[email protected] حساب الحقل وحساب البيدر مفردات من مثل شامى تعود اصوله التاريخية الى دفاتر ضبط الحسابات التى كان القائمون على أمور الفلاحة والبيوع يعرضونها على الباشوات والبكوات من أصحاب الاراضى. ويُستدعى المثل عند مفارقة الحسابات المختلقة المثبتة فى الدفاتر لحسابات الحقل الحقيقية. قفز الى ذهنى هذا المثل الشامى وأنا أقرأ جانبا من الحوار الشامل الذى أجراه الصحافى صلاح شعيب مع الدكتور حيدر ابراهيم على، مدير مركز الدراسات السودانية والناشط فى مجالات السياسة والثقافة، وذلك فى اطار حوارات (منتدى الاحداث) التى يتواصل نشر حلقاتها تباعاً. فقد بدت لى فى بعض ما أدلى به الدكتور حيدر، معبرا عن رأيه الشخصى، حول دور نسبه ل (بعض العناصر الشمالية فى الحركة الشعبية) وعدّه واحدا من اسباب الخيبة السياسية التى نعيش تداعياتها، وحول الوقائع التى عرضها فى وارد تدعيم ذلك الرأى، بدت لى صور من حالات فارق فيها حساب الحقل حساب البيدر مفارقة ظاهرة. قال الدكتور حيدر: (وقفت بعض قيادات قطاع الشمال داخل الحركة الشعبية ضد دخول عناصر تقدمية وديمقراطية الى الحركة لترفدها بأفكار وقدرات تنظيمية جديدة. وأظن أن تلك القيادات خشيت على امتيازاتها الآتية من ندرة وجود العناصر الشمالية داخل الحركة. وعندما يكثر الشماليون تختل عملية العرض والطلب وتقل قيمتهم بسبب الكثرة!) وقد بنى حيدر هذ التحليل على تجارب شخصية خاض غمارها، من بينها تجربته مع الدكتور جون قرنق والعناصر الشمالية فى الحركة الشعبية قبل ثلاثة عشر عاما. وقد اورد فى هذا الصدد تفاصيل ونتائج لقاء مطول دار بينه (هو والدكتور فاروق محمد ابراهيم) من جانب، والراحل الدكتور جون قرنق وبعض قادة الحركة الشعبية الشماليين من جانب آخر وذلك فى عام 1996. يقول حيدر: (فى يناير 1996 ذهبنا الاخ فاروق محمد ابراهيم وأنا الى اسمرا لمقابلة الدكتور قرنق، وسُمح لنا بامسية كاملة لمناقشة هل الحركة قومية ام اقليمية، فأكد بحماس على قوميتها فهى بالتالى امتداد لبرنامج الثورة الوطنية الديمقراطية التى نشأت فى نهاية الاربعينات من القرن الماضى. وهكذا تكون فكرة السودان الجديد جزءاً أصيلا وممتدا لبرنامج الثورة الوطنية الديمقراطية. واتفقنا على ان يعقد مركز الدراسات السودانية ورشة عمل للحوار، وبدأ اتصال اولى للتنفيذ ولكن بعض الشماليين فى الحركة الشعبية قطعوا وعطلوا وسائل الاتصال واجهضوا الفكرة). والقيادات الشمالية التى اتهمها حيدر – دون ان يسميها - لا يحتاج أمر تسميتها الى كبير عناء. فان كان حيدر يعنى الشمال الجغرافى فالمتهمون هم عبد العزيز آدم الحلو وياسر عرمان والدكتورالواثق كمير. ولكننا نغلّب الظن ان المقصود هو الشمال الاثنى - بحسب التصنيف التنظيمى للحركة الشعبية - وبالتالى فان الاتهام ينصرف مباشرة الى الدكتور الواثق كمير وياسر عرمان. ذلك فيما يتعلق بنسف منتدى الحوار الذى يقول حيدر ان مركز الدراسات السياسية كان يزمع تنظيمه عقب لقائه مع الراحل جون قرنق. أما بشأن الاتهام المفتوح ل (قادة قطاع الشمال) بوقوفهم ضد دخول عناصر شمالية جديدة الى الحركة فان الاتهام ينصرف فى اغلب الظن الى القيادى فى الحركة ياسر عرمان وحده اذ ان الدكتور الواثق كمير وعبدالعزيز آدم الحلو ليسا عضوين فى ذلك القطاع! (2) الحساب الذى فى دفاترنا يقول الآتى: طرحت الحركة الشعبية خلال مرحلة الكفاح المسلح ثلاثة اشكال للتعاون والتفاعل المشترك بينها وبين القوى السياسية فى الشمال: الخيار الاول كان أن تنضم هذه القوى كمجموعات او كأفراد الى الحركة وتمارس النضال السياسى من داخلها. وكان الخيار الثانى العمل فى اطار التجمع الوطنى الديمقراطى كتحالف عريض ومفتوح يوفر مكانا لكل قوى السودان الجديد. وجاء الخيار الثالث فى مبادرة محددة، دشنتها قيادة الحركة فى فبراير 1995، هى مبادرة " لواء السودان الجديد"، التى هدفت الى تشكيل منبر للتفاعل السياسى والعسكرى بين قوى مختلفة يفترض ان تتبلور كياناتها فتفضى الى تكوين "حركة السودان الجديد السياسية" القادرة على تعزيز وحدة البلاد على اسس جديدة. والواقع ان الخيار الثالث وهو بناء لواء السودان الجديد كان قد جاء الى حيز الوجود كنتيجة تلقائية لمحدودية وضآلة الكسب السياسى المتأتى من البديلين الاولين. ولم يكن مستغربا أن لا تستجيب القوى الشمالية لدعوة الانضمام الى الحركة وما يقتضيه ذلك من تسليم لزمام حركة النضال التحررى والتحول الديمقراطى الى زعامة جنوبية وتنظيم سياسى-عسكرى يرتكز على قاعدة اثنية، وتحوم حوله شبهات النزعات المعادية للعروبة والاسلام. كما ان التحالف مع قوى التجمع الوطنى ظلت تتعاوره ظلال سالبة جردته من شروطه الموضوعية وضروراته الواقعية. فضلا عن الصعود المفاجئ لقوى الريف والقوميات المهمشة الى المسرح السياسى الأمر الذى جعل قضايا التحالفات السياسية اكثر تعقيدا. بنى حيدر حيثيات مهولة على أرضية الدعوة واللقاء الذى جرى بينه وبين الراحل الدكتور جون قرنق فى يناير 1996. ويخيل الىّ أننا اذا تحرينا خلفية ذلك اللقاء وملابساته ونتائجه والانفعالات والعواطف التى احاطت به فاننا قد نصل الى تقويم أفضل يعالج ما نراه احكاما معتلة أطلقها حيدر فى الفضاء العريض دون مسوغ يسندها او وقائع تعضدها. (3) الذى نعلمه من أمر لقاء أسمرا هو أن الدكتور الواثق كمير والسيد/ ياسر عرمان، وهما من القيادات الشمالية اللامعة فى الحركة الشعبية كانا قد بادرا نهاية العام 1995 بالاجتماع بالدكتور حيدر ابراهيم على والدكتور فاروق محمد ابراهيم، اللذان كانا يقودان عهدئذٍ تنظيما عرف باسم ( اللجان الشعبية للانتفاضة). وذلك فى اطار سلسلة لقاءات عقداها مع مجموعات عديدة بغرض مناقشتها حول فكرة ( لواء السودان الجديد ). وقد تطور ذلك اللقاء تطورايجابيا حيث قام ممثلا الحركة الشعبية بتنظيم لقاء آخر مباشر بين حيدر وفاروق من جانب والدكتور جون قرنق من جانب آخر وهو اللقاء الذى عقد بأسمرا بداية العام 1996. وقد حددت اجندة ذلك اللقاء فى بندين، الاول: مناقشة مبادرة لواء السودان الجديد وبحث دور (اللجان الشعبية للانتفاضة) في مساندة المبادرة والانخراط فى مسارها، والثانى: دور مركز الدراسات السودانية متمثلا فى تنظيم ندوة سياسية موسعة داعمة لهذا التوجه. وقد توّج ذلك اللقاء المطول الذى انبسط على مدار يومين متتاليين بمذكرة تفاهم اجازها الطرفان المتحاوران، بعد تعديل طفيف إثر ملاحظة شكلية لحيدر على احدى النقاط، ثم غادر حيدر وفاروق أسمرا. الذى حدث بعد ذلك كان مفاجئا ومذهلا للدكتور جون قرنق وفريقه الذى كان ينتظر وفاء حيدر وفاروق ولجانهما الشعبية بما التزموا به فى لقاء أسمرا مما تضمنته مذكرة التفاهم المجازة. بمجرد ان وصل حيدر وفاروق الى القاهرة قاما باعادة كتابة مذكرة التفاهم على نحو بدل كثيرا من مضامينها تبديلا، ثم بعثا بالمذكرة المعدلة الى الحركة الشعبية. وقد مثلت تلك الخطوة من جانب حيدر وفاروق سطر النهاية فى كتاب العلاقة والتفاعل المثمر بين تنظيمهما والحركة الشعبية. وبين يدى صورة من رسالة موقعة من العقيد جون قرنق دي مابيور موجهة الى الدكتور الواثق كمير يبدى فيها أسفه وانزعاجه من موقف الدكتور حيدر ابراهيم على والدكتور فاروق محمد ابراهيم. فى الرسالة المؤرخة فى الخامس من ابريل عام 1996 كتب قرنق: ( ما رأيته فى مذكرة التفاهم المعدلة التى بعث بها الينا حيدر وفاروق لا يمكن ان يطلق عليه "تعديلات"، بل انها مذكرة جديدة تماما قاما بصياغتها. ومعظم ما جاء بها من نقاط لم تتم مناقشتها اصلا بيننا وبينهما فى اجتماعنا بأسمرا. مذكرتهما فى الواقع عبارة عن مشروع يخص اللجان الشعبية للانتفاضة. وهما بطبيعة الحال أحرار فى تنظيم ندوة تخص ذلك التنظيم. غير انه ليس من المقبول بتاتا أن يوظفا اسم لواء السودان الجديد لخدمة ذلك الغرض). وكتب الدكتور جون قرنق فى ذات الرسالة أيضا:( العنوان الذى وضعه الدكتوران حيدر وفاروق على رأس المذكرة يمكن ان يقال عنه فى افضل الاحوال انه مضلل. انهما فى الحقيقة يرفضان لواء السودان الجديد كفكرة وكمنبر. ومن هنا كانت دعوتهما لخلق منبر بديل كما هو واضح من العنوان. من حقهما ان يرفضا فكرتنا ومنبرنا، ولكن من السخف أن يتوقعا منا أن ننضم اليهما لانشاء منبر جديد فى حين ان غرض الاجتماع الذى عقدناه معهما كان هو الوصول الى اتفاق مشترك بشأن لواء السودان الجديد) {ترجمة غير رسمية من الاصل المكتوب باللغة الانجليزية}. (4) ويبدو لى – والله تعالى أعلم- أن الصلات بين قيادييى الحركة الشعبية والدكتورين حيدر وفاروق قد شهدت نوعا من التدهور بتأثير هذه التطورات السالبة وخيبة الامل التى منى بها بعض الفرقاء. فقد قرأت فى رسالة موجهة من الدكتور الواثق كمير الى حيدر ابراهيم على وفاروق محمد ابراهيم، بصورة الى جون قرنق دى مابيور بتاريخ السادس من فبراير 1996، عبارات تنم عن عدم الارتياح وربما شئ من الغضب. مثال ذلك: (عند قراءتى لمذكرة الدكتورين حيدر وفاروق تكون عندى على الفور انطباع مزعج بأن حيدر وفاروق ملبوس عليهما، بمعنى ان الامور قد انبهمت فى ذهنيهما، أو ربما انهما عجزا عن ادراك جوهر فكرة لواء السودان الجديد وأهدافها. بل يبدو لى انهما غير قادرين على الفكاك من أسر عقلية السودان القديم. وأنهما ليسا على درجة كافية من الاستعداد لاستيعاب الدعوة لاحداث تغييرات جذرية واعادة هيكلة كلية لكل البنى القائمة، خاصة اذا جاءت هذه الدعوة من قِبَل "آخرين"، وهى دعوة نعلم انها تقع عند بعض قوى التجمع الوطنى الديمقراطى وقعا غير طيب) {ترجمة غير رسمية}. نقلا عن صحيفة ( الاحداث ) مقالات سابقة: