً لتسريبات "محرجة" لريال مدريد؟    "من الجنسيتين البنجلاديشية والسودانية" .. القبض على (5) مقيمين في خميس مشيط لارتكابهم عمليات نصب واحتيال – صورة    دبابيس ودالشريف    "نسبة التدمير والخراب 80%".. لجنة معاينة مباني وزارة الخارجية تكمل أعمالها وترفع تقريرها    النهود…شنب نمر    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    ندوة الشيوعي    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    المرة الثالثة.. نصف النهائي الآسيوي يعاند النصر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ضد الدولة الفاشلة ... بقلم: محمد عثمان إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 03 - 07 - 2009


[email protected]
قبل المقال:
كعادتها، في مثل هذا الوقت من كل عام، أصدرت مجلة (فورين بوليسي) و مؤسسة (صندوق السلام) الأمريكيتين، قائمتهما للدول الفاشلة حول العالم، وكعادتهما وضعتا السودان ضمن أفشل ثلاث دول حول العالم، وفقاً للمعايير التي وضعتها الدكتورة باولين بيكر أستاذة العلوم السياسية ورئيسة صندوق السلام منذ عام 1996. في هذا المقال نريد أن نقول إنما أتت به المؤسستان الأمريكيتان خطأ (كامل الفضيحة) وإن المعايير التي وضعتها الدكتورة (الداعية إلى تقسيم العراق من أجل تيسير التجارة معه مثلاً) لا تهدف لخدمة الحقيقة وإن هدفت إلى خدمة المصالح التجارية للولايات المتحدة. إن هذا السجل –في تقديرنا- هو واحد من أوضح وسائل إستخدام المعرفة والإعلام خزياً وأحد أكثرها بشاعة ومفارقة للأخلاق والقيم الإنسانية.
في مالابو العاصمة وحدها يعيش ستون ألف شخص دون أن تتوافر لديهم شبكة مواصلات عامة .
و في مالابو و غيرها من المدن لا تصدر الصحف، و يعتمد الناس الذين يعيشون هناك ويموتون دون أن يكملوا الخمسين عاماً كعادتهم، دائماً علي محطة إذاعية قصيرة المدي قامت بإبلاغهم ذات يوم ضمن برنامج اسمه (بيزي ندوان ) أو (اطفئوا النيران) " إن صاحب الفخامة الرئيس تيودورو أوبيانغ نغوما مبساغو يستطيع أن يقتل أي شخص دون أن يخضع للحساب و دون أن يتعرض لدخول جهنم لأنه هو نفسه ( إله )، ولأنه علي إتصال مباشر بالله سبحانه و تعالي".
و الإله الحاكم في غينيا الإستوائية، الدولة الصغيرة التي لا تلفت إليها النظر في غرب إفريقيا، هو إله فريد فهو رجل ناعم الصوت و خفيضه للدرجة التي يضطر معها جلساؤه إلي إحناء رؤوسهم حتي يسمعوا ما يدلي به. و الرجل ذو كلمة تسوى ذهباً، فهو يحكم ثالث أكبر دولة منتجة للنفط في أفريقيا بعد أنجولا ونيجيريا. دولة يفترض أن يكون مواطنوها الأغنى في القارة السمراء و ثاني أغنى سكان الكوكب الأرضي إذ يبلغ نصيب الفرد منهم - و هذا علي الورق فقط – 26,000 دولاراً امريكياً تقريباً في العام، أي أفضل مثلاً من الأمارات العربية المتحدة التي يبلغ نصيب الفرد فيها من الدخل القومي ( 21,040) دولاراً.لكن الغينيون الاستوائيون و الذي يتجاوز تعدادهم نصف المليون نسمة بقليل يعيشون في ملكوت فخامة الدكتاتور أوبيانغ علي حوالي دولار و احد في اليوم أي إن المواطن السوداني (البائس) يتلقي أرزاق(17 ) شخصاً من مواطني غينيا الإستوائية تقريبا بنصيبه البالغ 2,400 دولار في العام.
لكن غينيا الإستوائية غير موجودة في ال 35 دولة الأولي في قائمة الدول الفاشلة التي أعدتها مجلة (فورين بوليسي ) الأمريكية الواسعة التأثير بالتعاون مع مؤسسة (صندوق السلام) والتي تصدّرها السودان للمرة الثانية علي التوالي.
و (الرأس الكبير )، أو كما يسمي الرئيس أوبيانغ نفسه، ليس ناعماً في الفعل كما في الصوت فقد أخرس دون حساب عدداً هائلاً من مواطني بلاده دون أن يهتم بذلك أحد. و بالرغم من ذلك لم يدخل أوبيانغ يوماً في قائمة أعظم خمسة من ديكتاتوريي العالم و التي تصدرها كل عام مجلة (بارايدParade )الأمريكية المرموقة.
و أوبيانغ الذي يقل وزنه عن ال 50 كيلوجراماً و الذي يضطره المرض للسفر للخارج كل أسبوعين لتلقي العلاج لا يعيش في الخفاء فقد قدم العام الماضي عرضاً محضوراً في مبني وزارة الخارجية الأمريكية.
فيً حلة بالغة الأناقة رسمية و زرقاء و قميص ملكي أبيض و ربطة عنق يتقاطع فيها اللونان الأزرق والأحمر، ظهر الرجل في تمام العاشرة صباحاً من اليوم الثاني عشر من أبريل السنة الماضية، برفقة أقوي امرأة علي كوكب الأرض.
تقدمت الدكتورة كوندوليزا رايس بخطوة واحدة علي (أعظم قائد لفرقة اليفانفارون العسكرية و رب جزر بيوكو العظيمة كما يقول أحد ألقابه الرسمية) و تحدثت للصحفيين قائلة : " إنني شديدة السرور اليوم لأن أرحب برئيس غينيا الإستوائية الرئيس أوبيانغ ... شكراً لك جزيلاً علي حضورك هنا ، إنك صديق عزيز ونحن نرحب بك " وكانت الدكتورة رايس صادقة تماماً وهي تصفه بالصديق لأن 80 % من نفط بلاده الذي تنتجه شركة إكسون موبيل الأمريكية يذهب إلي بلادها المتعطشة دوماً للنفط فيما يستورد هو 24% من إحتياجاته أو إحتياجات بلاده -لا فرق – من بلادها البعيدة.
لم يضع أوبيانغ الفرصة، تحدث بالإسبانية التي جود معرفتها إبان دراسته في كلية (فرانكو! ) العسكرية فقال " ظلت بلادي منذ وقت طويل علي علاقة جيدة بالولايات المتحدة و زيارتي اليوم، وببساطة، تجيء لتدعيم هذه العلاقات و لإقامة مزيد من روابط التعاون مع بلادكم ". أعتقد أن الدكتورة رايس منحت الرجل إبتسامة خفية و واسعة حين أكد علي رغبته في المزيد من التعاون.
لم يسأل أي من الصحفيين و لو عن طريق الخطأ سؤالاً واحداً عن انتهاكات حقوق الإنسان في البلد الملقب ب (كويت أفريقيا) بل لم يتحدثوا عن ذلك علي الإطلاق. منح هؤلاء الصحفيون فرصتين للسؤال فسألوا عن إيران و عن التهديد النووي الذي تمثله.
إذن من الواضح فإن الصحفيين الذين يقومون بتغطية أنشطة وزارة الخارجية الأمريكية لا يعرفون شيئاً عن إنتهاكات حقوق الإنسان هناك بينما نعرف نحن ذلك. .إذا كانوا يعرفون فقد كان بوسعهم أن يسألوا وكلنا يعرف شغف الإعلام الأمريكي بأوضاع حقوق الإنسان في العالم كله من الصين الكبرى وحتي ميكرونيزيا الصغري.
في الوقت الذي سمح فيه للرئيس أوبيانغ بتلك الخطوات الحرة، حرم نظيره السوداني حتي من متعة التجول في العالم الجديد، و ظل رهيناًً هو ورفاقه لمحبس لا يزيد عن عشرة كيلومترات حول مبني الأمم المتحدة في نيويورك حين زار أمريكا منذ عامين أو ينيف. لسنا معنيين بذلك لكنا نريد المقارنة هنا علي أكثر من مستوى.
لماذا يحرم البشير مثلاً من التجول و قد ظلت أبواب البيت الأبيض و الكابيتول هيل وبالطبع البنتاغون مفتوحة أمام ديكتاتوريي العالم من كل العصور رؤساء و ملوك و أمراء و مني أركو مناوي (مع التقدير والإحترام).
إن الأمر ليس علي صلة دائمةً بالنفط لكنه علي الدوام بقي بعيد الصلة عن الأخلاق و القيم.
أن الحضارة الغربية أو "البيضاء" والتي تتربع و اشنطن اليوم علي قيادتها، أثبتت دائماً إنها خطرة وإنتقامية و غير أخلاقية ، أذكر أنني قرأت ذلك مرة لمؤسس مجلة (فورين بوليسي ) البروفيسور صمويل هنتنجتون.
إن الطريق شديد الوعورة فحين تسعي للدفاع عن وطن تحمله في الخاطر و تم وصمه خطأً و بسوء نية بأنه دولة فاشلة تبدو وكأنك في حالة دفاع عمن يحكمه و هو أمر يستوجب التبيان بأن الدفاع عن السلطة أياً كانت ليس ما يشغلنا فقد اضطررنا لمغادرة هذا البلد قبل إحدي عشرة سنة و لم نعد حتي الآن..إنتهي البيان!
قبل إثني عشرة سنة كنت أقرأ في مكتبة البشير الريح العامة بأم درمان كتاب ( الإستشراق ) للبروفيسور إدوارد سعيد و ترجمة الدكتور كمال أبوديب و ما زلت أذكر كيف كان الغضب يتنامي بداخلي بسبب ما كنت أحسبه نظرة متعسفة ينظر بها الغرب للشرق حتي صدمني البروفيسور سعيد بأنه يأمل ألا يكون الرد علي كتابه هذا هو كتاب آخر بعنوان(الإستغراب) و فهمت أن الرجل يريد للشرق أن يعيد تقديم نفسه من جديد للغرب بأدوات الغرب.
كوندوليزا رايس المرأة المعجزة لم تتسرب لقمة المجتمع الراقي الذي يسيطر عليه البيض ، بأدوات السود (التظاهر و حمل رايات الحقوق المدنية و الرفض و غير ذلك) لكنها فرضت نفسها علي ذلك المجتمع باستخدام أدواته.
إذن نستعير الآن هذه الفكرة و نقول إن محاولة نزع ديباجة (الفشل ) من علي صدر السودان لا تعني بالضرورة إلصاق تلك الديباجة بصدر الولايات المتحدة. هذا مناف للعدل يكفي فقط رمي تلك الديباجة البائسة بعيداً.
حددت مجلة ( فورين بوليسي ) إثني عشر معياراً لتحديد ما إذا كانت الدولة فاشلة أم لا ونوردها هنا باختصار :
تزايد الضغوط و التغيرات السكانية
حالات لجوء و نزوح داخلي واسعة تتسبب في أوضاع إنسانية معقدة.
وجود تراث من الرغبة في الإنتقام الجماعي و المظالم الجماعية و الرعب الجماعي.
نزوح جماعي حاد و هروب للأدمغة و الكفاءات و نشوء لجاليات في المنفي.
عدم المساواة في النمو الإقتصادي بين المجموعات السكانية.
التدهور الإقتصادي الحاد.
تدهور مشروعية الدولة.
التدهور المتصل في الخدمة العامة.
تعليق القانون أو استخدامه بشكل عشوائي و إنتشار إنتهاكات حقوق الإنسان بشكل واسع.
أن تعمل الأجهزة الأمنية كدولة داخل الدولة.
صعود النخب المتخاصمة.
تدخل الدول و القوي الأجنبية .
و بالرغم من أن هذه المعايير يمكن تفسيرها بطرق مختلفة، وتطبيقها علي العديد من الدول، بما في ذلك الولايات المتحدة إلا أن هذا لا يخدم غرض ما نخوض فيه الآن، لكننا نريد أن نقول: ومن قال للمجلة الرفيعة (فورين بوليسي) إن ما ذكرته من معايير يجد قبولاً كونياً ؟
في كتابه الرائع ( الدول الفاشلة ، إساءة إستخدام القوة و الإعتداء علي الديمقراطية ) الصادر بالإنجليزية وضع البروفيسور ناعوم شومسكي (أهم مفكر علي قيد الحياة حسب وصف جريدة النيويورك تايمز) معاييره الخاصة لتحديد الدول الفاشلة.
و في هذا الكتاب يجادل شومسكي بأن بلاده الولايات المتحدة بدأت تأخذ ملامح الدول الفاشلة التي لا تستطيع حماية مواطنيها من العنف فيما تسيطر عليها حكومة تعتقد أنها فوق القانون سواء علي الصعيد الداخلي أو الدولي.
رمز أمريكي آخر من الضفة المقابلة لشومسكي في الفكر و السياسة عالج أيضاً موضوع الدول الفاشلة . في كتابه ( بناء الدولة ، الحكم و النظام العالمي في القرن الواحد و العشرين) يوضح فرانسيس فوكوياما أن " الدول الضعيفة أو الفاشلة تتسبب في كوارث إنسانية و تدفع بموجات بشرية هائلة نحو الهجرة و تعتدي علي جيرانها و توفر المأوي للإرهابين".
و لا نحسب بالطبع إن المفكر الرفيع و التائب عن أفكار (المحافظين الجدد) قد وضع هذه المعايير حتي تلائم بلاده، لكنه سيكتشف عما قريب أن بلاده أثبتت أنها تمثل أكبر خطر محتمل و كامن يهدد العالم . ستنقل وسائل الإعلام كيف أن بوسع واشنطن –و قد فعلت- أن تقتل مئات الآلاف من البشر، تدفع بالملايين لترك ديارهم و تهاجم أي بقعة في هذا الكوكب دون أن يبدو عليها (أي على النخبة الحاكمة فيها) أي مظهر من مظاهر الحسرة أو الندم.
نحن لا نجادل هنا بان الولايات المتحدة صارت دولة فاشلة لكن المصادفة هنا جعلتها تلائم المعايير التي صاغها صاحب (نهاية التأريخ و الإنسان الأخير) . أما بالنسبة لمعيار توفير المأوي للإرهابيين فليس سراً أن الولايات المتحدة توفر مأوي كريماً لقتلة مثل (أورلاندو بوش) و (بوسادا كاريل) اللذان تطالب فنزويلا بتسلمهما دون جدوي رغم القانون و الشواهد و الأدلة كما أشار لذلك ناعوم شومسكي في حوار رائع نشر علي الموقع الإلكتروني (الديمقراطية الآن) مع الصحفية المعروفة (آمي قودمان) التي حسبها مدير تحرير صحيفة الرائد (د. ياسر محجوب الحسين) رجلاً فقال عنها لحظةً تباهى فيها بما لا يعرف (الصحفي المرموق).. لا علينا الآن بهذا.
في ذلك الحوار إتهم (المواطن الأمريكي الأكثر فائدة)حسب وصف صحيفة (بوسطن غلوب) له بلاده بالخطورة و إنها تدفع باحتمالات نشوء حرب نووية. و حين يتحدث شومسكي أو فوكوياما يصمت الجميع.
ماذا لو نظرنا فيما يلي علي أنها معايير لتحديد الدول الفاشلة:
أكثر من نصف السكان علي قناعة بأن حكومتهم تقوم بخداعهم و أنها تتصرف بشكل يتعارض مع مصالحهم.
تشعر غالبية السكان بعدم الأمن في الخارج و خصوصاً إذا طلب منها التصريح علناً بالبلد الذي تنتمي إليه .
تورط رموز السلطة في فضائح سواء في المحاكم أو في وسائل الإعلام أو في تصورات المواطنين.
تعتقد الغالبية من السكان أن الحكومة تتصرف بشكل سري و تخفي عنهم الحقائق بإستخدام أساليب الحيلة و الخداع.
لا تجد الحكومة موافقة المواطنين في غالبية قراراتها و ممارساتها.
تعتبر الدولة خطيرة و لا يمكن التنبوء بتصرفاتها سواء من قبل المواطنين أو الدول الأخري.
تعيش الدولة كلها في حالة من الرعب و تقوم الحكومة بالإستفادة من استثمار هذا الرعب.
تزايد المشاكل الإجتماعية في الدولة مثل : المخدرات ، الإيدز ، الإدمان ، البطالة ، الهجرة غير الشرعية إلخ ...
تقوم الدولة بالتعامل بقسوة إزاء معارضيها أو منتقديها.
الضرائب العالية التي تدفع بالإستثمارات المحلية الكبيرة للهروب بأعمالها للخارج أو تخريب النظام الإقتصادي و المالي.
و يمكن أن تطول القائمة كما يمكن لأي شخص أو مؤسسة تتوافر لديها الرغبة أن تضع معاييرها وأن تدعي بأنها اتبعت منهجاً أكاديمياً صارماً في صياغة هذه المعايير دون أن تفكر مسبقاً في أن تستوعب هذه الدولة أو تلك من الدول (العاصية).
لنعد إلي معايير (فورين بوليسي ) التي تحدد فيها خمس مؤسسات هامة باعتبارها جوهر الدولة وهي القيادة ، الجيش ، الشرطة ، القضاء ، و الخدمة المدنية.ففي تقريرها إياه، تقول المجلة أن السودان فيه قيادة أفضل من تلك التي في تشاد لكنها شبيهة بالقيادة العراقية. هل سمعتم أحداً يقول أن السودان والعراق يحكمان الآن بمستوي واحد من القيادة؟ دعوا وزراء المؤتمر الوطني بعيداً هل يوجد الآن في الحكومة العراقية من يتمتع بمؤهلات و قبول و مساندة سلفاكير و دينق ألور و تابيتا بطرس علي سبيل المثال؟
في يوم ما قبل عدة أشهر قررت المعارضة التشادية إقصاء الرئيس إدريس ديبي عن السلطة . و بمساندة واضحة من السلطات السودانية قضي عساكر المعارضة نصف يومهم ذاك أمام مبني البرلمان التشادي في قلب العاصمة إنجمينا و لم يتمكن أحد سوي فرنسا (العضو الدائم في محلس الأمن ) من حماية ديبي ونظامه لكن المجلة صنفت الجيش التشادي بأنه أفضل من السوداني و لم تقف عند هذا الحد بل قالت أن الجيش العراقي أفضل كذلك من الجيش السوداني (حرام عليكم!).
بالتأكيد لا تقصد الصحيفة جيش العراق إبان دكتاتورية صدام و لكنها تقصد الجيش الحالي الذي أثبت حتي الآن وبمساعدة حوالي مائة و أربعين ألفاً من الجنود الأمريكيين عجزه عن حماية المنطقة الخضراء في بغداد إبان مؤتمر صحفي يعقده رئيس الوزراء و ضيفه الأمين العام للأمم المتحدة.
و عن الشرطة يقول التقرير أن السودانية و رصيفتها العراقية تتساويان في الضعف أمام التشادية الأقوي فيما تعتبر الخدمة المدنية و القضاء التشاديين أفضل من رصيفيهم القائمين علي خدمة الشعب السوداني ، كما كتبت الصحيفة دونما حياء.
يضع التقرير ثلاث وعشرين دولة بين السودان وسريلانكا بالرغم من أن العالم ظل يستمع إلي أخبار حركة متمردة هناك تقوم بإستخدام الطائرات الحربية و طائرات التجسس في حربها ضد الحكومة المركزية.
أذكر هذا علي سبيل المثال و لا أريد أن أزعج القاريء بمقارنات مع دول مثل هايتي أو جزر سليمان اللتان تجدان موقعاً أفضل من السودان في قائمة المجلة المرموقة.
أن الولايات المتحدة دولة تستمد قوتها من أعظم أرصدتها و هو التنوع و التعدد. هناك مجتمع متعدد و قوي و هذه حقيقة تتعرض الآن للتهديد. لقد أشرنا فيما سبق لمجلة (بارايد) و (فورين بوليسي) مثلاً ، إذن لنمض قدماً فنتصفح كتاب المعلومات الذي تضعه وكالة المخابرات المركزية الأمريكية علي شبكة الإنترنت وفي هذا الكتاب نجد كماً هائلاً من المعلومات عن السودان من نظام الحكم إلي عدد مستخدمي الهاتف لكن بالمقابل فإن هناك القليل جداً عن حقوق الإنسان في غينيا الإستوائية نقرأ فيه سطران يشيران في اقتضاب إلي أن عائدات النفط لم تسهم في تحسين حياة الناس .
دعونا نقول بشيء من الثقة أن السودان ليس دولة فاشلة لكن الحكومة التي تسيطر عليه الآن ليست حكومة ناجحة تماماً، لا شك في ذلك.
لن نعود إلي الوراء كثيراً لإثبات ذلك لكن منذ إنقلاب يونيو 1989 م قادت النخب الإسلامية المتصارعة البلاد بطريقة واحدة ، متشابهة و مكررة تتفق علي شيء واحد هو (تجاهل المواطنين و تجاهل حقوقهم و تطلعاتهم ) و لهذا يحسن بالسودانيين دائماً أن يتذكروا قول جورج أورويل " إن الشخص لا يقيم نظاماً دكتاتورياً من أجل حماية الثورة بل يقوم بالثورة من أجل إنشاء نظام دكتاتوري" ، و قد أثبت المؤتمر الوطني و الحركة الشعبية لتحرير السودان و حركة مني أركو مناوي و حركة خليل إبراهيم و التجمع الوطني الديمقراطي أن السيد أورويل كان علي حق تماماً.
و منذ أيام الدكتور حسن الترابي لم يسع (ى) الإسلاميون للحصول علي مساندة الشعب بل عمدوا إلي قهره و لم يتجاهلوا الرأي العام فحسب بل نظروا إليه باستخفاف و احتقار.
من جهتها أولت الحركة الشعبية أقل إهتمام ممكن لمستحقات شراكتها في السلطة مع المؤتمر الوطني وساهمت في تحويل إتفاقيات السلام إلي عقود لتقاسم السلطة، وليس الشراكة فيها، هذا إذا اغفلنا ما ظلت الحركة ترفد به الإعلام و مجالس المدينة من أخبار عن خلافاتها الداخلية المتصلة.
هكذا تقاسم الأقوياء السلطة و خسرت الجماهير رهاناتها علي تحقيق السلام. فيما يثبت مطلع كل صبح جديد إن تجاهل مساندة الجماهير والتغاضي عن مطلوبات التعاطي الإيجابي مع الرأي العام الشعبي تجعل الحكومة أكثر عرضة و ضعفاً أمام الضغوط الدولية.
ليس هناك غالبية كبيرة من الناس تعير إهتماماً لما يحدث للبلاد بسبب الشماتة في السلطة و نظراً لنجاح الحكومة في إحتكار الدولة لصالحها وما لم يتم فك هذا الإحتكار فإن البلاد ستظل تصاب بالسوء.
ما لم تتم إعادة الدولة ( و ليس السلطة أو الحكم ) للمواطنين فسنظل نترقب البلاد و هي تتجه نحو الفشل الكامل و حينها لن نكون فخورين بذلك.
* نشر المقال للمرة الأولى على نطاق محدود في أغسطس2007 ، ونعيد نشره الآن لملاءمته لمقتضى الحال.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.