موضوعي اليوم عن باراك اوباما الرئيس. ومؤكد انه آخر مقال في سلسلة لم تنشر تباعاً لكنها بدت لي مترابطة. هكذا اظن وهكذا أعتقد. كتبت ما فيه الكفاية عن الرجل. كتبت عنه عندما كان يروج لكتابه "جرأة الامل" وقلت إن كل المؤشرات ستجعل منه رقماً مهماً في الانتخابات الاميركية. كتبت عنه اثناء الانتخابات التمهيدية وقلت إن حظوظه كبيرة جداً. ثم كتبت عنه عندما أنحصر السباق بينه وبين هيلاري كلينتون وقلت إنه سينتصر عليها ويحظى بترشيح الحزب الديمقراطي. وكتبت عنه عندما دخل السباق الرئاسي مع المرشح الجمهوري جون ماكين، وكان رأيي انه الفائز. وكتبت عن خطاب النصر في حديقة "غرانت بارك" في شيكاغو وعن " حلم" مارثن لوثر كنغ الذي تحقق، وعن ظاهرة" الاوبانزيم"، وقبل ذلك كتبت ثلاثة مقالات عن "اوباما" الذي نحتاج الى نموذجه في بلادنا. أستقر رأيي اليوم ان اكتب آخر مقال في هذه السلسلة عن اوباما الرئيس وليس اوباما " الكاتب" أو "السيناتور" أو "السياسي" او" المرشح" او" الظاهرة التاريخية". اوباما الرئيس هو المحك الآن ، في كل المراحل السابقة كان باراك اوباما طليقا يقول ما يعتقد . متحرراً من قيود المسؤولية وما تفرضه من حرص على انتقاء الكلمات ومنهجية في عملية صنع القرار، ثم طريقة او طرائق اتخاذ القرار. اوباما الرئيس يعني انه اصبح داخل قيود المؤسسة، وهي في بلد مثل اميركا مؤسسة تعج بالقيود. المؤسسة هنا مؤسسات , تبدأ من جماعات الضغط الصغيرة وتصل الى مؤسسات ذات سطوة تفوق احياناً صلاحيات الرئيس وقدراته، مثل مؤسسة " الكونغريس" القادرة على شل اي رئيس متى ارادت، وكيف ما شاءت. يعتقد الاميركيون ان تجربتهم قابلة للتطبيق في كل زمان ومكان، وهي في حقيقة الامر ليست صالحة لاي زمان أو لاي مكان، الا زمانهم هم، ومكانهم هم. وهنا استطرد قليلا. اميركا بلد حديث يشكو من قلة التاريخ، في حين ان بعض مناطق اخرى من العالم تعاني كثرة التاريخ ، وأفضل مثال على ذلك منطقة الشرق الاوسط. اعتقد الاميركيون خاصة بعد الحرب العالمية الثانية وعندما نقلوا منظمة الاممالمتحدة الى ميناء نيويورك الذي يعج بكل شيء ، ان نموذجهم يمكن الترويج له من خلال هذه المنظمة الدولية. واياً كان موقفنا يميناً او يساراً ، شرقاً او غرباً، جنوباً اوشمالاً ، لا أظن ان عاقلاً يمكن ان يتحدث عن حسنات كثيرة لهذه الأممالمتحدة وفي اعتقادي أن قيام إسرائيل أكبر سيئاتها، يومها منحت ارضاً لديانة في الشتات، وحرمت شعباً فوق الارض من وطنه. مشكلة اوباما الآن انه يريد التمرد على المؤسسة، لكن لا خيار له سوى ان يحكم عبر مؤسسة يريد تحطيمها ، لذلك كان من بين اولى قراراته ان يكبح من نفوذ وسطوة جماعات الضغط لكن لم يكن له خيار سوى ان يقرر مثلاً ان لا تتجاوز مرتبات كبار موظفي ادارته راتباً شهرياً يتجاوز تسعة الآف دولار في الشهر ، بيد ان الذين جمد مرتباتهم هم أنفسهم ابناء خلص للمؤسسة، ولانه يريد التمرد على المؤسسة يمكن القول إنه دخل التاريخ، لكن هذا لا يعني انه سينجح في مناطحة هذه المؤسسة. باراك اوباما ليس هو ارنستو شي غيفارا الذي اعتقد ان لا سبيل للتعايش مع "الغرب الامبريالي" وان الحل هو التصادم معه في اي مكان على الارض ، جرب الثورة في كوبا، وارد ان تكون هناك ثورة اخرى في افريقيا وفي مناطق اخرى من العالم ، لذلك انتقل في نهاية المطاف الى بوليفيا وهو يظن ان الفلاحين اكثر قدرة على الثورة والصمود من عمال المدن ، ثم كانت نهايته البطولية التي اصبحت اقرب ما تكون الى الاسطورة عندما صاح في وجه قاتله "اطلق النار انك تقتل رجلاً". باراك اوباما زعيم في بلد لايحتفي كثيراً بالزعماء ، بلد يهيمن عليه السياسيون الاذكياء القادرون على اقناع المؤسسة بقدراتهم وامكانياتهم. حاول اوباما طمأنة المؤسسة عندما تزحزح من اليسار الى الوسط وعلى الرغم من ذلك لم تطمئن هذه المؤسسة بعد ، حاول طمأنة المؤسسة عندما جاء بهيلاري كلينتون وزيرة للخارجية وهي التي قالت له " عار عليك اوباما سنلتقي في اوهايو". وحاول طمأنة المؤسسة حين قرر اختيار جو بايدن نائباً له ، وبايدن وهو الرجل الذي وصفه بانه " نظيف" على اعتبار ان السود في رأيي بيض اميركا متسخون. لكن رغم كل شيءعلينا ان ننتبه جيداً الى اشارات ورسائل اوباما. وهي رسائل تقول لنا انه ربما يخسر معركته مع المؤسة لكنه قادر على مناطحتها. المؤسسة في عهد سلفه جورج بوش اعتبرت العالم الاسلامي هو نقطة تصادم بين حضارات، لذلك اصبح " الاسلام" مشكلة في اميركا، والاشكال الحقيقي ان بعض المحسوبين على الاسلام هم الذين رسخوا هذا الانطباع. هؤلاء الذين خلطوا بين الاستنكار للسياسة الأمريكية وبين ترجمة هذا الاستنكار على انه الإعجاب باحداث مثل هجمات سبتمبر او قطارات الانفاق في مدريد ولندن، وتفجيرات جزيرة بالي، او عمليات الزرقاوي في العراق. وبسبب غياب الديمقراطية والتعددية السياسية ضاع منطق أصحاب القضايا العادلة التي نزلت عليها أثقال العصر فكادت تطحنها. أو الساخطين على اوضاع اجتماعية مقلقة، و المحبطون في الطموحات والآمال لكافة الدواعي ومن الساخطين على فوارق اجتماعية تتسع كل يوم، ومن التائهين في الماضي بغير عقل او تمحيص، والشاردين في المستقبل بغير روح. هؤلاء الذين يعرفون ما لا يريدون لكنهم لا يعرفون ماذا يريدون. باراك اوباما وجد نفسه الآن محاطاً بقيود المؤسسة في كل ركن وفي جميع الاوقات. والامانة تقتضي القول إنه لم يستسلم. عندما طلب منه ان لايخرج من سيارته المصفحة اثناء مرور موكبه بين الكونغريس الى البيت الابيض ، لم يمتثل وخرج هو وزوجته لتحية " الجماهير" . في يومه الاول اراد ان يبدأ في معالجة أربع قضايا يمكن ان تتطلب من اي رئيس اميركي نصف فترة رئاسته ليقرر. لكنه قرر منذ اليوم الاول إغلاق معسكر غوانتانامو والغاء التعذيب ، ثم قرر البدء في سحب القوات الاميركية من العراق ، ثم قرر ايفاد مبعوث الى منطقة الشرق الاوسط نصفه ايرلندي ونصفه الآخر لبناني ، وفي الشأن الداخلي قرر انعاش الاقتصاد الاميركي المتعثر. كان اوباما أرسل قبل ذلك اول رسالة مخالفة للمزاج الذي ساد بعد هجمات سبتمبر ، لذلك قال في خطابه بعد التنصيب انه يريد ان يسلك منهجا جديدا مع العالم الاسلامي يقوم على الاحترام المتبادل. وان "الولاياتالمتحدة تريد أن تكون صديقة للجميع من أصغر قرية كتلك التي ولد فيها أبي إلى أكبر دولة. وقال ايضاً ...ان العالم تغير وحان الوقت كي نتغير معه". بل وقال للاميركيين " حان الوقت لاعادة تشكيل أمريكا من جديد معتمدين على الأمانة والعمل الجاد والولاء والوطنية". الآن سنرى ماذا سيفعل بارك اوباما . لذلك ساختم بما بدأت به وأقول ، الآن سنراقب ماذا سيفعل اوباما الرئيس. الآن سانتقل شخصياً من منطقة التعاطف الى منطقة الحياد. صادقاً أقولها. عن " الاحداث" مقالات سابقة جميع المقالات السابقة منشورة في موقع الجالية السودانية في منطقة واشنطن الكبرى ، ويمكن الاطلاع عليها عبر هذا الرابط http://www.sacdo.com/web/forum/forum_topics_author.asp?fid=1&sacdoid=talha.gibriel&sacdoname=%D8%E1%CD%C9%20%CC%C8%D1%ED%E1