أيمكن أن نكون هكذا حقاً ، لا نستطيع احتمال ود بعضهم لنا وخطواتهم الواسعة نحونا ولهفة شوقهم ساعة لقاءنا وانشراحه ملامحهم وحلو عباراتهم ، أحقا يضيق صدرنا بهم حد أننا نتحاشى مقابلتهم ، لا نحس بهم ولا نري لهفتهم الطالّة من العيون ، القلب مشغول بود آخر بعيد ، آخر لا يحمل لنا شيئا عنده ولا بعض الود حتى ، لكننا نسعى إليه قاطعين المسافة الفاصلة ركضاً ، نسعى بلا حياء وكأن لا احد في دنيانا غيره ، البقية عندنا تكملة حياة من أجل الاستمرار . نلاحقه كلما ابتعد بغباء عشقي فاضح وأظنه أسوا أنواع الغباء العامي للواقع فالعقل غائب ، معطل بكمين حب محكم لذا هو لا يعير طيشنا العاطفي كبير اهتمام حتى وإن توغل القلب في التيه بعيداً وأضحت افعاله ضد التعقل . لقد وقعت في الحب فجأة ، نهاراً ، وفي صيف حار قبل أعوام من الآن ، ومنذ تلك اللحظة بدأ وقار خصالي بالتبدل وأصبحت تزداد غرابة يوما بعد يوم ، جراءة فاضحة وحلول للمشاكل غير معقولة وقفز بالأشياء سريع وطلب السماح باللقاء في أوقات العمل الرسمية وارتداء ثياب بألوان الزهور . لقد تاهت جذور الخصال الوقورة في رمال الصحراء وأرض الحب التي هي عطشى دائماً . مدهشين نحن في الحب ، يصير كلامنا ألطف وانزعاجنا بالحياة أخف وتقبلنا للمصائب أقوى . نذهب للقائه تحيط بنا كائنات تحرضنا على السعادة العلنية ، كائنات غير مرئية وهمسات رقيقة وخفقان ، لحظات قادمة سنسعد فيها بمن نحب . ثم أننا لا ننتبه للطريق ولا لزحمة الناس ورائحة العرق ولا لأبواق السيارات المزعجة وبعد المسافة ، لا ننتبه لحرارة الشمس الحارقة والعيون الفضولية ، ولا لنصائح الآخرين بالتمهل ولا نجيب على رنين الهاتف حتى . سنخوض معركة حبنا لآخر الكاس وقديما قالوا أن السايقة لأبد لها من الوصول . نسرع الخطى لكننا نستحي من رجل الاستقبال الجالس عند مدخل الشركة وكأننا مكشوفين امامه بخفقاننا واضطراب دورتنا الدموية وسرنا الذي سيطلّ من الشفاه ما أن نبدأ بالكلام ، نبرر له سبب الزيارة كذباً دون تأنيب ضمير حتى يسمح لنا بالدخول ، نعبر الممر الطويل ، ثم أننا نعلو ونعلو حتى نصير بين السحاب ، يبان شوقنا ونراه عياناً على صورتنا المعكوسة على زجاج الباب المصقول ، نطرق طرقا خفيفاً ،وقد تعترف العيون سراً ما أن تستقر على الجالس خلف المكتب الفخيم ، نلقي التحية بصوت مرتعش من قلة خبرته العاطفيه ، ويد يعجزنا الشوق عن رفعها ، ثم أننا نجلس ، نحاول جاهدين اخفاء شهقة الود فينا ، نغوص في الكرسي حياءً معلقين بصرنا بالأرض حيناً وبه حيناً آخر ، نبتسم كثيراً ونتحدث قليلاً ، يغمرنا الحب بضوئه النقي ، فنغرق طوعاً وصدقاً ، قطعا لن نحتمل جمرة لقاء الشوق ذاك ، فهى حارقة وغير رحيمة البته بأمان القلوب ، تشقها على مرآى من الدنيا لذا نغادر سريعا مكتفين بقليل الكلام الذي كان . يا الله على هذا الحب القديم ، يحكم قبضته بإصرار عنيد ، يحتلنا وقد لا يدري الحبيب بجرمه فينا ، يلفنا به محتفظاً لنفسه بذات اللهفة الأولى والألق الأول ، قابع هو في أكثر أماكن القلب آمناً ، يحيط توهجه بغشاء سري يقيه من تقلبات الطقس القلبية ، فالقلب كما يقولون كائن نزوي غير مضمون ، نتيه في عالم من صنع أوهامنا ، ندخله باختيارنا ونتزود منه بالسراب . نشيد بأحلامنا قصور من لؤلؤ بحدائق غناء السيد المطلق هو ، قصور نحميها بدمائنا من امطار الواقع المعاش ، نخاف عليها من رياح الخوف وزحف القلق ، قصور حية بنا تتكّشف لنا فيها الحياة ببهائها . لتصبح قصوراً على تمام الحياة . ثم أننا نتصل هاتفياً تلبية لأنانية الأذن فينا والتي تدفعنا لارتكاب جمل ضد مصلحتنا العاطفية ، جرائم تسارعية من أجل أن نمضي بالحبيب نحونا ، نراوغ كبريائنا نستحلفه أن يتركنا لشأننا ولو لأيام . ورغم علمنا بأن انانية الأذن هي من أكثر الانواع ضرراً ، تعمينا عن ترجمة السلوك لعبارات وتقود حبنا لهلاكه الحتفي ، تود لو أنه يُهمس لها بكل ما تشتهي من كلمات لا شبيه لحلاوتها ، الالحاح الانثوي نرتكبه دائما ونحن واقعين تحت تأثير ضباب الانانية ، ساعتها لن يحتمل الحبيب طوق الورد الخانق ذاك وقد يتركنا ذات صباح تائهين في ممرات قصر الؤلؤ المشيد من الاحلام حديثاً ، فلا يتبقى لنا منه إلا بقايا عطر وذكرى ثياب أنيقة وخاتم فضي يحيط ببنصره الايمن . بعد ذلك الصباح يذوب قصر الاوهام بمغادرته وإن استطعنا البكاء فعلنا. لكن كيف ترانا نبكي حبا توهمنا في لحظة علو أنه ابدياً فينا ، ملتصقا بنا حد اليقين أننا ولدنا به كما يولد الاطفال بوحمة ما أو شامة ، كيف يمكننا انتزاع الروح الغاطسة حد الغرق حنيناً . قطعا لن نعود سيرتنا الأولى بعد فراق كذاك إن حدث ومن أين يتآتى لنا التفكير في مستقبل آت هو لم يعد موجوداً فيه . اخاف حقاً من مجيء أوقات بلا حضوره ومن حمل هاتف خالي رنينه من رقمه ومن شارع لن أمر به مطلقاً بعد ذلك ومن ألوان احببتها لأجله وارتديتها علناً ، لكن أكثر ما أخافه ولاء ذاكرة وتشبثها بالتنازل عن حقها في النسيان . تمر الأيام ونحن على خوفنا من مغادرة الحبيب ضيقا من طوق الورد الذي نحكمه حوله ، ولأن العقل معطل بالكمين فإن ما نخافه جاء ، قدر لا يمكن تفاديه ، سيرحل ويجب علينا وداعه . ستهتز كل الأشياء من حولنا ، تنفجر الدواخل ، ويصبح القلب غريبا عنا ، سابحا في فلك حزين ، باحثا في عوالم بعيدة عن نصفه الكمالي ، مجنونا بجرحه وتعالي الحبيب ، هادما لقصر الؤلؤ وتائهاً . ولأنه لا أقراص للتعقل ومداواة جراحات الفؤاد المفتوحة بانكشاف ، نضطر لارتجال طقوس وداع أخير ، نلملم ما تبقى من كرامة عاطفية ونوقع على ميثاق الرحيل نيابة عن القلب، إن استطاع مواصلة الحياة . العينان آخر الحواس مغادرة ، تعلق بصرها به مقسمة بالله بأنه سيبقى عندها الأبهى دائماً والأكثر وسامة من الجميع ، القلب أيضا سيعاهد قائلاً له بصمت - أنت فيني للأبد وإن لم تعلم اميمة العبادي [[email protected]]