لم ألتق به من قبل وكل ما أعرفه عنه أما عن طريق قراءة تصريحاته أو شفاهة ممن قابلوه أو زاملوه أو الذين التقوا به في ساحات النضال. الجميع كانوا يصفونه بأنه الابن غير البيولوجي للدكتور جون قرنق. كان من العشرة الأوائل الذين انضموا للحركة الشعبية من الشمال، ليس هذا فحسب، وإنما خاض معارك عسكرية ضد النظام الحاكم ومن سبقوه. وقد تبوأ رتبة عسكرية مرموقة وشهد ببسالته أعدائه قبل أصدقائه . خطي أبعد من ذلك وتفوق علي أقرانه، حينما أثبت بالتطبيق العملي وليس المماحكة النظرية، رفض الهيمنة الشمالية وسذاجة وعدم صحة مفهوم تفوق العرق العربي علي الزنجي. صاهر الجنوبيين ونبذ العنصرية البغيضة وأثبت بطلان زعم أولئك الذين مازالوا في غيهم سادرون. هؤلاء قلِّة... وهم رواد التغير، فلله درِّهم. بمحض الصدفة كنت من المحظوظين الذين حضروا لمطار أتاوا لاستقباله والوفد الذي حضر ممثلاً للجبهة الثورية. عرَّفته بنفسي وتعانقنا كأنما كنا نعرف بعضنا البعض منذ سنين طويلة وتفرقت بنا السُبل. ورغم طول الرحلة ورهقها وإنتظار طابور العفش، عبَّر عن إعجابه بالمقال الذي كتبته عن عن العم الجزولي سعيد، ونُشر بصحيفة الميدان وبعض المنابر الإلكترونية. أتضح إنه قرأه في الطائرة وهي على أرتفاع ثلاثين ألف قدم من الأرض، وأبدى لي ملاحظة علي ما ذكرت في الفقرة الأخيرة . تعجبت لهذا القائد الذي كان أول أمس مع مقاتليه في (كاودا) وأمس في أديس أبابا يتفاوض مع ثامبو أمبيكي، حول كيفية وصول المساعدات الإنسانية للمحاصرين في جبال النوبة والنيل الأزرق جراء الحرب الجائرة، والذين يقدر عددهم بالملايين. وها هو اليوم في مدينة أتوا في زيارة غير مسبوقة تشكل محطة رئيسية لتنظيمه، ومع كل ذلك يجد الوقت للقراءة. ليست هذه زيارة عادية، فالجبهة الثورية قد أصابات نجاحاً دبلوماسياً بحضورها الي كندا. ولتقريب صورة هذا النجاح للقارئ، يجدر بنا أن نذكر أنه في خلال العشرين سنة الماضية لم يحضر إلي كندا بصورة رسمية أي من زعماء المعارضة ولا حتي الراحل دكتور جون قرنق. وللتاريخ أقول إن كاتب هذه السطور فشل في الحصول علي تأشيرة زيارة، لشخص في مقام أستاذنا الجليل الراحل محمد إبراهيم نقد. وصلنا الفندق حوالي الساعة الحادية عشر ليلاً، وتجاذبنا حديثاً مُختصراً مع أعضاء الوفد ومن ثمَّ تركناهم لعقد اجتماعاً مُصغراً للتحضير للقاء الغد مع ممثلي الحكومة الكندية. أعطاني ياسر إحساساً بأنه رجل دولة من الطراز الأول، وقد إنعكس ذلك في بشاشة الاستقبال لكل من حضر لاستقبال الوفد بالمطار. كذلك في طريقة تعامله مع زملائه قادة الجبهة الثورية الذين حضروا من أقطار مختلفة عندما تقابلوا بمطار أتاوا ، تنسيق الإجتماع مع الكنديين وأجندة اليوم التالي. كنا نتقابل ببهو الفندق حيث يدور الحديث حول السياسة ودروبها الوعرة. ياسر ما زال يحفظ الود والإحترام ويقدر إسهامات وتضحيات الشيوعيين السودانيين، وهذه فضيلة لم يتمسك بها كثيرون ممن اختاروا مسارات أخري في العمل العام. ذكر ياسر بمرارة كيف رحلوا فقراء مخلفين ورائهم إرثاً نضالياً للشعب السوداني وسيرة طيبة ، الزملاء بشير، عمر آدم، عبدالرحمن، طه، بكري، وآخرين ذكرهم ولم تسمح ظروف العمل السري بلقائهم. حدث بيننا لقاءين جعلوا من ياسر والوفد المرافق أن يتعرفوا علينا ويتم التعامل بصورة سهلة وعادية معهم. وعلى المستوي الشخصي علمت أن العمل العام جمعه مع شقيقتي نجاة بشرى، وكذلك على معرفة بشقيقي عبدالسلام بشرى. كنا جلوساً في صالة الأستقبال بالفندق قبل يوم من ندوة كان سيعقدها ياسر للسودانيين في أوتاوا، أستأذننا للذهاب إلى غرفته وذلك للتحضير لها، ولكنني طلبت منه البقاء ومازحته بقولي إنها لا تحتاج الي كثير عناء من شخص مثله، فردَّ عليّ بطرفة أري أنه من المفيد أن تُحكي. حضر وفد من الحركة الشعبية برئاسة الدكتور جون قرنق إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية. وأثناء وجودهم بالفندق، وفي حوالي الساعة 11 ظهراً رأى دكتور جون أهمية ذهابه إلى الغرفة، فما كان من أدوارد لينو إلا أن لفت انتباهه بتذكيره بندوة كان سيقدمها في تمام الساعة الثالثة بمعهد بروكلين للسلام. أندهش دكتور جون لعدم علمه بهذا البرنامج، وعلي الفور سأل إدوارد لينو ما إذا كانت له أي معرفة بهذا المعهد والذي كان يعرفه دكتور جون شخصياً. ثم أعقبه بسؤال آخر مُستنكراً عما إذا كان إدوارد على علم بالأشخاص الذين تُقدم لهم الدعوات من الإدارة الأمريكية لحضور تلك الندوات فأردف أدوارد مُعقباً بعلمه. هنا إشتط غضب رئيس الوفد - الذي على حسب الراوي لم يره قط في مثل هذا الموقف - وطلب من إدوارد الذهاب بدلاً عنه لتقديم هذه المحاضرة وتحمُل المسئولية، لأن مثل هذه اللقاءات يجب التحضير الجيد لها. لكن إدوارد أجاب في الحال "أنت يا دكتور زي التلفزيون يفتحوك طوالي تشتغل ما محتاج لتحضير" فضحك الجميع وذهب دكتور جون وقدم الندوة التي حُظيت بإعجاب كبير . كان اللقاء في الندوة التي تمت بأتاوا عظيماً، تحدث قادة الحركة الثورية عن برنامجهم، وعن الدولة المدنية التي ننشدها، وعن الاهتمام بحل مشكلات الهامش، وبناء علاقة إخاء ومودة مع جنوب السودان. وعن أهداف الزيارة والسعي لإعتراف دولي بالجبهة الثورية والمساعي الجارية لتوحيد برنامجها مع برنامج تحالف قوى الإجماع الوطني. كذلك تم تقريظ ما يقوم به شباب وشابات السودان في منازلة هذا النظام الدموي، وعلي الرغم من ذلك ظلَّ ما فتأ قادة الجبهة يعتبرون الحل السلمي أحد الخيارات المطروحة لإسقاط النظام، مع عدم حماسي لهذا الخيار ، على الأقل في الوقت الحالي . في الختام تحدث عرمان، وكان خطيباً مفوهاً طرح بوضوح ولباقة البرنامج السياسي. مشيراً إلى ثورة المهدية وثورة 1924 وتجربة المؤتمر الوطني الأفريقي، وقال إن هذه الأحداث التاريخية هي التي شكلت منهجه ورؤيته في حل مشكلة السودان. مؤكداً أن الهوية والدولة التي تجمع الكل من دون أستثناء لطائفة أو عرق، وإنشاء الدولة مدنية، والمرأة والشباب، كل هذه المحاور تمثل عنصراً مهماً في تشكيل الدولة القادمة كما يراها. حضر الندوة عدداً مقدراً من إخواننا وأخواتنا الجنوبيين، وساهموا في النقاش، وبعضهم سأل الأسئلة الصعبة علي شاكلة أيهما أصلح لسفاكير تجويع الجنوب أم تسليم ياسر للبشير والعيش في هناء. في رأيى أن عرمان إستفادة فائدة قصوي من المدرستين اللتين تتلمذ عليهما: عضويته في الحزب الشيوعي، وقربه من الراحل جون قرنق، مع ترجيح الثانية التي ربطته بقضية الجنوب أو أم المشاكل كما كان يُطلق عليها. في المساء تم لنا لقاء بالفندق، وطرحت له سؤالاً عن سبب إنسحابه من الإنتخابات الأخيرة خاصة إذا رجعنا بالتاريخ الي الوراء، لأن هنالك من يرى أنه إذا لم ينسحب عرمان من السباق فإن حال السودان كان سيكون أفضل مما هو عليه اليوم، خاصة أن إمكانية فوزه كانت كبيرة. أسترسل في تفاصيل وملابسات هذا الموضوع لنحو الساعة. أستنتجت من سرده أن هذا الشاب كان على أتصال بالزعماء السياسين الشمالين في كل خطواته، كان يستمع إلى نصائحهم وأرشاداتهم، ولا يشق لهم عصا الطاعة، يتعامل معهم كالإبن مع والده. يتناول الإفطار مع نقد، ويذهب لدعوة العشاء التي يقدمها حسن الترابي، ويقابل رأس الدولة البشير، ويعامل زعماء الطائفية بأدب واحترام جم. قدم لهم نيابة عنا جميعاً مثالاً صادقاً لإبن السودان البار بوالديه وشعبه. وصلت إلى نتيجة أن أمام شعب السودان فرصة أخيرة يجب أستثمارها، وهي أن نتيح الفرصة لهؤلاء الشباب الذين شابت روؤسهم، أن يسيروا دفة الحكم، ويضعوا برنامج لإنقاذ ما تبقي من السودان: عرمان، الشفيع، كمال الجزولي، أحمد حسين، أحمد عباس، ترايو، مهدي داؤد، إبراهيم عدلان، مهدي إسماعيل، سيد قنات، حسن بشير، القراي، سيف الدولة حمدناالله وآخرين وأخريات كُثر. قبل أن يغادر أتاوا للقاءات أخرى مع سودانيي الشتات بكندا، أسريتُ له ربما تساعدني الظروف في كتابة مقال عن ياسر عرمان، وسأبعثه له قبل أن أنشره لكي يراجعه فما كان منه إلا أن رفض الفكرة تماماً، وبدلاً عن ذلك طلب مني نشره وعدم الرجوع إليه. وفوق هذا كله زودني بأكثر من عنوان للاتصال به. حذرته من مغبة عدم الأكتراث للتأمين خاصة بعد مقتل الدكتور خليل إبراهيم فكان رده بالطريقة السودانية "البسويها الله كلها سمحة"هذا مسلك إنساني مُخالف لكل ما رأيناه ممن تسلطوا علي رقابنا. غادر أتاوا إلى مدينة كتشنر وتورنتو، تأسفت كثيراً عندما علمت أنه لن يعود إلى أتاوا فحرمني من وداعه. كنت أنوي وداعه بكلمة لا إله الأ الله محمداً رسول الله، وترديدها ثلاثة مرات من جانب كل منا، والوداع بكلمة لا إله إلا الله، يُعتبر فألاً حسناً عند أهلي الأنصار، يؤكد إمكانية لقاء آخر. كذلك كانت رغبتي أرسل هدية متواضعة إلى بنتيه الصغرتين، حتي لا ينسوا أن لأبيهم إخوة في كل مكان. تصحبك السلامة حامد بشري 21 أكتوبر 2012 Hamid Bushra [[email protected]]