ندوة الشيوعي    "المركز الثالث".. دي بروين ينجو بمانشستر سيتي من كمين وولفرهامبتون    منتخب الضعين شمال يودع بطولة الصداقة للمحليات    الإعيسر: قادة المليشيا المتمردة ومنتسبوها والدول التي دعمتها سينالون أشد العقاب    "قطعة أرض بمدينة دنقلا ومبلغ مالي".. تكريم النابغة إسراء أحمد حيدر الأولى في الشهادة السودانية    د. عبد اللطيف البوني يكتب: لا هذا ولا ذاك    الرئاسة السورية: القصف الإسرائيلي قرب القصر الرئاسي تصعيد خطير    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التَّمْكِينْ .. بقلم: أ. محمد عبد الرحيم محمد
نشر في سودانيل يوم 06 - 08 - 2009

" الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الامور " الحج 41 .
1- مقدمة عامة : التلاعب بألفاظ القرآن الكريم :
التمكين مصطلح استخدمه النظام الحاكم لأسلمة تصرفاته ؛ وكما استخدم الجهاد وغير ذلك من قبل ( لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ) ، لقد بحث منظروا النظام عن مصطلح يؤسلم احتكار المال العام واستغلاله والإثراء الحرام غير المشروع منهم في دائرة محصورة على قيادات المؤتمر الوطني وبعض رجال الأعمال الذين ظهروا فجأة كنبت شيطاني ودون مقدمات بعد أن قام النظام بمنحهم قسطا من المال العام ليكملوا دائرته فيتداول بينهم فقط .
بحث منظروا النظام عن مصطلح يعطيهم الشرعية لأكل أموال الناس بالباطل ، فإذا بهم – وفي ظل استخفافهم الدائم بالدين والشعب – إذا بهم يتلبسون باطلهم بألفاظ القرآن . ليلبسوا على بسطاء الناس من العوام . مستخدمين مصطلح التمكين ، وهم – والعياذ بالله – يستندون في ظلمهم لآية الله " الذين ان مكناهم في الارض اقاموا الصلاة واتوا الزكاة " .
2- ما هو التمكين : وما هي مشروعيته :
(أ‌) ماهو التمكين :
كان للترابي قصب السبق في أسلمة كل تصرفات الدولة حقاً وباطلاً ، وكان التمكين نحت خَلَفِه ، فلقد كانت خطة النظام كالآتي :
1- جمع والاستئثار بكل أموال الدولة في أيدي قلة مضمونة ذات مصير مشترك .
2- يترتب على هذا الاستئثار القدرة على بسط الرزق لمن يشاءون ومنعه عمن يشاءون .
3- عندما يشعر الشعب بأنه لا يملك أي شيء في يده ؛ سيضطر اضطراراً لمجاراة النظام أملا في الحصول ولو على الفتات .
4- يستطيع النظام ( عبر التمكين ) ، أن يربط مصالح كل سوداني به وكل القوى السياسية .
5- سيضمن النظام قدرته على تحريك كل " الأرجوزات " التي يمسك هو بالخيوط التي يتلاعب بها كيفما يشاء ..
6- لن يحتاج النظام لاستخدام العنف ؛ فمن يجد منه النظام تمرداً سيعاقبه بإمساك الرزق عنه .
7- يستطيع البشير الترشح لأي انتخابات لأنه يعلم تماماً أنه يمسك بزمام كل ذي مصلحة مرتبطة بالمال العام .
8- استطاع النظام تقسيم الأحزاب والحركات المسلحة ؛ عبر رميه أمامها بعظمة التفاوض ، وهو يعني منح مزايا مالية للبعض وهو متأكد من أن النتيجة الحتمية هي الانقسام ( جراء الصراع حول من يتلقف هذه الأموال أولا ) .
بهذه النقاط المختصرة جداً ؛ نستطيع أن نكتشف ؛ كيف أن النظام استطاع الإمساك بزمام السلطة مدة عشرين عاماً . وإحداث الإنقسامات داخل كل القوى السياسية .
ولا ننسى عندما حدث انقسام داخل أحد الأحزاب المرموقة ؛ وحينما سأل الزعيم المنشق عن أموال البترول ؛ أجابه أحد المسئولين :
" القروش دي بنشتري بيها الزيك " .
أي نشتري بها ذمم أمثالك ؛ .... والباقي معروف للكافة .
(ب‌)التمكين ومخالفته لمبادئ الإسلام الحنيف :
لا يحتاج التمكين – باالمفهوم الذي مارسه النظام – إلى كثير اجتهاد أو فتوى ؛ فهو حرام شرعاً ؛ بل ومخالف لقواعد أساسية يقوم عليها ولاة الأمور وجوباً عليهم :
أولا : مفهوم التمكين :
إن مفهوم التمكين الوارد في القرآن الكريم متعلق بتمكين المسلمين من فتح دولة أخرى معادية في الحرب . أي بين دار الإسلام ودار الكفر . وهو ليس مبنياً على أكل أموال الناس بالباطل ( عبر الصفقات والعطاءات والمنظمات ، واتحادات الشباب ... الخ ) ، وليس مبنيا على قصر أموال العامة على مجموعة دون غيرها من الناس . ولم يأمر الإسلام بهذا . فليس الله بظلام للعبيد . ولم نسمع ولن نسمع ؛ أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد مكَّن له الله في الأرض عبر احتكار المال العام . ولم نسمع بأن إحدى زوجاته عليه الصلاة والسلام أقامت منظمات ، ولا بأن أحد ولاته لديه شركات باسم ابنه ؛ ولم نسمع بأنه قد أكل أموال الناس ومنحها لخاصة من خصوص صحابته رضوان الله عليهم . وحاشى لنبي أن يكون من الظالمين أو يسعى في الأرض فساداً .
ثانيا : لقد حرم الله سبحانه وتعالى أن يتم تحكير المال لفئة قليلة من الناس ؛ لأن هذا يعني أكل أموال الناس بالباطل ، وتسخير الضعفاء بالإكراه والاستضعاف والاستباحة ، وجعل الأمر والنهي في يد المحتكرين .
وباختصار شديد حرم الله ذلك تحريما شديداً ، وأسماء " تدويل " المال عاماً كان أم خاصاً . أي جعله " دولة بين الأغنياء " فقط . فعلة الزكاة واردة في القرآن وهي في قوله تعالى " حتى لا تكون دولة بين الأغنياء منكم " . وهذه العلة هي علة إيجاب الزكاة ؛ فهي بالتالي علة تحريم لكل ما يؤدي إلى وجودها ، فإن توافرت العلة فيما هو مسكوت عنه ، أنصرف خلاف الحكم المنطوق به إليه شرعاً .
" ما افاء الله على رسوله من اهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما اتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله ان الله شديد العقاب " الحشر 7 .
وما يحدث الآن هو أن النظام ؛ احتكر كل شيء . فلا وظيفة إلا لمن له الولاء ، بل اشتكى الكثير من رجال الأعمال من أنه لا يمكن لهم إكمال مشروع إلا إذا شاركه فيه شخص نافذ أي " كوز " بالدارجي .
ولم يعد أي مسئول يكترث لمشاعر الشعب ؛ فقد رأينا من قبل كيف أن مسئولاً ما قام بإقالة مسئول أصغر منه من منصبه ؛ بسبب أن كل منهما كان لديه نسبة في عطاء " مناقصة " ، وكل منهما لديه شركة يتعامل معها ، ولما تعارضت المصالح ، استخدم الأكبر سلطته في إقالة الأصغر ؛ إلا أن هذا الأخير ما أن وصل إلى مطار الخرطوم قادما من ماليزيا ( وماليزيا لها حكاية أخرى ) ، ما أن وصل إلى مطار الخرطوم حتى أقام مؤتمراً صحفياً وهدد بأنه سيعلن ما لديه من أدلة ووثائق . وهنا ..... كان يجب لملمة المشكلة ، ثم أعلن على الناس بأن ما حدث كان مجرد تنازع في الاختصاص .
وهذا طبعاً كلام فارغ ؛ لأن تنازع الاختصاصات بين أجهزة الدولة ؛ لا يتم الفصل فيه بالتهديدات ، بل عبر إجراءات قانونية إدارية وقضائية معروفة . ولا تحتاج إلى كل هذه التهديدات .
على أي حال ؛ قام النظام أيضا بتدويل المال العام عن طريق بعض الموالين له فظهر رجال أعمال من حيث لا نحتسب . لكن دائماً وعندما يتشاجر السُّراق يظهر المسروق . فلما علم أحد المسئولين " الكبار جداً " بتصريحات ما لأحد رجال الأعمال منهم ؛ قام هذا المسئول وأعلن ( كتهديد مبطن وبأسلوب بارد ) : بأن رجل الأعمال هذا ليس غنياً ولكنه سخي .
وكان يقصد طبعاً تخويف رجل الأعمال ؛ عبر هذه الكلمات ؛ أي أننا منحناك هذا المال ونحن أيضا نستطيع انتزاعه منك .. فاحترس وتأدب " وما تلعب بذيلك " .
هذا طبعا غيض من فيض ... ولا يحتاج الأمر إلى أمثلة كثيرة فالوضع مأساوي جداً . بل وأضحى فيه تبجح وعدم احترام حتى لمشاعر الشعب السوداني الذي فقد نخوة المطالبة بحقوقه المسلوبة . وصار إمعة كلاً على نفسه ، لا يقدر على شيء ولا يملك من أمره شيئاً .
3- آثار التمكين على الأوضاع الاقتصادية والسياسية والقيم الأخلاقية والعقل الإبداعي :
(أ‌) أثر التمكين على الأوضاع الاقتصادية :
لم يعد بالإمكان الانتقال من شريحة إلى أخرى داخل الطبقة الواحدة ، ناهيك عن الانتقال من طبقة لأخرى . واستشرت عملية التمكين ( الحرام شرعاً ) في كل وزارة ، وكل وكالة ، وكل مؤسسة ، وكل هيئة عامة وكل شركة من شركات القطاع العام .
كل مسئول لديه منظمة هو أو أحد أسرته ، أو لديه شركة باسمه أو اسم أحد أبنائه ، أو مساهم بأسهم ضخمة في إحدى شركات الأموال .
منع التمكين عملية الاستثمار الداخلي ؛ فقد أحجم الناس عن القيام بالمشاريع الكبيرة ؛ لأن التمويل أو حتى التسهيلات الإئتمانية أو الجمركية أو غيرها لا تتم إلا إذا كان هناك أحد المسئولين الداخلين بشراكة " غير رسمية ( عمولات من تحت لي تحت ) .
يصرف المؤتمر الوطني ببذخ فاحش على اتحادات الطلاب والشباب التي يسيطر عليها صغار الموالين الذين لا يملكون من التأهيل سوى قدرتهم الفائقة على التطبيل والتكبير والتهليل ؛ فإذا بهؤلاء ؛ وقد أدمنوا مرض الإثراء الحرام الفاحش ؛ وقد بنو القصور وركبوا أفخم السيارات ، وامتهنوا حرفة تسهيل استثمارات الآخرين " فجزاهم الله خيراً " .
أصبح أي مسئول يستخدم القانون بطريقة تحقق مصالحه ؛ فإذا كان شريكا في صفقة سكَّر sugar ، وأعاقته القوانين عن تمرير صفقته ، فما عليه سوى الذهاب إلى مجلس الوزراء ويدعي بأن هناك أزمة سكر في البلاد مطالباً بتخفيف القوانين التي تعرقل عملية استيراده ؛ رغم أنها هي القوانين ذاتها التي طالب بها نفس المسئول بالأمس القريب .
بعد تدمير المؤسسة العسكرية القومية ( منعاً للإنقلابات ) أخذ المؤتمر الوطني يصرف ببذخ على مليشياته العسكرية الخاصة ، وعلى ميليشياته الأخرى التي شكلها بمسمى " القوات الخاصة " ؛ المختارة بعناية من قبائل معينة ، ويدربها تدريبا عالياً ، ولا يجوز الدخول فيها أو الانضمام لها إلا بعد تزكيات كبيرة من شخصيات نافذة . في الوقت الذي يمنع فيه مرتبات المعلمين . ويمتنع عن إقامة الخدمات الرئيسية للمواطنين . متعللاً بشح الإمكانيات ونقص عوائد النفط بسبب الأزمة الاقتصادية العالمية .
وما من مشروع خدمي يطالب به المواطنون إلا وتمنّع الولاة عن إقامته بحجة نقص الإمكانات المادية ؛ كما حدث من أحدهم ؛ والذي قبل مغادرته لمنصبه ( وبعد أن شبع ) ، قام بتحرير شيك بخمسين مليون لأحد فرق كرة القدم ( الغنية جداً ) ليبني لهم حوض سباحة . وهو نفسه الذي امتنع وظل يمتنع عن القيام بحاجات المواطنين الأساسية بحجة العجز المادي .
يعني كل ما سبق أن المال كله يدور في فلك النظام الحاكم ؛ ويعني أن الاقتصاد القومي كله يصب ناتجه في جيوب أشخاص قليلين . وأن باقي الكادحين يطوفون حول هذه القلة لجمع الفتات مما يتفضل النظام برميه إليهم بعد تمحيص ما في الصدور .
وهذا يعني أيضا؛ أن الطبقة الوسطى إن عاجلا أو آجلا ستنهار تماماً ؛ وهذا يعني ببساطة شديدة التأثير على كافة حاجات المواطن الأساسية ( الطعام والشراب والكساء والجنس والتعليم ) .
(ب‌)أثر التمكين على الجانب السياسي :
كتبت هذا الموضوع بدون روح ؛ لأنه مأساوي جداً ، وكئيب جداً ، خاصة عند النظر إلى الجانب السياسي ؛ الحركات المسلحة ليست مخطئة في شيء ؛ لأنها ودون باقي القوى السياسية التقليدية ، استخدمت الأسلوب الذي يفهمه النظام الحاكم . لكن الحركات المسلحة للأسف ( سواء في الشرق أو الغرب ) ، لم تكن تحت قيادات تفهم هذه الخاصية لتقاتل من أجل قضية حقيقية بتجرد ، بل آثرت مصالحها الشخصية . واستطاعت الحكومة تفتيتها برمي العظمة وهي تشاهد تقاتل الكلاب حولها دون أن يعلموا بأنها خاوية من اللحم .
ولم يكن حال الأحزاب السياسية بأحسن منها ؛ لأن هذه الأحزاب لم تفهم أن هذا النظام لا يحترم إلا القوة . وأن كل من سلم أوراقه وبايع لم يقابل إلا بالتهميش وبمزيد من الاستخفاف . لقد احترق السيد الصادق المهدي بعد أن سقط تحت إبط النظام ، واستفاد النظام من حب السيد الصادق للخطابة ؛ سواء في مبادرة أهل السودان أو غيرها ؛ فمنحه " المكرفون " ، وبعد ذلك لفظه النظام .. ولم يعد أمام السيد الصادق إلا اللجوء إلى خليل إبراهيم .
أما خليل إبراهيم نفسه ؛ فقد تلاعب به النظام ؛ حين قام بإعدام الكثيرين ممن غزوا أمدرمان ، وترك قلة من أقارب إبراهيم خليل ، ولم ينفذ فيهم الأحكام . وأصبح خليل إبراهيم أمام خيارين أحلاهما مر : " التسليم مقابل الإفراج " ، أو " الإعدام مقابل الاعتداد بالذات " . فاختار خليل التسليم ، وبالتالي " وكما هو متوقع " حدث الانشقاق . ولم يسلم الحزب الاتحادي نفسه ، فقبل يومين بدأ مولانا الميرغني رحلة التسليم والمبايعة .
ما أن سلم " أركو مناوي " الراية ؛ حتى تم تهميشه تماماً ، ليس هذا فحسب بل أن النظام " وبكل وقاحة " أرسل لمناوي طالباً منه التنازل عن منصبه لشخصية " أقل جهلاً " منه . فاكتأب أركو مناوي وعاد إلى الصحراء مرة أخرى بعد أن قال لهم بأنه قد حصل على منصبه بالسلاح ؛ ولن يعطيه لأحد إلا بالسلاح .
العديد من قياديي الأحزاب الأخرى سلموا الراية ؛ الشعب السوداني نفسه سلم لم يعد أمامه سوى التسليم ، فلن يجازف موظف بوظيفته أو بعائلته أو بأسرته بالوقوف ضد " التمكين " . ولن يجازف معلم بسيط ( من أمثالي ) بالوقوف ضد التمكين ؛ ولن يجازف قاض بالوقوف ضد التمكين ، ولن يجازف أستاذ جامعي بالوقوف ضد التمكين ؛ لأن كل هؤلاء استطاعوا أن يحصلوا على فرصة في وقت عزت فيه الفرص في ظل التمكين ، فمن ذلك الأحمق الذي سيقف مجازفاً بفرصته الوحيدة للبقاء على قيد الحياة .
ليس هناك انتخابات قادمة ؛ الجميع يعلم بأنها أوهام ، فالتمكين لم يعط أي فرصة للوقوف ضد النظام ؛ الكل يدور في فلك النظام . الجيش تم تفكيكه تماما ، وتم بناء ميليشيات بديلة ، مع الإبقاء على المؤسسة العسكرية مجرد إسم فقط ، المؤسسات التعليمية انهارت هي الأخرى بانهيار التعليم . القوانين انهارت بانهيار المؤسسات . أصبح السودان ملكا لأقلية . تبني القصور وتمتلك " لنشات " ( مراكب نهرية وبحرية فاخرة ) ؛ واشتراكات باهظة في النوادي الراقية كنادي الفروسية والتنس وما شابه ذلك ) . وتنبي هذه الأقلية مراكز التسوق malls الضخمة ..... الخ . واصبحت التجارة بين صغار التجار مجرد بيع للوهم . واعتمدت الطبقة الوسطى على أعمال هامشية أطلقت عليها اسم " النقاطات " .
(ج) أثر التمكين على القيم الأخلاقية :
الكارثة الحقيقية هي ما حدث للقيم الأخلاقية في السودان ؛ بالتأكيد أدى التمكين كما أسلفنا إلى احتكار قلة قليلة للمال العام . أدى هذا إلى شح الفرص ، وترتب على شح الفرص ؛ أن حصول شخص على أية فرصة ولو تافهة يعني كسباً كبيراً له ، وبالتالي فقد انتهى عصر الإنسان السوداني الخدوم للآخرين ؛ لم يعد أي مواطن قادر على المجازفة بفرصته عبر إتاحة فرصة أخرى لغيره . وترتب على ذلك الخوف من المنافسة على الفرص الشحيحة ، ونتج عن ذلك ظهور التكتلات الصغير في كل وزارة أو هيئة أو مؤسسة عامة أو خاصة ، وأصبح الحصول على الوظائف شبه مستحيل ؛ وانهارت قيم التعاون الإيجابي في المجتمع ( لا سيما العاصمي ) وأصبحت العلاقات مبنية على المصالح فقط ، وانهارت قيم الشجاعة في المطالبة بالحقوق ؛ وأصبح الإنسان السوداني في حالة خوف دائم ، فاتبع طريق الذلة والمسكنة " أو المشي جنب الحيطة ) للحفاظ على الفتات الذي يقيم صلبه .
انتشرت الدعارة ، وازداد عدد اللقطاء من المولودين سفاحاً ، وانتشرت ظاهرة التسول .
ازدادت الأمراض النفسية بمعدلات رهيبة ( من المرافيد ، والعاطلين عن العمل والمحالين للصالح العام والشباب الذي لا أمل له ولا مستقبل .... وهلم جرا ) ، وازدادت حالات الجنون والانتحار ، فمنعت الأجهزة المختصة الحصول على الاحصائيات الخاصة بذلك ، وازدادت عمليات القتل والذبح بالسكين ، والسرقات المقترنة بالقتل أو بالقوة الجنائية ، وازداد مرض الإيدز .
انتشرت ظاهرة التحاسد بين الناس ، وظاهرة الصمت خوفاً ، وهي ظاهرة لم تنتشر بهذه القوة حتى في أعتى الدكتاتوريات العنيفة ، لأن رقاب الناس أصبحت مقيدة بقوت يومهم ومعاشهم وزواجهم وتعليمهم ، مع قلة الفرص وشحها .
ازدهرت ظاهرة أخذ الموظفين للعمولات في المناقصات والعطاءات الحكومية ، وتحول اسم هذه الظاهرة من الرشوة أوالتربح من المال العام إلى مسمى ذو مدولو أخلاقي وهو " أخذ الحق " . فمادام المسئولون الكبار يحتكرون الكثير ، فإن من الإنصاف أن يأخذ الموظف الغلبان حقه القليل عبر هذه العمولات .
عدم الاكتراث ؛ هو الظاهرة التي مست الإنسان السوداني الذي كان قبل ذلك " هميما " وصاحب " نخوة " . لم يعد هذا موجوداً ؛ أصبح المواطن السوداني – وفي ظل " داري على شمعتك تقيد " ؛ لا يكترث لأي شيء آخر ما دامت مصالحه تسير . وأصبحت العقلية برجماتية إلى أبعد الحدود .
وبالتالي أصبح الإنسان المظلوم وحيدا في مجتمع فردي جدا ، وانهارت تماماً قيم الكرم والعطاء لا سيما في العاصمة . وانغلقت الأبواب و " النفاجات " وسقطت قيمة الشجاعة في ظل التمكين .
(د) أثر التمكين على العقل الإبداعي :
في ظل الخوف على الفرصة ؛ لم يعد من دافع لإعمال العقل إلا فليما يحافظ للشخص على فرصته سواء في الوظيفة العامة أو الخاصة ، الخوف من ضياع الفرصة في ظل جدب وفقر الفرص ؛ أدى إلى تزايد هاجس ضياعها عبر المنافسة . وعمَّق النظام هذا الشعور بالخوف عن طريق الإتيان بأشخاص نكرات إلى وظائف هامة تحتاج إلى خبرات ومؤهلات عالية ، وبالتالي أصبح من يتقلد هذه الوظائف هم أقل الأشخاص تأهيلاً ، في حين تم إحالة المؤهلين إلى الصالح العام ليقوم هؤلاء بدورهم بالبحث عن فرصتهم الوحيدة في الخارج ، ترتب على هذا ، انهيار مؤسسات الدولة ؛ لأن شاغليها وزارياً أو في الدرجات الأدنى ، هم أصحاب مأكلة ومطامع ، وغير قادرين في نفس الوقت على الإبداع الوظيفي أو حتى المجازفة بإجراء الترميمات والإصلاحات أو التطوير أو إعادة البناء من جديد . انهيار المؤسسات أدى إلى تقوية التمكين عبر الفساد الوظيفي . وتعميق رابط المصلحة الفردية مع النظام الحاكم داخل هذه المؤسسات .
أدى هذا إلى إحباط المؤهلين . وانزوى أساتذة الجامعات على مقاعدهم وهي ذاتها فرصتهم الوحيدة للبقاء على وجه الأرض .
ترتب على هذا باللزوم ، انهيار المؤسسات التعليمية الجامعية . فلا يوجد من سبب واحد لأي أستاذ جامعي للتفكير في وضع مؤلفات قوية تخدم قضية وطن . وتحولت القلة القليلة على ضعف مستواها هي ذاتها ؛ إلى التأليف التجاري على قلته ، وذلك لتحقيق أرباح سريعة تستحلب من جيب طالب جامعي فقير كان كل أمله وأمل أهله في القرى والفرقان هو العودة بمؤهل جامعي يعينه على تخطي صعاب الحياة بعلم حقيقي . فلم يؤدي التمكين إلا إلى تخريج مزيد من الجهلاء في الأرض . إلا أن النظام الحاكم تخير بعض الشباب من أبناء المسئولين الكبار ، وبعث بهم إلى الخارج بعد تمحيص طويل ليتعلموا لا سيما في مجالات النفط المختلفة ليدعموا بعد ذلك التمكين نفسه .
*** أخيراً ***
قبل أن يوجب الله سبحانه وتعالى إقامة الصلاة والزكاة ، وبل وقبل حتى أن ينزل آدم إلى الأرض ؛ رفع السماء ووضع الميزان " أي العدل " وحرم الطغيان في الميزان ، وأوجب إقامة الوزن بالقسط وعدم إخسار الميزان ... إنه العدل .. وإن التمكين لظلم عظيم فاتقوا الله يا أولي الألباب .
"
" وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ " الرحمن 7،8،9
والله من وراء القصد .
أ. محمد عبد الرحيم محمد
Abdrheem Salih [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.