(لقد حملتموني أمانة المسئولية،وأقول لكم جميعاً أنني وليت عليكم ولست بخيركم، وسأبذل كل جهدي للوفاء بالالتزامات التي قطعتها على نفسي أمامكم، ليس لدى حقوق ولكن علي واجبات، فأعينوني ما أطعت الله فيكم):بهذه العبارة استهل الرئيس المصري المنتخب الدكتور محمد مرسي عهداً جديداً في أرض الكنانة،بعد ثورة أطاحت بأطول النظم الشمولية عمراً في العالم العربي، وبعد أن ضحى الشعب المصري الشقيق بما يزيد عن ألفين من خيرة شبابه مهراً للحرية والكرامة حتى تحقق له ما يريد. إن فوز مرسي يأتي كواحدة من ثمرات الربيع العربي الحلوة، خاصة أنه قد جاء بعد ممارسة ديمقراطية متحضرة وشفافة تمت تحت إشراف قضائي كامل, ومراقبة مشددة من منظمات دولية وإقليمية ومحلية، وهذه في حد ذاتها سابقة دستورية يمكن أن تستفيد منها دول المنطقة. لقد فاز مرسي برئاسة مصر ليرث حملاً ثقيلاً، فالاقتصاد المصري يوشك أن ينهار، والديون الخارجية تقارب مائتي مليار دولاراً، ومعدلات البطالة عالية جداً، والبنية التحتية تحتاج لإعادة ترميم، والوضع الدولي يتوجس خيفة من وصول الإسلاميين إلى سدة الحكم، بعد فترة طويلة استطاع خلالها الغرب أن يروض كل الأيدلوجيات في المنطقة العربية من اشتراكية، وقومية، وعلمانية، ولكنه لم يتعامل مع نظام للحكم الإسلامي بصورة مباشرة منذ سقوط الدولة العثمانية. أما الآن فإننا نرى الإسلاميين يصلون إلى كراسي الحكم عبر صناديق الاقتراع، في عدة دول عربية مثل المغرب، وتونس، وربما ليبيا، حسب قراءة الوضع الراهن فيها، وكل ذلك يبشر بعودة الشعوب العربية للحكم بما يتوافق مع هويتها الفكرية وتراثها السياسي الذي حقق لها السيادة والريادة لعصور طويلة قبل أن تجتاحها موجة الهيمنة والاستعمار الأوربي الذي فرض عليها أنماط حكم، وسلوك اجتماعي وأخلاقي، وعلاقات اقتصادية و سياسية لا تتوافق مع واقع حياتها وفكرها في نواحي كثيرة. عموماً، من الطبيعي أن تنظر الحركة الإسلامية في مصر لتجارب الدول من حولها، لعلها تجد ما يمكن أن تهتدي به. وفي هذا الصدد هنالك تجربتان ماثلتان للعيان: أولاهما التجربة التركية التي يقودها رجب طيب أردوغان، رئيس حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا.ومن المعلوم أن أردوغان قد وصل إلى سدة الحكم بعد صراع مرير مع الزمرة العلمانية التي كان يسندها العسكر في تركيا، وتجد الدعم والمساندة من كافة الدوائر الغربية، لأن تركيا بحكم وضعها الجغرافي هي بلد نصفه أوربي، و نصفه الآخر أسيوي، ولكنها عضو في حلف الناتو، وبسبب الإسلام حرمت من عضوية الوحدة الأوروبية، ولذلك كان على أردوغان أن يسبح في بحر سياسي متلاطم الأمواج، داخلياً ودولياً، إلا إن الرجل بحكمته و حنكته استطاع أن يختط لتركيا طريقاً سليماً في الحكم يقوم على مبدأ العمل ببطء ودون صدام مباشر مع خصومه حتى يعيد دولاب الحكم في بلاده إلى العمل بمبادئ الإسلام. ولذلك استطاع أن يسحب البساط من الجيش، الحارس الأول للعلمانية في تركيا، كما وضع خطة اقتصادية محكمة للنهوض بالاقتصاد التركي، مع العمل على إعادة المظهر الإسلامي للحياة العامة في بلاده دون استفزاز لأية جهة كانت. وفي اعتقادي أن الوضع في مصر أشبه ما يكون بما عليه الحال في تركيا، ومن هنا ننصح أخوتنا في مصر بالأخذ بالتجربة التركية، التي ظلت تحقق مكاسب سياسية ملموسة حتى الآن. فمصر خارجة للتو من هيمنة العسكر والأجهزة الأمنية التي زرعها نظام مبارك في كل مفاصل الدولة في مصر حتى تتحقق له الهيمنة، فبالتالي إذا اصطدم الرئيس مرسي ومؤيدوه بهؤلاء من أول وهلة، ربما يعرض التجربة الوليدة لامتحان عسير قد يعصف بالمجتمع المصري لا قدر الله. أما التجربة الأخرى التي ربما ينظر إليها أخوان مصر، فهي التجربة السودانية. ولكن هذه الأخيرة قد شابتها بعض الإخفاقات، فالشعارات والقيم لم تنزل على أرض الواقع، ولم يقدم النموذج والقدوة المطلوبة،كما لم يكن هنالك اهتمام بالجانب الاقتصادي والمعيشي. أما الأخطاء فقد اعترف بها الأستاذ علي عثمان طه، ونصح الدكتور مصطفى عثمان أخوان مصر بتفاديها.ومن أسوأ إفرازات التجربة السودانية الانشقاق، مما ترتب عليه نتائج وخيمة أعاقت المشروع الحضاري؛فقد حمل بعض الأخوان السلاح ضد الدولة وقادوا حملات التمرد، بمساندة من شيخ الجماعة نفسه، وكانت هنالك إساءات لا تمت للأخوة الإسلامية بصلة. وإن كانت الإنقاذ قد حققت نجاحات عسكرية و معدلات نمو عالية في أول عهدها، فأن الوضع قد بدأ يتغير، خاصة بعد استحقاقات نيفاشا التي أدت إلى انفصال الجنوب، وبروز حكومة معادية تماماً في جوبا، وفقد السودان على إثرها عائدات النفط، الأمر الذي أدخل الاقتصاد السوداني في نفق مظلم، نظراً لوجود أجندة خارجية تنفذ ضد السودان ومشروعه الحضاري! يضاف إلى ذلك تهم الفساد التي طالت كثيراً من القيادات،ودخلت حتى مجلس الوزراء.ومما يأخذ على تجربة الإسلاميين في السودان محاولة إضعاف الأحزاب السياسية خاصة التقليدية، والاعتماد على الأجهزة الأمنية لإدارة العمل الاقتصادي والاجتماعي والسياسي بما في ذلك الانتخابات مما إلى ابتعاد كثير من المفكرين والسياسيين عن ساحة العمل العام وأضعف الأداء وحرم الناس من التعبير عن رأيهم بحرية كاملة سواء عبر الصحافة أو أجهزة الإعلام الأخرى أو الندوات العامة.هذا علاوة على ظهورنعرات قبلية وجهوية تأخذ على تجربة الإسلاميين السياسية في السودان. كما جعلت الحكومة السودانية الوظيفة الدستورية عملاً جاذباً،حتى ترهل الجهاز السياسي والتنفيذي، وأثقل كاهل الميزانية العامة، نتيجة لمبدأ التمكين الذي يقوم على الولاء للتنظيم دون الكفاءة؛ فالسياسة والسلطة فتنة. وعلى الرغم من هذا لا يمكن إنكار الجوانب الإيجابية التي حققتها التجربة السودانية، على محدوديتها؛فقد واجهت الإنقاذ ضغوطاً دولية رهيبة، أضعفت قدرتها على الأداء في كثير من المجالات، على الرغم من وفائها بكل التزاماتها، وقد تواجه الحكومة المصرية ذات الضغوط، إذا لم تحسب خطواتها بدقة.من جانب آخر، فإنّ فوز مرسي يعد منحة لحكومة السودان، إذ أصبح من الممكن التنسيق بين البلدين في كثير من المجالات التي تصب في مصلحة شعبينا. الحكومة المصرية المقبلة ينتظرها عمل كبير حتى تخرج بمصر إلى بر الأمان، وتعيدها إلى موقع الصدارة على المستويين العربي والإسلامي، ولذلك لابد من بذل جهود مضنية حتى يكون فوز مرسي، أو بالأحرى الأخوان المسلمين، منحة لا محنة للشعب المصري. إن فوز الأخوان المسلمين في هذه الانتخابات يضعهم أمام تحدٍ كبير، فإما أن يلتزموا بقواعد اللعبة الديمقراطية، ويقبلوا بتداول السلطة سلمياً أو أنهم سوف ينسفون كل المبادئ الحضارية، التي ظلوا ينادون بها، حتى جعلت الشعب المصري يصوت لهم، في أول تمرين ديمقراطي شفاف، تشهده البلاد منذ عقود طويلة.