[email protected] تكمن قيمة الحنين في الشعر العربي القديم لما يحويه من معاني الخلق الفني الصادر من القلب إلى قلب المتلقي مباشرة خالقاً رابطة روحية بينهما. ويبرر البعض أن الرحلات العربية في الماضي ومشقتها من ناحية بدنية ونفسية هي التي خلقت هذا النوع من الشعر نسبة لارتباط العرب بديارهم وأهلهم. وموضوع الحنين في ذلك النوع من الشعر تفيض فيه روح الشاعر كما المتلقي بأحاسيس شوق وحب وحرمان يخرج فناً جميلاً ومؤثراً.ومعظم قصائد الحنين ذات الدلالات لا تدخل بالضرورة في باب الغزل بقدر ما تتلاءم مع الحنين إلى الوطن ، حتى ولو بث الشاعر شوقه لمحبوبته عن طريق وطنه أو العكس. من ضمن ما أعجبني من قصائد الحنين في الشعر العربي القديم دالية عبدالله بن الدمينة الأكلبي ذلك الشاعر التقدمي الذي احتارت في تحديد حياته عصور التدوين الأولى فاكتفى المؤرخون بترك شعره يتحدث عن مكانه وليس زمانه (ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد ، لقد زادني مسراك وجداً على وجد) .وفي القصيدة تمنٍ ورجاء بالقرب من جديد ، وهذا شيءٌ إيجابي يدحض فكرة أن الحنين هو الاستسلام بالبكاء على الأطلال بمثل سلبية إمرئ القيس. ففي قصيدة ابن الدمينة وكثير من قصائد الحنين يمكن استيعاب جزء من التناقض بين غنائية القصيدة العربية الكلاسيكية وتركيبتها التي تبعد القصيدة الخاضعة لهذين الشرطين معاً عن أن توصف بأنها قصيدة رومانسية صرفة . وهذا بالطبع لا يصادر حقها في أنها نجحت في توليد نظم رقيق نابض بالحياة. وبإصاخة السمع إلى قصيدة ابن الدمينة نستطيع فهم أكبر قدر من شعر الحنين القديم لأنه من خلال صوتها تصدر أصوات يزيد بن الطثرية وقيس بن الملوح وجميل بثينة والقحيف العقيلي وابن ذريح ، ومن خلالها نستطيع أن نستوعب الغنائية العربية الكلاسيكية في فهم أكثر لقصائد الشعراء السابقين بوصف أن زمان الشاعر أحدث نسبياً رغم عدم تحديده وبأن ما قدمه في قصيدته سمح بجس النبض من تحت السوار الجوهري المحيط بتعابير الحنين سهلة الإدراك ذاتياً من الناحية الثقافية والإنسانية والتاريخية. ألا ياصبا نجد متى هجت من نجد لقد زادني مسراك وجداً على وجدي رعى الله من نجد أناس أحبهم فلو نقضوا عهدي حفظت لهم ودي سقى الله نجداً والمقيم بأرضها سحاب غواد خاليات من الرعد إذا هتفت ورقاء في رونق الضحى على غصن بان أو غصون من الرند بكيت كما يبكي الوليد ولم أكن جليداً وأبديت الذي لم أكن أبدي إذا وعدت زاد الهوى بانتظارها وإن بخلت بالوعد مت على الوعد وقد زعموا أن المحب إذا دنا يمل وأن البعد يشفي من الوجد بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ألا أن قرب الدار خير من البعد ألا إن قرب الدار ليس بنافع إذا كنت من تهواه ليس بذي ود ولما كان بث الحنين هو غاية معظم القصائد العربية القديمة فإنه يستعصى على الشاعر أن يأسر هذه القصائد في زمانه وحده . ونسبة لتطور الزمن فإن الآخذ بقصيدة ابن الدمينة لا بد وأن يخضعها إلى ثلاثة مناهج بنيوية تتناول البلاغة والأنثروبولوجية والتركيب ، ذلك لأن التاريخ صادقاً كان أم كاذباً لا يضمن صلاحية مثل هذه القصائد لكل زمان ومكان إلا إذا خضعت لهذه المناهج حتى تصبح مواكبة لتطور الزمان . يمكنني أن أحس هذه القصيدة وأنا واقعياً أعيش في هضاب نجد ، كما يمكن أن يحسها من كان في هضبة سيبريا أو سهول نهر الأمازون ذلك مع تغيير طفيف على نفسية المتلقي حتى تتاح له حالة الحج الروحي لو أراد. عن صحيفة "الأحداث"