بعثة الرابطة تودع ابوحمد في طريقها الى السليم    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    البرهان يزور تركيا بدعوة من أردوغان    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    سيدة الأعمال رانيا الخضر تجبر بخاطر المعلم الذي تعرض للإهانة من طالبه وتقدم له "عُمرة" هدية شاملة التكاليف (امتناناً لدورك المشهود واعتذارا نيابة عنا جميعا)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



للعتباني مع الاحترام: د. غازي صلاح الدين وأنينه المجروح..!!! .. بقلم: عبد الحميد عوض
نشر في سودانيل يوم 07 - 12 - 2012

اقترح البعض في هيئة تحرير هذه الصحيفة، إجراء حوار مع دكتور غازي صلاح الدين العتباني، بعد المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية -الشهر الماضي- ونتائجه، باعتبار أن لغازي موقفاً ورأياً صريحاً حول مخرجات المؤتمر وتداعياته، مع حتمية طرح السؤال المحوري في حال أفلحت المساعي؛ استفهام لا يخرج بأي حال من الأحوال عن إطار: (ثم ماذا بعد؟).
كان ردي على ذلك الاقتراح أن العتباني لن يستجيب لأي دعوة حوار؛ لأنه يفضل في الغالب الأعم الاتكاءة على يراعه للتعبير عن مواقفه المفصلية، حتى لا تتعرض تلك المواقف إلى تحريف أو أخطاء في النقل، وهي مظنة سوء متأصلة في شخصيته العامة، وتظهر هذه المظنة في تعامله مع الصحافيين والسياسيين على حدٍّ سواء، والشاهد وقت أن فكر في تبادل الأفكار والآراء مع شيخه حسن الترابي بعد انقسام الإسلاميين، آثر طريقة الرسائل المكتوبة قبل أن ينكشف أمرها وتسود صفحات صحيفة عربية دولية استطاعت الحصول عليها.
كدت أدخل في رهان مع الزملاء حول ما يمكن أن يتمخض عنه مقال غازي ما بعد المؤتمر الأخير للحركة؛ من حجج تستند على الأدلة القرآنية والفقهية والقيم الأخلاقية واستنباط الحكم والمواعظ، ولو من بطون الرواية العالمية، وهكذا علمتنا مقالاته السابقات. وغازي صلاح الدين كواحد من صفوة الجيل السياسي في السبعينيات، لا تنقصه –باعتقادي- أدوات الكتابة الرصينة المحكمة والجاذبة، مهما كانت درجة خلاف المتلقي أو اتفاقه مع ما يكتب.
وإن صدق توقعي في مواطن، فقد آب بالخيبة في غيرها، فقد أصدر دكتور غازي صلاح الدين مقالا -سماه البعض بيانا- ونشرته غالبية الصحف السودانية، وبثته بتوسع الأسافير ومواقع التواصل الاجتماعي؛ صدق توقعي في شق الاستنادات والإحالات، وغاب عن مرصدي أن المقال بمقاربته بالمقالات السابقة لغازي صلاح الدين؛ يجوز أن نقول إنه خرج بغير إحكام وجاذبية، طالما وسما صنعته للكلمات.
(2)
بداية من المقدمة أو "الرمية" التي ورد فيها: (الدرس الأول الذي تعلمناه في الحركة الإسلامية كان في التوحيد، أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا ضار ولا نافع، ولا معطي ولا مانع، ولا واهب ولا ممسك إلا هو. لا رب يرزق ولا إله يُعبد وتخضع له المخلوقات إلا هو سبحانه) انتهى.
قرأت هذا التصدير لأول مرة، ثم أرجعت فيه البصر (كرتين وكرات)، فتقاصر عقلي عن فهمه، وإدراك مقصده ومبتغاه، حتى قنعت أخيرا بظاهره، وتمنيت أن يكون الله قد حجب عني باطنه، حتى لا أرمي غازي بما ليس فيه، قبل أن ينتمي إلى الحركة الإسلامية، ذلك لأن الرجل ابن الأسرة الدينية العريقة، يبلغ الناس في مقاله أنه وغيره من كوادر الحركة الإسلامية درسوا التوحيد؛ وهو الدرس الأول في الحركة، وحسب تقديري، أن معرفة الخالق الواحد الأحد الذي لا شريك له، هي فطرة عامة السودانيين المنتمين للحركة وغير المنتمين لها، يولد عليها غالبهم موقنين بحقها ومستحقها. حدث ذلك قبل أن تخرج الحركة الإسلامية من رحم العدم، وابني الذي لم يشب عن الطوق بعد، يأتيني من رياض الأطفال نهاية كل أسبوع ليعيد عليّ ما تحصل في سني دراسته الأولية، ويبادر دوماً بتشنيف آذاني بأول حديث نبوي حفظه: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وعبارة (لا إله إلا الله) الواردة في الحديث الشريف يفسرها أهل السودان الذين قرأوا جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني بأنها: لا معبود بحق إلا الله. ولا يمكن أن تكون درساً أولاً في حركة إسلامية؛ الموالون لها هم من عترة أولئك النفر، مسلمون وأبناء مسلمين.
(3)
يمضي غازي في مقاله ويقول: (وقد استفدنا من ذلك الدرس ألا نعبد الأغيار الزائلين، وألا نهاب الرجال، وأن نقول آراءنا بضمير حر وبأعين لا تطرف) انتهى.
هذه الفقرة بما فيها من عهد وثبات، بعدم مهابة الرجال، يمكن أن تفهم في سياق مقاصد ومرامي المقال والمقام، مقام تحرير الخلاف في مؤتمر الحركة الإسلامية، كما إنها تتناسب وطبيعة موقف الكاتب من المؤتمر، لأنه تموضع بالفعل في مواجهة خلافية مع نظراء له ومن حقه تذكير العامة والخاصة بأنه يصدح برأيه بضمير حي وبأعين لا تطرف، بخٍ بخٍ نِعمَ العهد هو.
لكن الخلاف الآنف -حسب اعتقادي- لا يصل حد إسقاط قصة ربعي بن عامر حين أرسله المسلمون إلى قائد قوات الفرس، وهي قصة طويلة انتخب منها غازي صلاح الدين عبارات طرب لها هو، وجاءت على لسان ربعي: (لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). ذلك لأن أوجه الاستشهاد والمقارنة بين ربعي وغازي منعدمة تماما، كما هو حال عدمها بين قائد الفرس وإخوان غازي المختلف معهم -هذا بالطبع إن لم نشتطّ ونقل صفرية- فذلك شقاق بين إيمان وكفر، وهذا خلاف -في حقيقته المطلقة- علي جزئيات تنظيمية داخل حركة إسلامية بحتة. وحتى انتخاب غازي لهذه العبارة من ثنايا حوار طويل بين ربعي والقائد الفارسي؛ جانبه التوفيق، وقد وجدت جملا عند ربعي مثل (أنا رجل من الجيش، ولكنّ أدنانا يجير على أعلانا) أكثر حكمة وكان يمكن أن ينشدها غازي وهو في سكرة أنينه المجروح.
(4)
ويمضي غازي في مقدمته تلك ويباهي أهل الملل بالآية القرانية: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" ثم يتحداهم بها ويطلب منهم إبراز نص مثيل يكرّم الإنسان ويعلي شأنه ويحفظ حرماته كذياك النص القرآني.
ومع الرجل ننتظم في ذات السلك ونتباهى بهذه الآية الكريمة، وحقيق لكل المسلمين ذلك، بيد أنه ما كان مطلوبا المباهاة بهذه الآية وحسب، بل من أوجب واجبات الحركة الإسلامية في رقيها السلطوي - الإيمان بروح الآية وشروطها، والإيمان كما هو معلوم أعلى درجات التسليم، ومستوجب للعمل، فهل أعملت الحركة وطوال عقودها الستة روح هذه الآية، وكرمت ابن آدم السوداني وهي على طاولة الاختبار؟ أترك الإجابة لفطنة القارئ.
ولكن قبل أن يشرع قارئنا الأغر في الإجابة، نستميحه تأجيلها لتكون متكاملة بعد اطلاعه على ما يسطره العتباني في الفقرة التالية، التي يقول فيها: (كنا نشدد على حرية ضمير الفرد كما ضمنها رب العباد الذي ترك لبني آدم أن يختاروا بين الكفر والإيمان "مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" وجعل حسابهم على الله يوم يلقونه. ما كنا نرى أجمع ولا أمنع من هذه الآية في تأسيس مبدأ الحرية على قاعدة متينة) انتهى.
كلمة (كنا) في بداية الفقرة ربما ساعدتك عزيزي القارئ في الإجابة حال أبان العتباني الزمان الذي كانوا يشددون فيه على مبادئ حرية ضمير الفرد وحرية الإيمان بالله أو الكفر.
(5)
تجدني مستغرباً تكرار غازي صلاح لعبارات "التحدي، التباهي، الخصوم... الخ"، وهو تكرار لا أجد له تفسيرا خلا أنه نابع من أزمة الحركة نفسها، الأزمة التي تضع معها كل من يخالفها الرأي موضع الخصم، بالتالي مباهاته وتحديه ومبارزته، دون استخدام مصطلحات الدعوة بالتي هي أحسن أو التحاور مع أصحاب الملل.
(وقد باهينا خصومنا بأقوى نصّ في إثبات العدل منهجاً للحكم: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" أي العدل للناس جميعا، لا للمسلمين وحدهم، فضلاً عن أن يكون عدلا تختص به جماعة أو قبيلة أو بطانة خاصة) انتهى.
هنا يبدأ غازي في إرسال رسائله لخصومه الجدد، وليس لخصومه التقليديين أو القدامى، كون غازي وفي غمرة انفتاحه في سنواته الأخيرة أدرك مناقب كثير من القدامى حتى ولو ب (التلصص) على صحفهم الحائطية، والإشارة هنا لقصة حكاها العتباني بنفسه في إحدى مقالاته: (لقد آمنّا أن أقوى ما في الإسلام هي طاقاته التحريرية؛ دين يحرر الفرد من هواه وشهواته، وعبوديته للمادة ولمتاع الأرض، وغريزة العدوان. ودين يحرر الجماعات والأمم من الذل والظلم والحيف والفساد)... نتفق معه في هذه لكننا لا نتفق معه حين يكمل: (أشد ما جذب الناس إلى دعوة الحركة الإسلامية هو تبنيها لتلك المفاهيم في سياق معاصر، فالناس يرغبون في أن يتدينوا وأن يعيشوا عصرهم دون تناقض) انتهى.
لو كان غازي يقصد الحركة الإسلامية في الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات لسلمنا له بذلك، وأنخنا رحالنا، فوقتئذٍ كانت للحركة مفاهيمها النظرية في مجال الحريات العامة وتطهير المجتمع وحقوق المرأة وغيرها من القضايا، وقبل ذلك كان فيها نَفَس من طهر المقصد وعناءات وجهاد للنفس، لكن نسأل لمجرد السؤال عن حركة الألفية الجديدة، أي مفاهيم تحمل في ما يخص إدارة التنوع والاقتصاد والحريات العامة والعدالة والشفافية ووحدة النسيج المجتمعي؟ وعلى أي مضامين تندغم في شأن قضايا الصحافة والأمن والعلاقات الخارجية... الخ؟ دلنا دكتور غازي أثابك الله عن منتوج فكري واحد ويتيم للحركة بعد ذهاب الترابي قبل أكثر من عشرة أعوام، دلنا عن برهان عملي ناجح في إدارة أي من هذه القضايا توافق عليه أهل القبلة وارتضوه؟
كنت أعتقد –هو اعتقاد أقرب إلى اليقين- أن لدكتور غازي خطا فاصلا بين سنوات الإيمان بالقيم التي ولت الأدبار -لا نقول من غير رجعة- وما بين اختبار التطبيق الذي بدأ في يونيو 1989م. ولو أن ما يقول به العتباني من إيمانيات محفوظ ومصون والحركة تتجاوز اليوم من سنيها الستين، لما بحث التائهون و(السائحون) عن إصلاح يعتقدون العتباني عطاراً له، ذا قدرة على إصلاح ما أفسدته دهور التغييب والتذويب والانعطاف، لكن غازي يصر، ويتأبى؛ بأن (صفوة المفاهيم والمثل التي حركت الشباب والشيوخ إلى أن يضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل دعوتهم إلى الله من خلال مسيرة الحركة الإسلامية في الأعوام الستين الماضية) انتهى، لا وألف لا، فكثير ممن انتمى للحركة في السنوات الأخيرة التي تعادل ثلث عمرها لم تحركهم صفوة المفاهيم، بل حركتهم ملذات السلطة والمال، أليس كذلك؟
(6)
ولج العتباني أخيرا في مقال تحرير الخلاف، إلى أصلاب خلافاته التي لها أريق الحبر على الورق، وفي المقال أعاد منتوج كتاب مآخذه على المؤتمر العام الثامن للحركة الإسلامية وهو مؤتمر كان يأمل فيه الرفعة العلية لمنزلة أمين عام الحركة الإسلامية، تلك المآخذ نشرها من قبل في الصحف وصرح بها أمام المؤتمرين، وللتذكير فقط فإن دكتور غازي يرفض انتخاب الأمين العام من مجلس الشورى ويرد ذلك الرفض لضرورة –قل وجوب- أن يستمد الأمين العام شرعيته من أعلى سلطة وهي سلطة المؤتمر العام بما يضمن تحقيق استقلالية للمنصب، كذلك يحتج العتباني على وجود جسم قيادي فوقي يعرقل صلاحيات الأمين العام، وأيضا وبحسب اعتقاده فإن هذا الجسم يقدح في استقلالية الحركة من الحكومة والمؤتمر الوطني، ومن المؤكد أن الرجل مصيب في كل ما ذهب إليه وإن اختلفت التقديرات.
بيد أن الجديد في مأخذ غازي صلاح الدين على إنشاء الهيئة القيادية –وحشره في المقال الأخير- أنه ألبس رفضه لبوس الدستور والقانون والأخلاق، فاستند على الدستور القومي وقانون التنظيمات والأحزاب السياسية، حيث يقول: (إن فكرة القيادة العليا تثير أسئلة قانونية وأخلاقية شائكة، خاصة وأنه قد أعلن رسمياً الآن أن رئيس الجمهورية قد أصبح رئيساً للقيادة العليا للحركة الإسلامية. المشكلة تكمن في أن الحركة الإسلامية غير مسجلة قانونياً حتى الآن. وقد جرى جدل مطول داخل الحركة حول هذه المسألة في وقت سابق وكان الاتجاه الذي يرى ضرورة تسجيلها قانوناً هو الاتجاه الغالب. الآن، بحسب هذه المادة، فإن رئيس الجمهورية، وهو الحارس الأول للدستور وللقانون ورمز وحدة البلاد الذي انتخبه الشعب السوداني وأعطاه بيعته، سيصبح رئيسا لجماعة غير مسجلة قانوناً. وهذا يعني، نظرياً على الأقل، أن الباب مفتوح لجماعات أخرى كي تنشئ حركات فكرية وثقافية، إسلامية وغير إسلامية، غير مسجلة قانوناً وتدعو السيد رئيس الجمهورية ليكون رئيساً لقيادتها العليا. وسيكون غير مبرر إطلاقاً أن يرفض الرئيس طلبها إلا إذا أردنا أن نضعف واجبه الأخلاقي الذي يجعله حكماً عدلاً وقائداً محايداً لمواطنيه) انتهى.
والله إن المرء ليعجب من أهل الحركة الإسلامية ومن البراغماتية التي ينتهجونها، ومصدر العجب وفغر الفيه ورفع حاجب الدهشة أنهم يلجأون فقط للدستور حينما تحاصرهم الخطوب في شخوصهم أو لتحقيق غايات وتطلعات عجزوا عن الوصول إليها عبر الوسائل التقليدية التي أرست لها الحركة الإسلامية، فالدكتور الترابي الذي علمهم السحر لم تكن في كل أدبياته السياسية في العشرية الأولى مطالب من شاكلة الحريات العامة والعدل ودولة القانون والدستور، لكن ما أن انقلب عليه حواريوه حتى أصبح وكأنه الأب المؤسس لتلك الأدبيات متناسياً ما فعله بالناس بذات الدستور، ذات القانون الذي وضعه بيده.
إذن، فغازي يكرر ذات المشهد الآن بالتباكي على أطلال وحائط الدستور والقانون، والإشارة هنا لتحليل الزميل محمد الخاتم وسؤاله عن هل تراه أدرك –غازي- حقيقة عدم تسجيل الحركة اليوم فقط، ومن سؤال الخاتم تتفرخ أسئلة أخرى عن احترام القانون والدستور في ليلة الثلاثين من يونيو وحل الأحزاب وحل البرلمان العام 1999م، والتضييق على الناس والإحالة للصالح العام وخلافه.
(7)
أرجع قليلا إلى ملف إدارة الانقسام بين القصر والمنشية 1999م، فعلى أي أساس صدرت قرارات الرابع من رمضان، وعلى أي قانون أو لائحة حلت الأمانة العامة للمؤتمر الوطني في 2000م؟ هل كل تلك الأشياء وغيرها يستطيع غازي صلاح الدين العتباني إيجاد تفسيرات لها، دستورية وقانونية وأخلاقية، علما أنه يتحمل جزءا من مسؤوليتها وتوابعها بأكثر من (طاقية) ارتداها وزين بها رأسه، وزيرا ومستشارا وأمينا عاما للحزب الحاكم.
سير غازي في درب الترابي ليس في (الردحي) على الدستور والقانون وحده، بل عله يطالب بما طالب به الترابي قبل عشر سنوات، حينما خير البشير بين البزة العسكرية أو رئاسة الحزب، وهي المطالب التي جرد غازي سلاحه ليقف ضدها ساعتئذ، لكنه اليوم يرسل رسالة للبشير، وإن (تبطنت)؛ بأن عليه الاختيار بين رئاسة الدولة أو رئاسة الحركة الإسلامية، قدوته في ذلك عبد الله غل، ومحمد مرسي. فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال. ثمة استفهام آخر هل المبادئ الاخلاقية في عدم قانونية الحركة الاسلامية تتجزأ عند غازي صلاح الدين بحيث يكون ملزما بها الرئيس البشير وحده؟
(8)
يدنو غازي صلاح الدين العتباني في نهاية مقاله أكثر نحو هدفه بتوزيع اتهامات للأجهزة التنظيمية –دون أن يجرؤ على ذكرها- التي اتهمها علانية بالتدخل والتأثير على نتائج التصويت للقرارات والشخوص، وبأنها مررت توجيهات من قيادتها العليا بالتصويت للدستور جملة دون تعديل، وبالتصويت لأشخاص بعينهم دون آخرين.
وفي تلك المرحلة أرمي مرساتي، وأتوجه إلى مخاطبة غازي مباشرة رغم احترامي لمقامه وأقول: إن نهاية أي عملية انتخابية عامة أو نقابية أو طلابية كانت، ومرت على البلاد في سنواتها الأخيرة خرج الخاسرون فيها وهم يلوكون ذات النغمة، ولو أني رفعت سماعة الهاتف لأطلب الزميل عبد الباقي الظافر منافسك في إحدى الدوائر بالانتخابات الأخيرة لقال ذات العبارة نصا وموضوعاً، ولو أني استرجعت ذاكرة الأيام، وقد اخترت أمينا عاما للمؤتمر الوطني منتصف التسعينيات، لوجدت من يقول إن الزج باسم غازي صلاح الدين للمنصب تم بتوجيهات، كون القواعد كانت ترى في الشفيع أحمد محمد أنه الأحق بالأمانة العامة، هذا غير ما تقول به الأحزاب المعارضة التي آثرت عدم خوض أي انتخابات في عهدكم لذات السبب، وفي انتخابات 2010 شاهد العالم كيف تتم تعبئة وحشو صناديق الاقتراع بالأصوات (المضروبة)، فهل أنت حديث عهد بهذا الأمر؟ أين كنت وأين وقفت؟
تلك المخالفات -وأستعير ما جاء به غازي- توضح مدى ما اعترى الحركة من علل وأزمات بسبب غيابها –أو تغييبها- المتطاول. إنها علل وممارسات نزعت الروح من عبارات ربعي بن عامر الرنانة ومن وعود الإسلام التحريرية وجعلتها محض صدىً يأتي من خارج المكان والزمان.
(9)
الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، ومع كامل الاحترام، هو هكذا دوماً، جزء من صناعة القرار، لكنه يهرب عند شدائد تحمل المسؤولية، ألم يكن في يوم من الأيام عراب اتفاق ميشاكوس الإطاري الأساس الذي قامت عليه اتفاقية السلام الشامل؟ لكن عند ساعة المحك بدأ يتحدث عن تحفظات؛ حتى عندما يأتي يوم الحساب يبرئ نفسه، وهذه الأيام يكرر المشهد، لكن فات الأوان.
(10)
سأل عبد الملك بن مروان رجلا من الخوارج عن رأيه في الحجاج بن يوسف، فأجابه: (هو خطيئتك). وهذه قصة لم أجد لها مكانا مناسباً، لكنها كانت تتقافز لي ما بين السطور.
abdelhamid awadelkarim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.