[email protected] منذ أواخر القرن الماضي أصبح مصطلح ( الديمقراطية ) يُتداول بكثرة في خطابات وأدبيات التيارات التي تسعى ضمن أهدافها المُعلنة إلى بناء أنظمة سياسية حديثة في دول العالم الثالث وأفريقيا عموما، غير أنه على مستوى التطبيق والممارسة، غالبا ما تبقى الديموقراطية مجرد حلم يراود المنظرين والمثقفين، وهدف غير متيسر التحقيق بالنسبة للنخب السياسية التي تتطلع إلى التمتع بحقها في المشاركة في تدبير الشأن العام، ولا تجد إلى ذلك سبيلا، بسبب ما يسود من أنظمة وعقليات تولي الاعتبار للأشخاص، أكثر مما توليه للقوانين ومبادئ العدل، وروح المواطنة، وتنعدم فيها أو تضيق المشاركة الجماعية لفائدة النفوذ الشخصي والحزبي الضيق بل حتي العائلي والعشائري، أو النفوذ السلطوي أو المالي، فضلا عما تعرفه المجتمعات المتخلفة عموما من علاقات تكرس سيطرة الأب داخل الأسرة داخل مؤسسة الاسرة، وسيطرة المعلم على التلاميذ في المدرسة، وسيطرة شيخ القبيلة أو عون السلطة في دائرة نفوذه، وسيطرة المسئول الأول في الجمعية أو النقابة أو الحزب حينما توجد مثل هذه التنظيمات ... ولهذا نرى رؤساء وقادة يستمرون في مواقعهم، ولا يغادرونها إلا بالوفاة، سواء تم ذلك بتعيين دائم، أو بتكرار " انتخابهم " بالإجماع أو ما يشبه ذلك. وكل مجتمع أو مؤسسة أو منظومة، تعاني من ظاهرة سيطرة الشخص، أو تعرف في ممارساتها وسلوكيات أفرادها، ترجيح النفوذ الشخصي والحزبي، أو غيره من أشكال النفوذ الذي لا ينتج عن المشاركة الفعلية للمعنيين بالأمر، لا تخلو من الاستبداد، وبالتالي فإنها حتى ولو أرادت أن تُطلق على نفسها وصف الديموقراطية، فإن ذلك لا يتعدى الناحية الشكلية، أما من حيث الجوهر تبقى غير منسجمة مع هذا الوصف لأن طبيعة العلاقات ونوعية السلوكيات داخلها، غير ديمقراطية. وقبل أن نتعرض لمقومات النظام الديمقراطي لابد من تحديد مفهوم الديمقراطية: مفهوم الديموقراطية: من المعلوم أن مصطلح ( الديموقراطية ) الذي أصبح يُتداول بكثرة في العصر الحاضر ليس جديدا، وإنما هو من أقدم المصطلحات السياسية، حيث يرجع إلى كلمة يونانية مركبة وتعني (حكم الشعب) فعلي حد علمي كانت أثينا وغيرها من مدن اليونان، منذ القرن السادس قبل الميلاد، تُحكم بواسطة ما عُرف بالديمقراطية المباشرة، وتتجلى في اجتماع الرجال ( دون النساء ) في ساحة عامة، ويقترحون القوانين ويصوتون عليها (السلطة التشريعية)، ويختارون أفرادا منهم يتولون تنفيذ ما وقع حوله الاتفاق (السلطة التنفيذية). ومن المعلوم أيضا أن فلاسفة اليونان مثل ( أفلاطون ) و ( أرسطو) انتقدوا بشدة الديمقراطية على النحو المذكور، ووصفوها بحكم الجهلاء والدهماء والرعاع، ودعوا إلى حكم الفلاسفة أو حكم العقلاء، وهو نوع الحكم الذي طُبق في العهد الروماني الأول وسيطرت من خلاله الطبقة الأرستقراطية على الحكم. ولم يستعد المفهوم الأصلي للديمقراطية (أي حكم الشعب) بريقه إلا بعد مرور عدة قرون من الزمن، وجاء اعتناقه في الغرب كرد فعل في مواجهة الأنظمة الإقطاعية وما كانت تتميز به من استبداد وطغيان واحتقار للشعوب، وتطورت أساليب ممارسة الحكم الديمقراطي بحسب تطور المجتمعات التي اعتمدت الديمقراطية منهجا لنظامها السياسي، وعلى مدى الثلاثة عقود الأخيرة سقطت حكومات قوية بأمريكا اللاتينية، وشرق أوربا، وانهار الاتحاد السوفييتي، وإن كان هذا السقوط كما يقول(فوكماية) (صاحب نظرية نهاية التاريخ ) لم يفسح المجال في جميع الأحوال لقيام ديمقراطيات ليبرالية مستقرة، والتي تبقى في نظره الأمل السياسي المتسق الوحيد الذي امتد ليشمل مناطق وثقافات مختلفة على صعيد العالم، ويعتقد (فوكماية) أن الديمقراطية الليبرالية تعتبر مؤشرا على نهاية المطاف للتطور الإيديولوجي للبشرية، ويمثل "الصيغة النهائية لنظام الحكم البشري"(1) . وبصرف النظر عما يكتنف الرأي السابق من مبالغة في التبشير بمفهوم كوني ونهائي للديمقراطية الليبرالية، فإن التطورات السياسية التي تعرفها معظم دول العالم تسير في اتجاه توسيع مشاركة الشعوب في تدبير شؤونها بنفسها، وهذا ما يسمى بالدمقرطة، وإن كانت وتيرة هذا التطور تختلف من منطقة إلى أخرى في العالم، حيث سارت في أمريكا اللاتينية وأوربا الشرقية بكيفية أسرع، بالمقارنة مع معظم بلدان العالم الثالث، ومنها والدول العربية، ,والافريقية التي تخضع لأنظمة تختلف أشكالها غير أنها ما زالت تتوحد في الابتعاد ولو بتفاوت نسبي عن إرادة الشعوب، التي هي الركن الأساسي في النظام الديمقراطي، وذلك تحت غطاء الدين، أو الاختلاف الثقافي، أو الخصوصية، أو غيرها من الذرائع التي لا تصمد أمام أي نقد موضوعي. وقد ظل المفهوم العام للديمقراطية على مدى القرون، يرتكز في جوهره على تدبير الشعب لشؤونه بنفسه، وتكاد تُجمع كل الكتابات في العصر الحاضر حول هذا الموضوع، بأن الديمقراطية هي (حكم الشعب بالشعب)، وهي مقولة لأبراهام لنكولن،(2) الذي استمدها من الأصل اليوناني لكلمة الديمقراطية، غير أن تحليل هذه المقولة، وترجمتها إلى واقع، كثيرا ما اصطدم بالصعوبات الناجمة عن تحديد المقصود بالشعب الذي يفترض أن يتولى الحكم، والمراد بالشعب الذي يجب أن يكون الحكم في مصلحته، وفي هذا الصدد اختلفت المذاهب والتيارات السياسية، واجتهد كل منها في إعطاء الديمقراطية مفاهيم ومضامين من خلال توجهاته الإيديولوجية، وأهدافه السياسية، وكانت هذه الإشكالية تطرح بحدة حينما كانت المنظومة الشيوعية في أوج نشاطها وإشعاعها الإيديولوجي المناهض لليبرالية، إذ كانت تطرح مفهوما خاصا للديمقراطية، يقوم على حصر حق الممارسة السياسية وتولي الحكم في طبقة اجتماعية معينة تدعى ( البروليتارية ) وهي طبقة العمال، أو في تحالف هذه الأخيرة مع الفلاحين الفقراء، وذلك في إطار حزب وحيد، أو جبهة تتكون من تيارات ذات نفس المرجعية الاشتراكية، وتحكم باسم الشعب، ولا تسمح لقوى سياسية أو فئات اجتماعية أخرى بالتعبير عن وجودها، والإفصاح عن خياراتها المخالفة، وتسمي الطبقة الحاكمة طريقتها في الحكم ب (الديمقراطية المركزية) . وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وسقوط جدار برلين، أصبح المفهوم الليبرالي للديمقراطية هو السائد نظريا، والنموذج الذي تسعى الدول الاشتراكية السابقة ومعظم بلدان العالم الثالث للاقتداء به في مجال التطبيق، وهو المفهوم الذي اعتُمد في أوربا الغربية وأمريكا الشمالية منذ قرون. ويرتكز المفهوم الليبرالي للديمقراطية على فكرة التمثيل أو النيابة، لأنه يتعذر من الناحية العملية أن يتولى الشعب بأجمعه الحكم، فينتدب ممثلين عنه لمجلس نيابي يختص بالسلطة التشريعية، وتنبثق عن أغلبيته السلطة التنفيذية، أي الحكومة، في حين تكون السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين، وتتعدد الأحزاب السياسية التي تؤطر وتمثل مختلف فئات وطبقات الشعب، وتتنافس في الحصول على أغلبية المجلس النيابي ليؤول إليها حق تشكيل الحكومة، بينما تضطلع الأقلية بدور المعارضة، فتراقب العمل الحكومي، وتطرح البدائل التي تراها مناسبة، أو تعتقد أنها الأكثر جدوى في تحقيق الصالح العام. ومع استمرار التنافس بين الأحزاب السياسية، واجتهاد كل منها في وضع البرامج التي تتجاوب أكثر مع رغبات المواطنين، وابتكار المناهج الفعالة في تدبير الشأن العام، يتحقق تداول السلطة، وينتقل الحكم إلى المعارضة، ليس عن طريق العنف والإقصاء، وإنما بالاحتكام إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات التي تجري بشكل دوري، ولا يمكن أن يستمر أي حزب في الحكم، إلا بقدر تفوقه في الاستجابة لحاجات وتطلعات المواطنين، وبالتالي تكون إرادة الشعب هي مناط السلطة.