السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    الخليفة العام للطريق التجانية يبعث برقية تعزية للبرهان في نجله    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    ريال مدريد يعبر لنهائي الابطال على حساب بايرن بثنائية رهيبة    شاهد بالفيديو.. الفنانة مروة الدولية تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بمقطع وهي تتفاعل مع زوجها الذي ظهر وهو يرقص ويستعرض خلفها    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    ناس جدة هوي…نحنا كلنا اخوان !!!    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    مصر والأزمات الإقليمية    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الحرية والتغيير – الكتلة الديمقراطية: دمج جميع القوات الأخرى لبناء جيش وطني قومي مهني واحد اساسه القوات المسلحة    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    أسطورة فرنسا: مبابي سينتقل للدوري السعودي!    عقار يلتقي مدير عام وحدة مكافحة العنف ضد المرأة    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أَيُّ الكُلْفَتَيْنِ أَفْدَحُ؟! ... بقلم: كمال الجزولي
نشر في سودانيل يوم 07 - 07 - 2009


(1)
ها قد تصرَّم عقدان من الزَّمان، حتى الآن، على انقلاب الثلاثين من يونيو 1989م الذي أطاح بالديموقراطيَّة الثالثة، فحقَّ ل (الإنقاذيين)، تماماً، أن يحتفلوا، الثلاثاء الماضية، بذكراه العشرين. لكنَّ الناس، بمن فيهم أعضاء قياديون في الجبهة الاسلاميَّة القوميَّة ذاتها التي أنجزت الانقلاب، ما زالوا يتجادلون حول حقيقة الدور الذي لعبه المرحوم أحمد سليمان فيه. إهتمامنا بهذا الأمر ليس من باب المبالغة في تقدير دور الفرد في التاريخ، وإنما، بالعكس، من باب عدم الإهدار المطلق لقيمة هذا الدور.
عقدان من الزَّمان تكفل مثلهما، خلال النصف الأوَّل من القرن الماضي، بالكشف عن جُلِّ أسرار انقلاب (الضباط الأحرار) الذي أطاح بالنظام الملكي في مصر في 23 يوليو 1952م، عبر ما لا حصر له من المذكرات والاستنطاقات التي شيِّدت عليها أهرامات من البحوث، والدراسات، والشرائح الوثائقيَّة، والأعمال الروائيَّة، وما إلى ذلك. أما انقلاب (الإنقاذيين)، أعني ملابسات (الحدث) ذاته، وما أحاط به، في المستوى الوقائعي البحت، وعمره يقترب، الآن، من ربع القرن، والسنوات الطوال قد نأت به، موضوعياً، عمَّا يمكن أن يشكل أيَّ محظور بشأن رواية تفاصيله، فما يزال حتى أقلَّ القليل الذي يُجترُّ منه، والذي لا يغادر، في غالبه، محطة العموميات، هو بضع قصاصات صحفيَّة أقرب إلى الكلمات المتقاطعة، أو محض استنساخات لحكايا متشابهة، متناقضة في كثير من جوانبها، تفتقر إلى التحقيق، ولا جديد فيها، بسبب افتقارها، أصلاً، إلى المعلومة التاريخيَّة نفسها؛ وبالتالي فإن معظم أسراره، مثله مثل سلفه (المايوي)، إمَّا تحت التراب، أو طيَّ الصدور، أو رهن المشافهات الكثيفة، أو المغالطات الطليقة من كلِّ قيود التوثيق الدقيق.
وإذن، فما يزال محتماً على كلِّ مَن يرغب في استجلاء أيَّة تفصيلة من تفاصيله التي لا حصر لها سوى أن يتكبَّد، بنفسه، ابتداءً، وفي كلِّ مرَّة، تجميع أجزاء هي أقرب إلى الأشلاء، شلواً من هنا، وجزازة من هناك، والعكوف المرهق على تدقيق مضاهاتها، قبل أن يقرِّر لزقها، باطمئنان نسبي، إلى بعضها البعض، على طريقة الكولاج، أو حفريات آثار ما قبل التاريخ، كي يظفر في النهاية، ب (صورة) ربَّما قرُبت، شيئاً، من (الأصل)، في أفضل النتائج، أما (الأصل) ذاته فلن يبلغه مهما سعى!
ونخشى، إنْ استمرَّ الحال على هذا المنوال، أن تنطمس الوقائع، شيئاً فشيئاً، وتنبهم المعلومات، يوماً بعد يوم، ويختلط الواقع بالخيال، والحقيقة بالوهم، فيصبح من المرعب حقاً تصوُّر مقدار استحالة التأريخ لهذا الحدث، بعد نصف قرن آخر، مثلاً، دَعْ تحليله، رغم كونه لم يعُد، منذ لحظة وقوعه، خاصَّاً بجماعة دون غيرها، وإنما تغلغل، عميقاً، في نسيج حياة شعبنا بأسره، بل صار أحد أهمِّ أحداث تاريخنا الحديث.
(2)
ذات أصيل في الثلث الأخير من العام 1992م، وكنت عائداً، للتوِّ، من اعتقال طويل، زارني السيِّد الصادق المهدي، بمنزلي بحي الهجرة بالخرطوم بحري، ليحمد الله على السلامة، وكان، هو نفسه، وقتها، محدَّد الإقامة، محدود الحركة. وجد معي شقيقي عبد المنعم، وصديقي وجاري رجل الأعمال عثمان محمد احمد النيل. وأثناء أنسنا، على دورق من الشاي، جاء الكلام بالكلام، فقلت له ممازحاً:
"ولكنك كنت تعلم بأمر هذا الانقلاب قبل أسبوع من وقوعه"!
أطلق ضحكة قصيرة وقورة، لكنه ما لبث أن فجَّر قنبلة داوية، بقوله:
"أبداً يا أخي .. كنت أعلم به قبل شهور من ذلك"!
صبَّ، بغتة، مطر كثيف على ثلاثتنا! لكن السيِّد واصل دون أن ينتظر تعليقاً: نعم .. ذات مساء من مارس 1989م، وكنا خارجين، لتوِّنا، من أزمة ديسمبر 1988م، بمظاهراتها، ومذكراتها، وإضرابات نقاباتها المطالِبة برفع المرتبات والأجور، والمحتجَّة على زيادات في الأسعار كانت اعتزمتها حكومتنا، وكذا (مذكرة الجيش)، التي انضافت، في 20/2/1989م، ضغثاً على إبالة، جاءني، في بيت الملازمين، وفي ما حسبته، للوهلة الأولى، زيارة اجتماعيَّة عاديَّة، الأخ أحمد سليمان المحامي، عضو مجلس شورى الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة المؤتلفة معنا، آنذاك، في ما كان يُعرف ب (حكومة الوفاق). تشقق الحديث بيننا، وانساب، وتطرَّق، بطبيعة الحال، لتلك الأحداث. وفجأة سألني أحمد:
"ألا توافقني في عدم وجود جهة أخرى تملك تفويضاً شعبياً أكبر منا .. أنتم ونحن"؟!
فهمت أنه يشير لحزب الأمَّة والجبهة الإسلاميَّة معاً، فأجبته:
"طبعاً .. بحسب صناديق الانتخابات لا توجد".
"حسناً .. لو جاز لي أن أنصح، ولو سمعتم كلامي، فإنني لا أرى في الأفق مخرجاً من هذه الأزمات التي أؤكد أنها ستتتكرَّر وتتواصل، إلا إذا حسمنا قضيَّة السلطة عسكرياً، وغيَّرنا نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي، ثمَّ عكفنا على تحقيق الاستقرار السياسي بأن نغلق البلد لمدة عشر سنوات، كفترة إنتقاليَّة، نعالج، خلالها، قضيَّة الجنوب، ونصفي ديوننا الخارجيَّة، وننعش اقتصادنا الوطني، ونرمِّم علاقاتنا المتوترة مع دول الجوار، ونضع حدَّاً للفوضى الحزبيَّة والنقابيَّة والصحفيَّة، وبالجملة نهيئ البلد لممارسة ديموقراطيَّة راشدة، وبعد ذلك نتدرَّج في فتح الحياة السياسيَّة للديموقراطيَّة القائمة على التعدُّد، والمشاركة، والمنافسة الحُرة، والحقوق الدستوريَّة. وإذا سألتني شخصياً، فأنا لا أرى أنسب منك رئيساً للجمهوريَّة طوال هذه الفترة".
صمت السيِّد الصادق برهة، ثمَّ استرسل يقول:
"لم يخطر ببالي، وأنا أستمع إليه، سوى أن ذلكم هو نفس الرَّجل الذي سبق أن ورَّط الشيوعيين في انقلاب مايو 1969م، وها هو تراوده الرَّغبة، مجدَّداً، في أن يسوِّق للجبهة الإسلاميَّة، ولنا معها، مغامرة أخرى. لذا، قرَّ في ذهني أنَّ أنسَبَ منهج لمناقشته هو المنهج البراغماتي، فقلت له، بعد أن فرغ من حديثه: قد تبدو هذه الخطة برَّاقة من الناحية (النظريَّة)، يا أحمد، لكنها، بالقطع، ليست كذلك من الناحية العمليَّة. أنظر .. ها نحن عالجنا، بالأساليب الديموقراطيَّة، مشكلة الأوضاع المعيشيَّة التي نشبت أواخر العام المنصرم، وأزمة تركيبة الحكم التي فجَّرتها (مذكرة الجيش) الشهر الماضي، ثمَّ ما لبثنا أن عدنا نجلس في بيوتنا بصورة عاديَّة، بعد أن سحبنا الزيادات المقرَّرة في الأسعار، وسيتعيَّن علينا، بالطبع، أن نفكر في البدائل، كما أعدنا النظر في تركيبة الحكم. لكنَّ هذا، على أيَّة حال، مِمَّا لا يعيب النظام الديموقراطي في شئ، لأنه من طبعه، بعكس النظام الشمولي الذي يجد نفسه مضطرَّاً، دائماً، وفق قوانينه الباطنيَّة، لتركيز جُلِّ جهده على تأمين أوضاعه، بالانتقال من تضييق إلى تضييق أكثر، ومن عسف إلى عسف أشد، علماً بأنه لن ينجح، بعد ذلك كله، في تحقيق ما يصبو إليه من استقرار. هذا هو درس التجارب الماثلة كلها؛ فأيُّ الكلفتين أفدح، سواء لنا، كأحزاب سياسيَّة، أو للبلد"؟!
وختم السيِّد الصادق هذه الجزئيَّة من حديثه، قائلاً:
"عند هذا الحدِّ دخل بعض الضيوف، فودَّعني أحمد سليمان وخرج، دون أن يخلف حديثه انطباعاً لديَّ أكثر من أنه، وتحت ضغط الإحباط الناجم من تلك الأحداث مجتمعة، إنما كان يفكر بصوت عال .. لا أكثر"!
ثمَّ استطرد السيِّد الصادق يقول إنه، بعد أيام قلائل، ذهب للمشاركة في مناسبة خاصَّة في أحد بيوت الأسرة. وأثناء الحفل اقترب منه د. الترابي، حيَّاه، وسأله هامساً، وهو يتشاغل بكوب عصير في يده:
"هل جاءك أحمد"؟!
رشف السيِّد الصادق رشفة من كوب الشاي، وواصل الحكاية، قائلاً:
"سرعان ما أدركت أن المقصود هو أحمد سليمان، لكنني، حين التفت إلى د. الترابي، كان فصَّ ملح وذاب! وهكذا بلغتني الرسالة كاملة: ما قاله لك أحمد سليمان ليس رأيه الشخصي .. ننتظر ردَّك"!
(3)
رغم أنني لم يداخلني أدنى شكٍّ في أن قصْدَ السيِّد الصادق قد انصرف إلى نزع الغطاء عن واقعة أحمد سليمان تلك، وفي ذلك التاريخ الباكر، بأمارة أننا سمعناها منه في مؤانسة إجتماعيَّة عاديَّة أواخر 1992م، إلا أنني لم أشر إليها، قط، إلا بعد زهاء السبع سنوات من ذلك، حين أعدت روايتها، نقلاً عنه، في مطالع مايو 1999م، خلال ندوة دعتنا لها صحيفة (أخبار اليوم)، وأدارها، بمكتبه، رئيس تحريرها، الأخ أحمد البلال الطيِّب، بمناسبة اللقاء المفاجئ، والأوَّل من نوعه، والذي كان ما يزال مستمرَّاً، يومها، دون أن يرشح منه شئ، بين د. الترابي والسيِّد الصادق في جنيف، بوساطة د. كامل الطيِّب إدريس ود. عمر الترابي. وأذكر مِمَّن شاركت معهم في تلك الندوة: د. ابراهيم أحمد عمر، د. علي حسن تاج الدين، د. علي السيِّد، تاج السر محمد صالح، الحاج ورَّاق، يحي الحسين، وربَّما آخرين أنسيتهم.
وقد يكون من المناسب أن أضيف، هنا أيضاً، أنه قد تصادف، عقب روايتي لتلك الواقعة، أن رواها السيِّد الصادق بنفسه، فور عودته من جنيف، في ما أوردت صحيفة (الوفد) المصريَّة، أو ربَّما (الشرق الأوسط) اللندنيَّة، وذلك في احتفال حزب الأمَّة بعيد العمَّال، بمقرِّه بالقاهرة، خلال النصف الثاني من مايو 1999م.
كان مِمَّا دفعني لرواية الواقعة في ندوة (أخبار اليوم) إحتياجي لأن أدعم بها تحليلاً بدت لي وجاهته، بإزاء ما أفاد به د. ابراهيم احمد عمر، في ذات الندوة، من أن مقترح (لقاء جنيف) كان قد عُرض، بالأساس، على المكتب التنفيذي لحزب المؤتمر الوطني الذي اطلع على كلِّ ترتيباته، ووافق عليها، وبالتالي، فإن د. الترابي، الأمين العام للمؤتمر، إنما كان يمثل، في جنيف، (مبعوث) القيادة التي كانت تنتظر عودته لينوِّرها بنتائج اللقاء. أما فحوى تحليلي المضاد فقد انصبَّ على أن الفتق اتسع، في الواقع، على الراتق بين د. الترابي الذي قدَّرتُ أنه كان يريد المُضيَّ بخطة أحمد سليمان (الخياليَّة) تلك حتى نهاية الشوط، وبين رفاقه في قيادة الحزب الحاكم، والذين كان لهم رأي آخر عدُّوه أكثر (واقعيَّة)، وهو تكريس التحالف بينهم والعسكر. ومن ثمَّ خلصت إلى أن (لقاء جنيف) لا بُدَّ قد وقع من خلف ظهر أولئك الرفاق، خصوصاً وأنهم كانوا، قبل ذلك بخمسة أشهر، قد فاجأوا د. الترابي ب (مذكرة العشرة) في 10/12/1998م.
واستطراداً، فقد تمكن د. الترابي، بعد زهاء العام من ذلك، خلال مؤتمر الحزب في أكتوبر 1999م، وفي سياق (صراع الإخوة) حول تينك الرؤيتين المتباينتين، من إقصاء أغلب مهندسي (المذكرة)، ربَّما تمهيداً لتعديل دستوري كان اعتزم تمريره من داخل المجلس الوطني، وهو رئيسه، بما يسمح بانتخاب الولاة مباشرة، بدلاً من تعيينهم بقرار من رئيس الجمهوريَّة. وما كان خافياً القدر من الإزعاج الذي سبَّبته لمناوئيه في القيادة أسفاره النشطة، لهذا الغرض، حول الولايات، لولا أنَّ (قرارات رمضان) التي أعقبت مؤتمر أكتوبر 1999م بشهرين، قطعت عليه الطريق، إذ عجَّلت بالإطاحة به من السلطة في 12/12/1999م، ليُقبَر، بالتالي، ما قد يكون تمخَّض عن (لقاء جنيف) من تفاهُمات.
(4)
ثمَّة حواران صحفيان في غاية الأهميَّة أجريا مع المرحوم احمد سليمان في مغارب عمره، غير أنَّ كثرة أسفاري، خلال السنوات الماضية، فوَّتت عليَّ، في ما يبدو، فرصة مطالعتهما في حينيهما: الأوَّل أجراه علاء الدين بشير ل (الصحافة) قبل خمس سنوات من وفاة المرحوم، والآخر أجراه ضياء الدين بلال ل (الرأي العام) قبل أربع سنوات منها. ولكنَّ إعادة نشرهما، بعد الوفاة، عوَّضتني عن ذلك الفوت، حيث وجدت، في كليهما، رواية تختلف، في منحاها الأساسي، عن رواية السيِّد الصادق.
ففي الحلقة الثانية من الحوار الأوَّل اعتبر أحمد سليمان، بذهنيَّة قانونيَّة بحتة، سؤال علاء الدين له عمَّا يقال من أنه كان العقل المدبِّر لانقلاب الثلاثين من يونيو 1989م، "سؤالاً تجريمياً!"، على حدِّ تعبيره، ولذا فقد اكتفى، في البداية، بإجابة مقتضبة، قائلاً:
"لم أخطط له، ولكنني كنت أعلم به .. ولا أزيد"!
غير أنه، تحت إلحاح علاء الدين الذي عاد يسأله، هذه المرَّة، بشكل أكثر تحديداً، حول ما يقال عن أن الترابي "أرسلك إلى الصادق المهدي لتقنعه بجدوى الانقلاب كي يشارك فيه"، انتفض، وأجاب، منفتحاً على الآخر، وإنْ بحدَّة ظاهرة:
"ليس صحيحاً وانا ما بترسَّل .. ولكن القصة كما يلي: كنت مسئولاً في تلك الفترة .. عن جريدة (الراية)، لسان حال الجبهة الإسلاميَّة، و.. ذهبت إلى مكتب الترابي، فوجدته وقد بدت عليه علامات الضيق، فسألته عن السبب، فأعطاني ورقة كان يمسك بها. وجدتها خطاباً من الصادق المهدي رئيس الوزراء وقتها يقول فيه: (أخي الحبيب حسن، أنا موجود اليوم بالمنزل، فأرجو أن تأتي إليّ للتشاور بخصوص مذكرة الجيش). قلت له: إذهب، فقال: لن أذهب، لأن الصادق ليست لديه كلمة، ولن أخرج منه بشئ، وأنا لا أثق به! فقلت له: هل يعقل لرجل في المعارضة مثلك يطلبه رئيس الوزراء للتشاور معه في ظرف دقيق تمر به البلاد، ويطلعه على كم هائل من المعلومات الخاصة بالجيش ومجمل الأوضاع .. خاصة في أيام تشهد قلاقل داخل القوات المسلحة، ويرفض؟! فأصرَّ على موقفه .. فقلت له: أنت حر! وبينما كنت أهمُّ بالخروج، دخل عليه البعض، ومنهم موسى ضرار، وسألوه: لماذا خرج أحمد عندما دخلنا .. هل (كراعنا حارَّة)؟! فقال لهم: أحمد زعلان. ثمَّ ناداني، وطلب أن أجلس، بصوت ودود كعادته معى، فبيني وبينه ودٌّ كبير، حتى أن علي عثمان، عندما يكون الترابي رافضاً لشئ أو عاتباً على أحد، يطلب مني أن أذهب اليه بخصوص الموضوع المعيَّن. قال الترابي: يازول خلاص، إرضاءً لك فقط سأذهب للصادق، ولكن بشرط واحد هو أن تذهب معي! فقلت: أنا لا أعرف الصادق، ولم أقابله في حياتي أكثر من خمس دقائق، ولكن يمكنك أن تقول له إنك لم تحضر اليه برغبتك، وإنما بإلحاح مني، لأنه رئيس الوزراء، ولديه قدر هائل من المعلومات نريد الإفادة منها! ثمَّ أضفت قائلاً له: نحن لم نتعود أن نشترط عليك لأنك أنت الزعيم، ولكن يشرِّفني جدَّاً أن أذهب معك للصادق وفق هذا الطرح" (الصحافة، 3/4/09).
واستطرد أحمد سليمان قائلاً:
"ذهبنا إليه .. قبل الانقلاب بأيام أو أسابيع، وقد استغرب عندما رآني برفقة الترابي! قلت له: حضرنا إليك لأنك رئيس الوزراء، وبإمكاننا، نحن في الجبهة وأنتم في حزب الأمة، أن نشكل أغلبية برلمانيَّة .. فاللعب مع الاتحاديين والشيوعيين وغيرهم لن يفيدك، لذلك الأفضل لك أن تقود معنا انقلاباً داخل البرلمان لتغيير نظام الحكم من جمهوريَّة برلمانيَّة إلى رئاسيَّة مثل النظام في فرنسا، وتكون أنت رئيس الجمهوريَّة، والترابي، أو من تختاره الجبهة، رئيساً للوزراء. فكان ردُّه أن ننتظر حتى يتمَّ تحويل الجمعيَّة التأسيسيَّة إلى برلمان، وبعد ذلك نخطو خطوتنا تلك! فرددت عليه بضيق: التأجيل ليس من المصلحة، والأمور لن تسير وفق ما تشتهي، فالقوى الأخرى شغالة أيضاً، وما ننوي القيام به إجراء قانوني وسياسي ليس عليه مأخذ .. وسيتم وفق الآليات الديمقراطيَّة. وهذا يوضح أنني لم أقل للصادق تعمل (انقلاباً عسكرياً) كما يتهمني كثيرون" (المصدر)
ثمَّ اختتم احمد سليمان حديثه حول هذه الجزئيَّة بقوله:
"الصادق شعر وكأنني أستدرجه لقيادة (انقلاب عسكري)! لم يفهم مقصدي جيداً! لذلك روى هذه الحكاية لصحيفة (الشرق الاوسط) كما فهمها خطأ بأننا دعوناه لقيادة انقلاب مشترك. وأذكر أن فاطمة أحمد ابراهيم ردَّت عليه .. بغضب، قائلة له: ولماذا لم تلق عليه القبض وأنت رئيس الوزراء؟! وأعتقد أن في ردِّها منطقاً وجيهاً" (المصدر).
وفي الحوار الآخر الذي أجراه معه ضياء الدين بلال أورد المرحوم إفادة مناقضة لتلك، من حيث تأكيده على أن الاتصال بالسيِّد الصادق تمَّ من جانب الترابي وحده، بغرض إقناعه بالمشاركة في (الانقلاب)، هكذا معرَّفاً بالألف واللام، إذ قال:
(5)
أياً كان الأمر، فإن نقطة الضعف الأساسيَّة في رواية المرحوم احمد سليمان أعلاه، هي أن أكثر ما انصبَّ عليه تركيزه فيها هو التأكيد على أنه إنما كان يدعو إلى إحداث التغيير بالوسائل الديموقراطيَّة .. من داخل البرلمان! وتلك حُجَّة يصعب شراؤها، بل ومردودة، تماماً، بكونها تتعارض، طرداً على عكس، ليس، فقط، مع رواية السيِّد الصادق التي يسهل ترجيحها بمحض المضاهاة، وإنما مع مجمل ما عُرف عن الرَّجل، عموماً، من ميل إلى الأساليب (الانقلابيَّة)، سواء في التنظير أو العمل! وقد لا نحتاج، في سبيل التدليل على ذلك، أن نسترجع، هنا، الجزئيَّة المتعلقة بموقفه الداعي، علناً، لاستخدام آليَّة (الانقلاب) في العمل السياسي، ضمن الوقائع المتشعِّبة لصراعه، شخصياً، وصراع التيار الذي كان يمثله، مع التيار الذي كان يقوده الشهيد عبد الخالق محجوب، والذي عزا مثل تلك الدعوات إلى قصر النفس البرجوازي الصغير، مِمَّا نجم عنه، قبيل وبُعيد انقلاب مايو 1969م، أكبر وأخطر انقسام شهده الحزب الشيوعي طوال تاريخه. ذلك أن ثمَّة ما هو أدنى من كلِّ هذا لإعادة تسليط الضوء على غربة الأساليب الديموقراطيَّة عن فكر ومزاج المرحوم، وهو إقراره، هو نفسه، بهذه الحقيقة، ضمن حواريه المار ذكرهما.
فمن ناحية أولى، وعلى الرغم من أنه، في حواره الثاني مع ضياء الدين، قد استنكر اتهامه بأنه "الإنقلابي الأوَّل" في السودان، معزياً الأمر، برمَّته، إلى ما يشيعه عنه الشيوعيون وعبد الحليم شنان، إلا أنه سرعان ما عاد يؤكد على أنه، عندما كان في قيادة الحزب الشيوعي، ظلَّ يطالب دائماً:
"بأنْ نسقي الأحزاب من نفس الكأس التي أذاقونا منها، على طريقة: داوني بالتي كانت هي الداء!" (المصدر).
ثمَّ إنه، من ناحية أخرى، حين واجهه ضياء الدين بواقعة نصحه، أيضاً، في 1989م، للإسلاميين الذين صار من كوادرهم، ب (الإنقلاب) على الديمقراطية الثالثة، بعد (مذكرة الجيش) وخروجهم من (حكومة الوفاق)، لم يتردَّد في التصريح، قائلاً، بالحرف الواحد:
"كنت أقول ذلك علناً في كل مكان .. أحَرامٌ على بلابلهِ الدَّوْحُ، حَلالٌ على الطيْر مِنْ كلِّ جِنْس؟!" (المصدر).
كما أكد، من ناحية ثالثة، على ميوله (الانقلابيَّة)، في حواره الأوَّل مع علاء الدين، حين انطلق من قناعته (الخاصَّة!) بأن الشهيد عبد الخالق كان وراء 19 يوليو، مشدِّداً على أنه لا يأخذه بذلك، وإنما (يعيب!) عليه (فقط!) عدم تدبُّره لما بعد (الانقلاب)، قائلاً:
" كلنا كنا (انقلابيين)، ولكننا كنا نفكر جيِّداً في (مآلات الانقلاب) .. عبد الخالق .. لم يكن (مدردح) بينما كنت أنا (مقرَّم) أعمل محامياً، وأسهر الليل كله مع الضباط ومسؤولي الأمن، وأعرف منهم تفاصيل ما يدور؛ أما عبد الخالق فقد كان يفتقر لمثل هذه التجارب التي (تؤهِّل) لقيادة (انقلاب) عسكري ناجح!" (الصحافة، 3/4/09).
كذلك يمكننا التدليل على سوء ظنِّ الرَّجل ب (الخيار الديموقراطي)، وكونه دائم الاسترابة في أنه لا يمكن أن ينتج إلا عن "مؤامرات" و"تدخلات" استعماريَّة، بالحكاية التي ذكرها بنفسه، ضمن حواره مع علاء الدين، رغم أنه أراد بها مرمى آخر؛ فقد قال إنه حكى، في اجتماع كبير ضمَّ مجلس الثورة مع قيادة الجبهة، حكاية مجلس الثورة في غواتيمالا، نقلاً عن وود وورد في كتابه (القادة The Commanders)، كالآتي:
"نجح ذلك المجلس في تقليص النفوذ الأمريكي في البلاد، فطلب وزير خارجيَّة أمريكا من سفيره في غواتيمالا تحديد شخصيَّة من عناصر المجلس يمكن (الدخول) عبرها، فأشار السفير إلى بورش، وزير الداخليَّة المتأثر بالأفكار (الديموقراطيَّة الليبراليَّة)! وبالفعل ركز الأمريكان عليه، حيث .. أقنع قادة الثورة بأنهم يسيطرون على البلاد جيداً، ويحظون بتأييد الشعب، لذلك لا ضير في عقد انتخابات تكسبهم شرعيَّة دستوريَّة يسكتون بها الأمريكان والغرب، وبالفعل حدث ذلك .. فراحوا في ستين داهية!" (المصدر).
وما من شكٍّ في أن مغزى الاستشهاد، نفسه، بتلك الحكاية القائمة في (الحثِّ) على التشبُّث بالنهج (الشمولي)، و(التحذير) من ابتلاع طعم (التحوُّل الديموقراطي)، يغني، يقيناً، عن أيِّ إطناب آخر في تفنيد أيَّة محاولة للقول بأن المرحوم إنما أراد إقناع السيِّد الصادق باتباع وسائل (ديموقراطيَّة) للتغيير، أو ما أسماه ب (الإنقلاب الديموقراطي)!
(6)
د. الترابي ما زال يستعصم، في إطار إفادته حول انقلاب يونيو، بعبارته الشهيرة التي ما انفكَّ يردِّدها منذ مفاصلته مع تلاميذه، ولا يزيد عليها ولو مقدار قلامة ظفر: "قلت له: إذهب إلى القصر رئيساً، وسأذهب إلى السِّجن حبيساً!"، في إشارة إلى ما يقول إنها كانت آخر محادثة دارت بينه وبين العميد، آنذاك، عمر البشير!
أما القاضي فؤاد الأمين، الرئيس الأسبق لمجلس شورى الجبهة الإسلاميَّة القوميَّة، فقد كان سبَّاقاً، في تضاعيف حواره المطوَّل مع صحيفة (ظلال)، في منتصف تسعينات القرن المنصرم، إلى الكشف عن سماعه لفكرة الانقلاب، لأوَّل مرَّة، من د. الترابي شخصياً؛ إذ أفاد بأنه ذهب، ذات يوم، بُعيد (مذكرة الجيش)، مع مجموعة قياديين بالجبهة الاسلامية، ليعودوا د. الترابي في مرضه، وأن الرَّجل فاجأهم بسؤالهم عن رأيهم في ما لو حسمت الجبهة قضيَّة السُّلطة بانقلاب عسكري، وأن الموجودين سارعوا إلى التهليل والتكبير!
لكن د. الطيِّب زين العابدين هو مَن ألقى، مِن موقعه كعضو في مجلس شورى الحركة الإسلاميَّة منذ أيام الطلب، بحزمة قويَّة مِن الضوء على تفاصيل وملابسات (الانقلاب)، ودور المرحوم أحمد سليمان فيه، قائلاً، في حواره مع زكريا حامد لصحيفة (الوطن):
"مجلس الشورى .. كان قوياً، ومتنوعاً، وله رؤية ثاقبة للأوضاع السياسيَّة بالبلاد .. ومع ذلك فإن (موضوع الإنقلاب) لم يناقش بدقة في هذا المجلس، بل في الهيئة التنفيذيَّة .. الجهاز الأعلى، ويضم نحو 27 عضواً تقريباً، والمقترح جاء من .. الترابي، عرضه كفكرة، قائلاً: (أنحنا جاهزين)، يعني من الناحيتين الفنيَّة والعسكريَّة، و .. (فرص النجاح عالية جداً) .. وناس الهيئة قالوا ليهو أمشوا قدام والموضوع لم يحتج إلى تصويت وخلافه، لأنو كان هناك شبه إجماع!" (الوطن، 7/2/09).
وفي ردِّه على سؤال عمَّا إذا كان المرحوم قد اتخذ موقفاً مغايراً للترابي، قطع د. الطيِّب قائلاً:
"على العكس تماماً، أحمد سليمان ساهم حتى في إقناع الترابي نفسه بالموضوع ده! وكان يردِّد قولته المشهورة: الإنقلاب زي الموزة، أحسن حاجة تأكلها أول ما تنضج، مش قبل ما تنضج أو بعد ما تنضج خالص!" (المصدر).
د. الطيِّب، كعضو قيادي في الجبهة، أبدى تفهُّمه للأسباب التي دفعت بها نحو خيار الإنقلاب، قائلاً إنها، وعلى الرُّغم من إعلانها، تاريخياً، "الالتزام بالنظام الديمقراطي التعددي"، بل وسعيها لتجاوز بعض العقبات الفقهيَّة بإقرار "تأسيس الحقوق والواجبات على قاعدة المواطنة"، إلا أن مجموعة عوامل تكالبت، مع ذلك، لتجرف خطاها، إبتداءً من العام 1976م، بعيداً عن هذا الطريق. وساق الطيِّب بعضاً من تلك العوامل، كاكتشافها، على حدِّ تعبيره، عدم صدق الأحزاب المتحالفة معها، آنذاك، في الجبهة الوطنيَّة، بدليل تقاعسها، إبان حركة 2 يوليو، عن إطلاق سراح السجناء السياسيين، الإسلاميين بالأخص، وعلى رأسهم الترابي؛ وانفراد الصادق المهدي بمصالحة نميري في بورتسودان عام 1977م، مِمَّا دفعهم، بدورهم، لتدبُّر أمر مصالحتهم الخاصَّة مع النميري؛ ثمَّ جاءت ما أسماها ب "القشة التي قصمت ظهر البعير"، خلال انتخابات 1986م، متمثلة في التحالف الواسع الذي أبرمته الأحزاب، بصورة مخصوصة، وأسقطت به الترابي في دائرة الصحافة وجبرة، مخلفة مرارات هائلة في صدر الرجل وأتباعه؛ ضف إلى ذلك (مذكرة الجيش) في فبراير 1989م، والتي لم يكن من الممكن أن تقرأ داخل الجبهة إلا كتكتيك لعزلها عن السلطة، خصوصاً وأن قناعتها كانت منصرفة إلى أن خصومها، خصوصاً الشيوعيين والبعثيين، ناشطون داخل الجيش؛ فضلاً عن تمدُّد التمرد في الجنوب، وسيطرته على نحو 80% من أراضيه، بل ودخوله مناطق كالكرمك وقيسان، وشيوع الخوف من وصوله إلى الخرطوم نفسها؛ كلُّ ذلك وغيره رسَّخ، في تحليل د. الطيِّب، النزعة الانقلابيَّة لدى الجبهة الاسلاميَّة، فكرياً وسياسياً (المصدر)
"الإنقلاب العسكري لا يمكن أن يقيم أنموذجاً إسلامياً للحكم، والسبب هو أنّ هَمَّه الأول، وشغله الشاغل، سيكون تأمين نفسه في السلطة، وهذا التأمين يستخدم أيَّة وسيلة، سواء كانت أخلاقية أم غير أخلاقيَّة، دينيَّة أم غير ذلك، يفعل أيَّ شيء من أجل تثبيت سلطته، وعبارة (أيَّ شيء) تفتح باباً واسعاً، لكنها، بمعيار الدين والأخلاق، غير مقبولة!" (المصدر).
وهو قول قريب الشبه، في بعض مناحيه، بقول السيِّد الصادق المار ذكره لأحمد سليمان.
(7)
رحم الله أحمد سليمان، ففي غياب المعلومة التاريخيَّة الموثقة، والتي لم يساعد هو نفسه في توفيرها، حيث كان من الممكن أن تتيح (الصورة المكتملة) لحقيقة موقفه من الدفع باتجاه انقلاب الثلاثين من يونيو 1989م، إنصبَّ غرضنا من هذا الاستجلاء، بالأساس، على تجميع الجزيئات المتناثرة التي يمكن أن تشكل (الصورة التقريبيَّة) لذلك الموقف، ومضاهاة واحدتها مع الأخرى، على خلفيَّة الظروف والملابسات السياسيَّة التي وقع الانقلاب من خلالها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.