الصادقْ المُتَمَهْدي: يطالب الشعب بالنزول للشوارع، نهاراً جهارا، ليسري إلى القصر تحت جنح الظلام! عادل عبد الرحمن سوداني مقيم ب هيوستون أمريكا Adil abdelrahman [[email protected]] عندما خرج الإمام مهاجرا ساخطا على النظام، في عمليّة تهتدون، عاقدا العزم على مقارعة البشير بمثل ما قال: (الدايرنا يشيل سلاحو ويجينا) فأناخ بأسمرا، وأعطته “الجبهة الشعبية" من أرض الشعب الإرتري (الذي لم يناصره يوما، معارضا كان أم حاكما، إذ كان يوالي الشيوعي الحبشي منقستو) ما أراد من معسكرات وعتاد لجنده الأنصار. ولما أزف أوان/ (تهدون، تزهجون، ترجعون) آلت المسألة برمتها إلى فضيحة: ذهب الإمام إلى جيبوتي لمقابلة البشير، ثمّ عاد إلى الخرطوم قبل جُنده، الذين عادوا مذهولون ساخطون مغبونون. فلمّا سألوا الإمام أن يعطيهم، كيْ يقيموا الأود، مما أعطاه البشير، وقفْ دُدْ. فكان أن شهدنا أوّل إعتصام من نوعه في التاريخ والسِيَر، إذ لاذ “أنصار الإمام" بحوش خليفة جدّه المهدي، مطالبين بحقّهم، مسجلين سابقة أوّل إعتصام طائفي، لطائفةٍ ضدّ إمامها. * أمّا من أسباب وصفنا له بالمتمهدي، فلقد أمدّنا هو نفسه بأسباب ذلك؛ ففي خطابه المفتوح (المفضوح؟!) وفي مستهلّه، جاء الآتي: (الدولة المسيحية في السودان قاومت جيوش الفتح الإسلامية في صدر الإسلام ما أدى لإبرام اتفاقية البقط بين الطرفين، فاستمرت دهراً اثناءه توغل الإسلام في السودان بالقوة الناعمة حتى بلغ أوجه في القرن السادس عشر الميلادي. كان للتصوف وأساليبه الناعمة دوراً مهما في أسلمة السودان، وهو تصوف سني خلا من غلو الاستشراق، ولكن ما صحبه من تخليط فتح الباب لحركة إحياء إسلامي لتوحيد الكلمة، ولطرد الغزاة، ولتطبيق أحكام الإسلام: المهام التي اقدمت عليها الدعوة المهدية في السودان، وهي دعوة خلت من الارتباط بشخص بعينه غاب وسوف يعود، وخلت من الارتباط بموعد بعينه: آخر الزمان، وتمسكت بدور وظيفي لإحياء الكتاب والسنة بدعوة من شخص هداه الله وهدى به) يا سبحان الذي علّم آدم الأسماء كلّها..! يعني لمّا تسمّى محمد أحمد بن عبدالله بن الفحل بالمهدي، كان قد إختار اسم دلع؟! أم أنّه إدّعى بأنّه المهدي المنتظر، بمثل ما درسّونا في الكتاتيب، وبمثل ما قرأنا لمؤرخينا، وجامعي تراثنا ومفسّريه؟!! لوهلةٍ خلت أنّ مرام الإمام، هو إعتراف بأنّ المهدي ليس بمهدي أو يحزنون (كما هي الحقيقة) بيْدَ أنّي سرعان ما بدّدت توهّماتي وخزعبلاتي. فالأمر سيترتّب عليه نزع الإمامة عنه (ونحن نعلم عنه بأنّه يبغض ذلك) إذ لا مسوّغ لورث الإمامة عن “مهدي" أطلق كذبة بيضاء من أجل هدفٍ نبيل: أن يجتمع الناس من حوله لطرد المستعمر، ومن ثمّ كيْ يهديهم سواء السبيل! ولأنّه، لو كان محمد أحمد عبدالله الفحل، مجرّد ثائر (وهي الحقيقة التي منحته هذي المكانة العظيمة في تاريخنا، وقلوبنا) فإنّ الثوّار لا يورّثون أبناءهم ولا أحفادهم “لا دينهم أو قميص الفتن" وهو ما فعله محمد أحمد المهدي كثائر حين سمّى خليفته/ عبد الله التعايشي البعيد عن أهله وعشيرته! أمّا ما يدعو للحيرة والدهشة، هو حديث الإمام عن أنّ الدعوة المهديّة لم تكن مرتبطة بشخص بعينه غاب وسوف يعود، وخلت من الإرتباط بموعد بعينه: آخر الزمان.. إلخ إلخ بدعوة من شخص هداه الله وهدى به! في أسطر معدودات دوّن لنا السيد/ الصادق الصديق عبد الرحمن تاريخا جديدا، ينزع صفاة عن جدّه/ المهدي، ليخلع عليه صفاة (عصريّة؟!) لم ينطق بها أنصاري أو مهاجر من قبل. فما الذي يجعل الإمام يخلط الحقائق بالرغائب؟ إنّ شخصا يعتبر نفسه منظّرا، ومجدّدا في آن؛ ثمّ يعتقد بأنّ الناس، متعلمين ومتفلهمين وعوام، سيصدّقون كلّ ما ينطق به، أيّا كان، وينسوا في لحظة تاريخهم القريب والبعيد، وكلّ ما علموه وخبروه في هذه الدنيا؛ لهو شخص لايمكن إئتمانه على إدارة “دكان حلّة" ناهيك عن وطن/ أوطان مثل السودان. إنّ منظّر، لا يراجع أفكاره، ومصادر معرفته، ينتقدها ويجوّدها؛ سيكون من ذاك النوع الذي يدّعي المعرفة كلّها بيقين تام، لا يتزعزع! أمّا أن يكون المنظّر، سياسيّا، نال شرف الحكم مرّتيْن، وفي فترات جدّ تاريخيّة لشعب وشعوب ما؛ ولم تكن فترات حكمه سوى فشل ذريع في تحقيق النذر اليسير من برامجه وخططه ثمّ لا يمنّ على “شعبه/شعوبه" بشذرة نقد ذاتيّ واحده، ولا يفتأ يتباهى بما “أنجزه" وما لم ينجزه، ويسعى إلى سدّة الحكم من جديد لهو شخص لا يحمل ذرّة إحترام واحدة لمن يريد أن يحكمهم ثانيةً. وأمّا مَن يمدّون له الأيادي ممن اكتوا بأفعاله ليعملوا معه ويثقون فيه، لهم أشدّ إحتقارا لمن يثقون فيهم، من أبناء شعوبهم! {ألم تروا ثوّار الأمس، الإسلاميّون، اللذون صعدوا لعروش الحكم عن طريق الديمقراطيّة، كيف تكأكأ ركبهم على الخرطوم، يُمجّدون واحدا من أكثر أنظمة الحكم دكتاتوريّة وإجراما على مرّ التاريخ؟!!} * نعم، كان العنوان عن دعوة السيد/ الصادق للشعب السوداني كيْ يؤم الشوارع والميادين. وأنّي لم أتطرّق لتفاصيل ذلك. وذلك، ببساطة لأنّي لا أأخذ حديثه محمل الجد. فكم من مرّة، من مكان لمكان، داخل وخارج السودان، شتم الإمام النظام. وكم من مرّة نادى بإسقاطه عنوة، أو بجهاده المدني. كم وكم.. فهل نسينا حديث (الجلد الواحد والأشواك؟!!) المقصود بالعنوان: هم من دعاهم الصادق “للخروج" دون أن يُعلم أحدا أين سيكون هو أين موقعه وفي ياتو زاوية.. وهو الذي يملك الخيل المطهمة، والأنصار البياكلوا الشوك وبدوسوا النار، ويحاربون ولو بسيوف العُشَر؟ أم أنّ أحدا فقد الثقة في الآخر؟؟ * بعدين، فلنفترض فيه الصدق، هذه المرّة، “فأسقط" النظام كما يشتهي. وجاءت الديمقرطيّة (هروكولة تمشي الهويْنا كما يمشي الوجي الوحِلُ) فأثارت أشجانه ولواعجه فزفّ بها إلى قصر الرئاسة.. تفتكروا حيعمل معانا شنو؟ غايتو أن سيئ الظن: فدمقراطيات الربيع العربي الإسلاميّة، ستكون قد آلت لثيوقراطيّة، وبعد داك تنقلب آية الخرطوم لقاهرة المعز وتونس الخضرا وطنجة وتطوان. وما نعرف ليهو درب ياتو قصر. * هناك شيء أقلّ من النقد الذاتي بفراسخ، اسمه الإعتذار. وهو واجب وضروريّ حين يخطئ الإنسان الخطّاء بطبعه، في حقّ الآخرين، وبخاصّة لو كان الخطأ فادحا. ولكن، حتى هذا، كاد الإمام أن يفعله مرّة.. ولكنّه كالعادة أحجم: محمد سعيد ناود، وحديث الذكريات مقتبس: كانت المرة الأولى التي تجمعني بالسيد الصادق المهدي حدثت في عهد الفريق إبراهيم عبود في عام 1962م ، وكان الصادق بن الصديق بن عبد الرحمن بن محمد احمد المهدي آنذاك شابا صغيرا لم يدخل الثلاثين من عمره . وبالمناسبة فهو احتفل في عام 2006م ببلوغه السبعين من عمره ، زرته آنذاك في دائرة المهدي بالخرطوم بشارع الجامعة برفقة المناضل يسين عقدة ممثل حركة تحرير إرتريا بالخرطوم ، فقمت بشرح القضية الإرترية له . فأشار لنا بيده إلى الشباك حيث كان العلم السوداني بارزا فوق إحدى البنايات المجاورة ، فقال السيد الصادق : ( انظروا هاهو علم السودان يرفرف أمامكم ، وبالرغم من ذلك فنحن نعيش في حالة كبت وإرهاب . فانتم أحسن منا حالا فعلمكم لم يرفرف بعد ، وهذا يجعل العالم يعترف بكم بأنكم تحت الاستعمار ، وبالتالي يتعاطف معكم ) . وبعدها زال نظام عبود وأصبح السيد الصادق المهدي رئيسا للوزراء ، ولم نتمكن من اللقاء به رغم محاولاتنا العديدة ، وتمر السنين ويأتي إلى السلطة في السودان جعفر محمد نميري ، ويصبح السيد الصادق المهدي معارضا له ، ثم تتم المصالحة بينهما بعد صراع استمر طويلا ، وعندها تمكنا من اللقاء بالسيد الصادق المهدي في قصره القريب من مباني الإذاعة والتلفزيون بأم درمان ، وكنا عثمان سبي ، طه محمد نور ، وشخصي . وشرحنا له قضيتنا التي كان يعرفها جيدا ، وبعد الاستماع إلينا أعطانا محاضرة طويلة اذكر منها قوله : ( إن عالم اليوم أصبح عالم الكيانات الكبيرة ، فالكيانات الصغيرة لم يعد لها مكان . وانتم وعلى هذا الأساس وبدلا من الانفصال عن إثيوبيا فبالا مكان أن يتم تامين حقوقكم في إطار ما يطلق عليه أي تسمية يتم الاتفاق عليها في إطار إثيوبيا الكبيرة ، فإذا قبلتم بذلك نحن مستعدون للتحرك والوساطة بينكم وبين إثيوبيا ، أما إذا لازلتم تصرون على الاستقلال ، نسال الله أن يساعدكم ولكننا لا نستطيع تأييد ذلك ) . وقد اجبنا بلسان واحد بأننا لن نقبل بما هو اقل من الاستقلال ثم انصرفنا . وتمر الأيام ويسقط نظام مايو ليتحول السيد الصادق المهدي من معارض إلى حاكم أي رئيسا للوزراء ، وكالعادة لم نتمكن من اللقاء به ، حتى حدوث الانقلاب العسكري الثالث بقيادة الفريق عمر حسن احمد البشير ومعه دكتور حسن عبد الله الترابي في عام 1989م وما عرف لاحقا بثورة الإنقاذ . وهنا أصبح السيد الصادق المهدي وكالعادة معارضا ، وإذا بإرتريا تنتزع استقلالها الوطني لتصبح دولة مستقلة ، ورغم الانتصار العسكري الذي حققته ثورتها إلا أنها قبلت بالاستفتاء الدولي وكانت نتيجته 99,8% إلى جانب الاستقلال ، وكانت تلك رغبة وإرادة الشعب الاريتري . ومن الصدف فان السيد الصادق المهدي المعارض لنظام الإنقاذ في السودان يلجأ إلى إرتريا المستقلة التي تفتح له صدرها وترحب به عزيزا مكرما ، ومن الصدف أيضا أن التقي بالسيد الصادق المهدي مرات عديدة في اسمرا . وفي إحدى تلك المرات فقد أقام رجل الأعمال الاريتري السيد ( حسن كيكيا ) مأدبة عشاء بمنزله في اسمرا على شرف السيد الصادق المهدي وأقطاب حزب الأمة اللاجئين في إرتريا ، وحضرها أيضا عدد من الوزراء الإرتريين ، وبعد العشاء طلب مني صاحب الدار أن القي كلمة باسمهم جميعا ، وقد ارتجلت كلمة قصيرة ذكرت فيها العلائق الأزلية بين الشعبين في إرتريا والسودان . كما تطرقت للثورة المهدية كذلك للثورة الإرترية التي كانت محل حفاوة وترحيب من الشعب السوداني ، أثناء ذلك كان السيد الصادق المهدي يستمع باهتمام لكلمتي وبعدها ارتجل السيد الصادق المهدي كلمة مختصرة شكر فيها إرتريا ثم أضاف قائلا : ( إننا لم نكن نعرف إرتريا أو الشعب الإرتري حتى جمعتنا الظروف هنا في بلادكم كلاجئين ، ورب ضارة نافعة ، وعندها تمكنا من معرفتكم ومعرفة بلادكم ) . وعندما انتهى من كلامه كنت قد تذكرت لقاءنا به في منزله بأم درمان ، وشعرت وكأنه كان يقدم اعتذارا لنا لما قاله عن الكيانات الكبيرة والكيانات الصغيرة وإعلانه لنا بأنه لن يؤيد استقلال إرتريا . http://nawedbooks.com/nawed/modules.php?name=News&file=article&sid=51