بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كلما أخبرت عنه أو خابرته، كنت أبتدر حديثي عنه أو معه ببيت الشعر المعروف: عباس عباس إذا احتدم الوغى ***** والفضل فضل والربيع ربيع فيرد على كعادته الهادئة: بل قل كما يحلو "للحاردلو" أن يقول: عباس الكيّس حين البأس ***** والفضل فضل والربيع ربيع وتلك من الحقائق والرقائق التي لا ينتطح عليها خصمان.. ولا يتنطع بها عثمان.. فالكثير من أهل قبيلته، أعنى الدبلوماسيين، يعلمون علم اليقين، ويبصمون باليمين، بأنه كان بعيداً عن محاريب التزلف والتملق، بعيداً عن سراديب التحذلق والتكلف، لا ينثني ولا ينحني.. مديداً بقامته التى تتقاصر دون مقامه.. فدوماً تجده مرفوع الهامة.. بارز الصدر.. متسارع الخطو.. دائم الابتسامة.. شامخاً كالطود العظيم، كشموخ وطنه الذي أحبه، وحباه الله بالعزة والرفعة والمنعة.. لقد كان ريادياً وقيادياً، ولقد تبلورت وتطورت شخصيته القيادية فى مدرسة وادي سيدنا الثانوية، ومن ثم جامعة الخرطوم، حيث كان أحد أعضاء اللجنة التنفيذية لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم، الذي كان نتاجاً وطنياً، والذي كان نباته ثورة أكتوبر بغضبها، وببغضها.. وقيضها، وفيضها... وغيظها، ولظاها.. فتلك حقبة تاريخية تميزت وامتازت بنخبة وحفنة من السياسيين المعتقين المعبقين بعبق الوطنية والتضحية، المخضبين بدماء الفداء والولاء. وقد لا يوجد مثلهم، ولا تجود بهم سنين قادمات جفاف عجاف.. لقد كان عباس من تلكم النخبة؛ فلا غرابة ولا غرو أن يلتحق بوزارة الخارجية، والتي كانت أهم محطاته الأولى؛ فحياته العملية والعلمية على حد سواء.. نعم لقد كان من أنصار التعلم والتأقلم، والتفاعل والتعامل مع مدرسة الحياة. فلقد ألبسته هذه النظرة المزيد من المعرفة، وأكسبته العديد من المعارف، الذين ما أنفك منزله العامر بنمرة (2) يضج ويعج بهم. لقد كان واسع الخيال، شاسع المجال.. يلتهم بنهم كل الذى يطالعه فى أمهات الكتب بشغف يجعلك تشفق عليه؛ إذ كان بمقدوره إيجاز وتلخيص ما اطلع عليه بإعجاز وتخصيص..فلقد كان رجلاً لا يمِل.. وفحلاً لا يكِل. وبقدر ما كان شاملاً كاملاً، كان يجالسك ويخالسك، ولا يخذلك. يأخذ منك اليسير، ويعطيك الكثير. ظل في وزارة الخارجية فترة ليست بالطويلة، لأنه كان لا يعرف المداهنة، ولا يرضى بالإهانة.. بل كان ينافح بالحقيقة.. ولا يناطح بالضغينة.. فتسارعت خطاه تاركا الوزارة غير آس، ولا آسف؛ فأحاطت به رفعته؛ وحطت به معرفته في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، حيث وجد ضالته ومآله في إبداء الرأي والإبداع.. ترك بصمته بصمت.. فتبارك رسمه ووسمه. توجه ثانية إلى وزارة الخارجية، متوجاً عمله فيها سفيراً للسودان فى دولة لبنان، والتي كانت تجتاحها حرب أهلية، وصراعات بين بيوتاتها الحاكمة.. فالعمل الدبلوماسي في مثل هذه البلاد يحتاج "للكيّس حين البأس".. فتصدى للمهمة.. وتحدى بالملهمة كل الصعاب، ولم يخش العقاب.. فقال "كفانا قتالاً" .. و"حسبي الله من حزب الله".. فتحيروا وتوددوا.. ولم يتحروا وترددوا..! أكتفي بهذه الرمزية، ولا أوفى ذلكم الرمز حقه.. فكانت خاتمة السيرة ونهاية المسيرة.. لقد أسهبت فيما أسهمت عن "الكيّس حين البأس". فماذا عن "الفضل فضل"؟ .. فلقد كان يغوص ويخوض فى بحور الفضيلة.. إذ أنه كان نبوي المذهب والمسلك.. يبحث عن المدينة الفاضلة عند أفلاطون، ومكارم الأخلاق عند الحبيب المصطفى - صلى الله عليه وسلم- والذي يقول: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". فلقد كان بعيداً عن الكبرياء والرئاء، والطمع والبخل، والحقد والحسد، وآخرهم العُجب. فإذا سلمت النفس البشرية من هذه العوائق والعلائق، فقد برئت الروح لبارئها، وجَنَت وما جَنَت. وقد كان.. وكيف لا؟ وهو المتبتل، المتعبد في محراب التأمل والتفكر. فكثيراً ما تجده مختلياً، متحلياً بوجده. وهذه قمة التصوف.. عزلة وصمت وتأمل. فلقد كان محور استناد راكز.. وبحر استمداد زاخر..لا تعتريه شائبة، ولا تعتليه عائبة. إنه ماعون صفاء،وينبوع نقاء، يقول لي: "أَقِل عثراتي، تقل ثغراتي".. فكان نعم الأخ، ونعم الصديق الصفي الوفي. كنت أستأنس برفقته، وأستيأس حين فرقته. ولقد كان جهده فى جَدِه، وجده في زهده، وزهده في وجْدِه، ووجْده في وجهه.. بسمة دائمة، ونسمة حالمة؛ تستمد قُوتَها وقُوتّها من جنات النعيم. فلقد كان صاحب فراسة وروح ملهمة.. وفراسة المؤمن لا تخيب؛ فإنه يرى بنور الله، كما ورد في الحديث الشريف. وأذكر في هذا المقام أن والدنا- طيب الله ثراه- كان مريضاً.. طريح فراش مستوصف النيل بالعمارات شارع"41"، فى أخريات عام1982م. ولهذا التفصيل أهمية لما أرويه في هذا السرد. ففي تمام الساعة الثانية صباحاُ، هلّ علينا وأطل (الكيّس حين البأس)، قادماً من تونس، حيث خرج من المطار مباشرة للمستشفى، علماً بأن منزله الكائن بنمرة (2) كان الأقرب لبوابة المطار. فما أن التقى الناظر بالناظر، إلا وقد أغرورقت العيون وترقرقت.. التفات والتفاف.. عناق وتلاق وافتراق اختلجت فيه الحواس، واختلطت فيه المشاعر.. تلاقت وتلاقحت.. تمازجت وتزاوجت روح ابن وأب، انتهت بضمة حنين وقبلة على الجبين، وقولة: "أنا عاف وراض عنك" فماذا ضرك بعد يا أبا "المها"؟ .. ورضا الوالد من رضا الرب. فكثيراً ما كنت أسمع الوالد يردد هذاالبيت من الشعر: نعم الإله على العباد كثيرة ***** وأجلهن نجابة الأبناء كما كان دوما يختتم صلاته الأخيرة من الليل بهذه الآيات } رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ{ ...} رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ{ . لم يستغرق هذا المشهد البديع أكثر من خمس دقائق.. جعلني أغرق في عوالم اللاهوت والهاهوت والبهموت.. تكدر حسي ولم يكذبني حدسي. فما أن أشرقت الأرض بنور ربها.. إلا وحشاشتى تتشقق، وشقشقة على حشيش، وعصافير تشق عنان السماء، ماسكة بعنان روحه الطاهرة إلى العلياء وعليين. فماذا ضرك بعد يا أبا (إيهاب)؟ لقد أتيت بليل، وذهبت بليل، ونِلْت بما لِنْت. فأنت ذو قلب يغالب قالبك رقة ودعة وعفة ورأفة. فهنيئاً بالربيع، والضرع الرضيع، في ربوع الجنة. فأنت يا أبا (عمرو) نَبْت (الغرقان) في طينة (لخواض)، تعمر الربع ربيعاً.. يزدهي ويزدان ويزيد بين الحور والولدان. فلقد تركت بيننا بنت الأكرمين (كريمة) الكريمة، التي رضعت منك وأرْضَتك، ورَضِيت ورَضَيت، وأنت ترفل فى جنة الرضوان مع المصطفى العدنان. وعزاؤنا أن روحك ستظل ريحانة كريح المسك، يفوح ريحها وفحواها، تَرُوح وترتاح بيننا، تُريحنا وتروّح عنّا عناء الفرقة والحرقة. رحمك الله رحمة واسعة بقدر ما أعطيت وأرضيت }وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ{. وإنا لله وإنا إليه راجعون ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. أخوك الذي تتلمذ وتلذذ برفقتك.. عديم الحظ.. المتلظظ بفرقتك عثمان أبا سعيد الحاج المدينةالمنورة 23/12/1433ه الموافق 8/11/2012م Abdelmoneim Khalifa [[email protected]]