رغم ظروف الحرب…. بدر للطيران تضم طائرة جديدة لأسطولها    المملكة تستعرض إستراتيجية الأمن الغذائي لدول مجلس التعاون الخليجي    المتّهم الخطير اعترف..السلطات في السودان تكشف خيوط الجريمة الغامضة    أنباء عن اغتيال ناظر في السودان    خسائر ضخمة ل"غانا"..تقرير خطير يكشف المثير    إسرائيل تستهدف القدرات العسكرية لإيران بدقة شديدة    "خطوة برقو" تفجّر الأوضاع في دارفور    الصادق الرزيقي يكتب: الدعم السريع وشهية الحروب التي فُتحت في الإقليم    الترجي يسقط أمام فلامنغو في مونديال الأندية    افتتاح المرحلة النهائية للدوري التأهيلي للممتاز عصر اليوم باستاد الدامر.    فيكم من يحفظ (السر)؟    الحلقة رقم (3) من سلسلة إتصالاتي مع اللواء الركن متمرد مهدي الأمين كبة    في السودان :كيف تتم حماية بلادنا من اختراق المخابرات الإسرائيلية للوسط الصحفي    من الجزيرة إلى كرب التوم..هل دخل الجنجويد مدينة أو قرية واستمرت فيها الحياة طبيعية؟    التقى بروفيسور مبارك محمد علي مجذوب.. كامل ادريس يثمن دور الخبراء الوطنيين في مختلف المجالات واسهاماتهم في القضايا الوطنية    هيمنة العليقي على ملفات الهلال    نشاط مكثف لرئيس الوزراء قبل تشكيل الحكومة المرتقبة    الحرب الايرانية – الاسرائيلية: بعيدا عن التكتيات العسكرية    نقل أسلحة إسرائيلية ومسيرات أوكرانية الى افريقيا بمساعدة دولة عربية    والي الخرطوم يصدر عدداً من الموجهات التنظيمية والادارية لمحاربة السكن العشوائي    أدوية يجب تجنب تناولها مع القهوة    شاهد بالصور والفيديو.. الفنان حسين الصادق ينزع "الطاقية" من رأس زميله "ود راوة" ويرتديها أثناء تقديم الأخير وصلة غنائية في حفل حاشد بالسعودية وساخرون: (إنصاف مدني النسخة الرجالية)    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



للعتباني مع الاحترام: د. غازي صلاح الدين وأنينه المجروح..!!! .. بقلم: عبد الحميد عوض
نشر في سودانيل يوم 07 - 12 - 2012

اقترح البعض في هيئة تحرير هذه الصحيفة، إجراء حوار مع دكتور غازي صلاح الدين العتباني، بعد المؤتمر الثامن للحركة الإسلامية -الشهر الماضي- ونتائجه، باعتبار أن لغازي موقفاً ورأياً صريحاً حول مخرجات المؤتمر وتداعياته، مع حتمية طرح السؤال المحوري في حال أفلحت المساعي؛ استفهام لا يخرج بأي حال من الأحوال عن إطار: (ثم ماذا بعد؟).
كان ردي على ذلك الاقتراح أن العتباني لن يستجيب لأي دعوة حوار؛ لأنه يفضل في الغالب الأعم الاتكاءة على يراعه للتعبير عن مواقفه المفصلية، حتى لا تتعرض تلك المواقف إلى تحريف أو أخطاء في النقل، وهي مظنة سوء متأصلة في شخصيته العامة، وتظهر هذه المظنة في تعامله مع الصحافيين والسياسيين على حدٍّ سواء، والشاهد وقت أن فكر في تبادل الأفكار والآراء مع شيخه حسن الترابي بعد انقسام الإسلاميين، آثر طريقة الرسائل المكتوبة قبل أن ينكشف أمرها وتسود صفحات صحيفة عربية دولية استطاعت الحصول عليها.
كدت أدخل في رهان مع الزملاء حول ما يمكن أن يتمخض عنه مقال غازي ما بعد المؤتمر الأخير للحركة؛ من حجج تستند على الأدلة القرآنية والفقهية والقيم الأخلاقية واستنباط الحكم والمواعظ، ولو من بطون الرواية العالمية، وهكذا علمتنا مقالاته السابقات. وغازي صلاح الدين كواحد من صفوة الجيل السياسي في السبعينيات، لا تنقصه –باعتقادي- أدوات الكتابة الرصينة المحكمة والجاذبة، مهما كانت درجة خلاف المتلقي أو اتفاقه مع ما يكتب.
وإن صدق توقعي في مواطن، فقد آب بالخيبة في غيرها، فقد أصدر دكتور غازي صلاح الدين مقالا -سماه البعض بيانا- ونشرته غالبية الصحف السودانية، وبثته بتوسع الأسافير ومواقع التواصل الاجتماعي؛ صدق توقعي في شق الاستنادات والإحالات، وغاب عن مرصدي أن المقال بمقاربته بالمقالات السابقة لغازي صلاح الدين؛ يجوز أن نقول إنه خرج بغير إحكام وجاذبية، طالما وسما صنعته للكلمات.
(2)
بداية من المقدمة أو "الرمية" التي ورد فيها: (الدرس الأول الذي تعلمناه في الحركة الإسلامية كان في التوحيد، أن الله واحد لا شريك له، وأنه لا ضار ولا نافع، ولا معطي ولا مانع، ولا واهب ولا ممسك إلا هو. لا رب يرزق ولا إله يُعبد وتخضع له المخلوقات إلا هو سبحانه) انتهى.
قرأت هذا التصدير لأول مرة، ثم أرجعت فيه البصر (كرتين وكرات)، فتقاصر عقلي عن فهمه، وإدراك مقصده ومبتغاه، حتى قنعت أخيرا بظاهره، وتمنيت أن يكون الله قد حجب عني باطنه، حتى لا أرمي غازي بما ليس فيه، قبل أن ينتمي إلى الحركة الإسلامية، ذلك لأن الرجل ابن الأسرة الدينية العريقة، يبلغ الناس في مقاله أنه وغيره من كوادر الحركة الإسلامية درسوا التوحيد؛ وهو الدرس الأول في الحركة، وحسب تقديري، أن معرفة الخالق الواحد الأحد الذي لا شريك له، هي فطرة عامة السودانيين المنتمين للحركة وغير المنتمين لها، يولد عليها غالبهم موقنين بحقها ومستحقها. حدث ذلك قبل أن تخرج الحركة الإسلامية من رحم العدم، وابني الذي لم يشب عن الطوق بعد، يأتيني من رياض الأطفال نهاية كل أسبوع ليعيد عليّ ما تحصل في سني دراسته الأولية، ويبادر دوماً بتشنيف آذاني بأول حديث نبوي حفظه: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، وعبارة (لا إله إلا الله) الواردة في الحديث الشريف يفسرها أهل السودان الذين قرأوا جوهرة التوحيد لإبراهيم اللقاني بأنها: لا معبود بحق إلا الله. ولا يمكن أن تكون درساً أولاً في حركة إسلامية؛ الموالون لها هم من عترة أولئك النفر، مسلمون وأبناء مسلمين.
(3)
يمضي غازي في مقاله ويقول: (وقد استفدنا من ذلك الدرس ألا نعبد الأغيار الزائلين، وألا نهاب الرجال، وأن نقول آراءنا بضمير حر وبأعين لا تطرف) انتهى.
هذه الفقرة بما فيها من عهد وثبات، بعدم مهابة الرجال، يمكن أن تفهم في سياق مقاصد ومرامي المقال والمقام، مقام تحرير الخلاف في مؤتمر الحركة الإسلامية، كما إنها تتناسب وطبيعة موقف الكاتب من المؤتمر، لأنه تموضع بالفعل في مواجهة خلافية مع نظراء له ومن حقه تذكير العامة والخاصة بأنه يصدح برأيه بضمير حي وبأعين لا تطرف، بخٍ بخٍ نِعمَ العهد هو.
لكن الخلاف الآنف -حسب اعتقادي- لا يصل حد إسقاط قصة ربعي بن عامر حين أرسله المسلمون إلى قائد قوات الفرس، وهي قصة طويلة انتخب منها غازي صلاح الدين عبارات طرب لها هو، وجاءت على لسان ربعي: (لقد ابتعثنا الله لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). ذلك لأن أوجه الاستشهاد والمقارنة بين ربعي وغازي منعدمة تماما، كما هو حال عدمها بين قائد الفرس وإخوان غازي المختلف معهم -هذا بالطبع إن لم نشتطّ ونقل صفرية- فذلك شقاق بين إيمان وكفر، وهذا خلاف -في حقيقته المطلقة- علي جزئيات تنظيمية داخل حركة إسلامية بحتة. وحتى انتخاب غازي لهذه العبارة من ثنايا حوار طويل بين ربعي والقائد الفارسي؛ جانبه التوفيق، وقد وجدت جملا عند ربعي مثل (أنا رجل من الجيش، ولكنّ أدنانا يجير على أعلانا) أكثر حكمة وكان يمكن أن ينشدها غازي وهو في سكرة أنينه المجروح.
(4)
ويمضي غازي في مقدمته تلك ويباهي أهل الملل بالآية القرانية: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ" ثم يتحداهم بها ويطلب منهم إبراز نص مثيل يكرّم الإنسان ويعلي شأنه ويحفظ حرماته كذياك النص القرآني.
ومع الرجل ننتظم في ذات السلك ونتباهى بهذه الآية الكريمة، وحقيق لكل المسلمين ذلك، بيد أنه ما كان مطلوبا المباهاة بهذه الآية وحسب، بل من أوجب واجبات الحركة الإسلامية في رقيها السلطوي - الإيمان بروح الآية وشروطها، والإيمان كما هو معلوم أعلى درجات التسليم، ومستوجب للعمل، فهل أعملت الحركة وطوال عقودها الستة روح هذه الآية، وكرمت ابن آدم السوداني وهي على طاولة الاختبار؟ أترك الإجابة لفطنة القارئ.
ولكن قبل أن يشرع قارئنا الأغر في الإجابة، نستميحه تأجيلها لتكون متكاملة بعد اطلاعه على ما يسطره العتباني في الفقرة التالية، التي يقول فيها: (كنا نشدد على حرية ضمير الفرد كما ضمنها رب العباد الذي ترك لبني آدم أن يختاروا بين الكفر والإيمان "مَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" وجعل حسابهم على الله يوم يلقونه. ما كنا نرى أجمع ولا أمنع من هذه الآية في تأسيس مبدأ الحرية على قاعدة متينة) انتهى.
كلمة (كنا) في بداية الفقرة ربما ساعدتك عزيزي القارئ في الإجابة حال أبان العتباني الزمان الذي كانوا يشددون فيه على مبادئ حرية ضمير الفرد وحرية الإيمان بالله أو الكفر.
(5)
تجدني مستغرباً تكرار غازي صلاح لعبارات "التحدي، التباهي، الخصوم... الخ"، وهو تكرار لا أجد له تفسيرا خلا أنه نابع من أزمة الحركة نفسها، الأزمة التي تضع معها كل من يخالفها الرأي موضع الخصم، بالتالي مباهاته وتحديه ومبارزته، دون استخدام مصطلحات الدعوة بالتي هي أحسن أو التحاور مع أصحاب الملل.
(وقد باهينا خصومنا بأقوى نصّ في إثبات العدل منهجاً للحكم: " إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ" أي العدل للناس جميعا، لا للمسلمين وحدهم، فضلاً عن أن يكون عدلا تختص به جماعة أو قبيلة أو بطانة خاصة) انتهى.
هنا يبدأ غازي في إرسال رسائله لخصومه الجدد، وليس لخصومه التقليديين أو القدامى، كون غازي وفي غمرة انفتاحه في سنواته الأخيرة أدرك مناقب كثير من القدامى حتى ولو ب (التلصص) على صحفهم الحائطية، والإشارة هنا لقصة حكاها العتباني بنفسه في إحدى مقالاته: (لقد آمنّا أن أقوى ما في الإسلام هي طاقاته التحريرية؛ دين يحرر الفرد من هواه وشهواته، وعبوديته للمادة ولمتاع الأرض، وغريزة العدوان. ودين يحرر الجماعات والأمم من الذل والظلم والحيف والفساد)... نتفق معه في هذه لكننا لا نتفق معه حين يكمل: (أشد ما جذب الناس إلى دعوة الحركة الإسلامية هو تبنيها لتلك المفاهيم في سياق معاصر، فالناس يرغبون في أن يتدينوا وأن يعيشوا عصرهم دون تناقض) انتهى.
لو كان غازي يقصد الحركة الإسلامية في الستينيات والسبعينيات وأوائل الثمانينيات لسلمنا له بذلك، وأنخنا رحالنا، فوقتئذٍ كانت للحركة مفاهيمها النظرية في مجال الحريات العامة وتطهير المجتمع وحقوق المرأة وغيرها من القضايا، وقبل ذلك كان فيها نَفَس من طهر المقصد وعناءات وجهاد للنفس، لكن نسأل لمجرد السؤال عن حركة الألفية الجديدة، أي مفاهيم تحمل في ما يخص إدارة التنوع والاقتصاد والحريات العامة والعدالة والشفافية ووحدة النسيج المجتمعي؟ وعلى أي مضامين تندغم في شأن قضايا الصحافة والأمن والعلاقات الخارجية... الخ؟ دلنا دكتور غازي أثابك الله عن منتوج فكري واحد ويتيم للحركة بعد ذهاب الترابي قبل أكثر من عشرة أعوام، دلنا عن برهان عملي ناجح في إدارة أي من هذه القضايا توافق عليه أهل القبلة وارتضوه؟
كنت أعتقد –هو اعتقاد أقرب إلى اليقين- أن لدكتور غازي خطا فاصلا بين سنوات الإيمان بالقيم التي ولت الأدبار -لا نقول من غير رجعة- وما بين اختبار التطبيق الذي بدأ في يونيو 1989م. ولو أن ما يقول به العتباني من إيمانيات محفوظ ومصون والحركة تتجاوز اليوم من سنيها الستين، لما بحث التائهون و(السائحون) عن إصلاح يعتقدون العتباني عطاراً له، ذا قدرة على إصلاح ما أفسدته دهور التغييب والتذويب والانعطاف، لكن غازي يصر، ويتأبى؛ بأن (صفوة المفاهيم والمثل التي حركت الشباب والشيوخ إلى أن يضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل دعوتهم إلى الله من خلال مسيرة الحركة الإسلامية في الأعوام الستين الماضية) انتهى، لا وألف لا، فكثير ممن انتمى للحركة في السنوات الأخيرة التي تعادل ثلث عمرها لم تحركهم صفوة المفاهيم، بل حركتهم ملذات السلطة والمال، أليس كذلك؟
(6)
ولج العتباني أخيرا في مقال تحرير الخلاف، إلى أصلاب خلافاته التي لها أريق الحبر على الورق، وفي المقال أعاد منتوج كتاب مآخذه على المؤتمر العام الثامن للحركة الإسلامية وهو مؤتمر كان يأمل فيه الرفعة العلية لمنزلة أمين عام الحركة الإسلامية، تلك المآخذ نشرها من قبل في الصحف وصرح بها أمام المؤتمرين، وللتذكير فقط فإن دكتور غازي يرفض انتخاب الأمين العام من مجلس الشورى ويرد ذلك الرفض لضرورة –قل وجوب- أن يستمد الأمين العام شرعيته من أعلى سلطة وهي سلطة المؤتمر العام بما يضمن تحقيق استقلالية للمنصب، كذلك يحتج العتباني على وجود جسم قيادي فوقي يعرقل صلاحيات الأمين العام، وأيضا وبحسب اعتقاده فإن هذا الجسم يقدح في استقلالية الحركة من الحكومة والمؤتمر الوطني، ومن المؤكد أن الرجل مصيب في كل ما ذهب إليه وإن اختلفت التقديرات.
بيد أن الجديد في مأخذ غازي صلاح الدين على إنشاء الهيئة القيادية –وحشره في المقال الأخير- أنه ألبس رفضه لبوس الدستور والقانون والأخلاق، فاستند على الدستور القومي وقانون التنظيمات والأحزاب السياسية، حيث يقول: (إن فكرة القيادة العليا تثير أسئلة قانونية وأخلاقية شائكة، خاصة وأنه قد أعلن رسمياً الآن أن رئيس الجمهورية قد أصبح رئيساً للقيادة العليا للحركة الإسلامية. المشكلة تكمن في أن الحركة الإسلامية غير مسجلة قانونياً حتى الآن. وقد جرى جدل مطول داخل الحركة حول هذه المسألة في وقت سابق وكان الاتجاه الذي يرى ضرورة تسجيلها قانوناً هو الاتجاه الغالب. الآن، بحسب هذه المادة، فإن رئيس الجمهورية، وهو الحارس الأول للدستور وللقانون ورمز وحدة البلاد الذي انتخبه الشعب السوداني وأعطاه بيعته، سيصبح رئيسا لجماعة غير مسجلة قانوناً. وهذا يعني، نظرياً على الأقل، أن الباب مفتوح لجماعات أخرى كي تنشئ حركات فكرية وثقافية، إسلامية وغير إسلامية، غير مسجلة قانوناً وتدعو السيد رئيس الجمهورية ليكون رئيساً لقيادتها العليا. وسيكون غير مبرر إطلاقاً أن يرفض الرئيس طلبها إلا إذا أردنا أن نضعف واجبه الأخلاقي الذي يجعله حكماً عدلاً وقائداً محايداً لمواطنيه) انتهى.
والله إن المرء ليعجب من أهل الحركة الإسلامية ومن البراغماتية التي ينتهجونها، ومصدر العجب وفغر الفيه ورفع حاجب الدهشة أنهم يلجأون فقط للدستور حينما تحاصرهم الخطوب في شخوصهم أو لتحقيق غايات وتطلعات عجزوا عن الوصول إليها عبر الوسائل التقليدية التي أرست لها الحركة الإسلامية، فالدكتور الترابي الذي علمهم السحر لم تكن في كل أدبياته السياسية في العشرية الأولى مطالب من شاكلة الحريات العامة والعدل ودولة القانون والدستور، لكن ما أن انقلب عليه حواريوه حتى أصبح وكأنه الأب المؤسس لتلك الأدبيات متناسياً ما فعله بالناس بذات الدستور، ذات القانون الذي وضعه بيده.
إذن، فغازي يكرر ذات المشهد الآن بالتباكي على أطلال وحائط الدستور والقانون، والإشارة هنا لتحليل الزميل محمد الخاتم وسؤاله عن هل تراه أدرك –غازي- حقيقة عدم تسجيل الحركة اليوم فقط، ومن سؤال الخاتم تتفرخ أسئلة أخرى عن احترام القانون والدستور في ليلة الثلاثين من يونيو وحل الأحزاب وحل البرلمان العام 1999م، والتضييق على الناس والإحالة للصالح العام وخلافه.
(7)
أرجع قليلا إلى ملف إدارة الانقسام بين القصر والمنشية 1999م، فعلى أي أساس صدرت قرارات الرابع من رمضان، وعلى أي قانون أو لائحة حلت الأمانة العامة للمؤتمر الوطني في 2000م؟ هل كل تلك الأشياء وغيرها يستطيع غازي صلاح الدين العتباني إيجاد تفسيرات لها، دستورية وقانونية وأخلاقية، علما أنه يتحمل جزءا من مسؤوليتها وتوابعها بأكثر من (طاقية) ارتداها وزين بها رأسه، وزيرا ومستشارا وأمينا عاما للحزب الحاكم.
سير غازي في درب الترابي ليس في (الردحي) على الدستور والقانون وحده، بل عله يطالب بما طالب به الترابي قبل عشر سنوات، حينما خير البشير بين البزة العسكرية أو رئاسة الحزب، وهي المطالب التي جرد غازي سلاحه ليقف ضدها ساعتئذ، لكنه اليوم يرسل رسالة للبشير، وإن (تبطنت)؛ بأن عليه الاختيار بين رئاسة الدولة أو رئاسة الحركة الإسلامية، قدوته في ذلك عبد الله غل، ومحمد مرسي. فسبحان مغير الأحوال من حال إلى حال. ثمة استفهام آخر هل المبادئ الاخلاقية في عدم قانونية الحركة الاسلامية تتجزأ عند غازي صلاح الدين بحيث يكون ملزما بها الرئيس البشير وحده؟
(8)
يدنو غازي صلاح الدين العتباني في نهاية مقاله أكثر نحو هدفه بتوزيع اتهامات للأجهزة التنظيمية –دون أن يجرؤ على ذكرها- التي اتهمها علانية بالتدخل والتأثير على نتائج التصويت للقرارات والشخوص، وبأنها مررت توجيهات من قيادتها العليا بالتصويت للدستور جملة دون تعديل، وبالتصويت لأشخاص بعينهم دون آخرين.
وفي تلك المرحلة أرمي مرساتي، وأتوجه إلى مخاطبة غازي مباشرة رغم احترامي لمقامه وأقول: إن نهاية أي عملية انتخابية عامة أو نقابية أو طلابية كانت، ومرت على البلاد في سنواتها الأخيرة خرج الخاسرون فيها وهم يلوكون ذات النغمة، ولو أني رفعت سماعة الهاتف لأطلب الزميل عبد الباقي الظافر منافسك في إحدى الدوائر بالانتخابات الأخيرة لقال ذات العبارة نصا وموضوعاً، ولو أني استرجعت ذاكرة الأيام، وقد اخترت أمينا عاما للمؤتمر الوطني منتصف التسعينيات، لوجدت من يقول إن الزج باسم غازي صلاح الدين للمنصب تم بتوجيهات، كون القواعد كانت ترى في الشفيع أحمد محمد أنه الأحق بالأمانة العامة، هذا غير ما تقول به الأحزاب المعارضة التي آثرت عدم خوض أي انتخابات في عهدكم لذات السبب، وفي انتخابات 2010 شاهد العالم كيف تتم تعبئة وحشو صناديق الاقتراع بالأصوات (المضروبة)، فهل أنت حديث عهد بهذا الأمر؟ أين كنت وأين وقفت؟
تلك المخالفات -وأستعير ما جاء به غازي- توضح مدى ما اعترى الحركة من علل وأزمات بسبب غيابها –أو تغييبها- المتطاول. إنها علل وممارسات نزعت الروح من عبارات ربعي بن عامر الرنانة ومن وعود الإسلام التحريرية وجعلتها محض صدىً يأتي من خارج المكان والزمان.
(9)
الدكتور غازي صلاح الدين العتباني، ومع كامل الاحترام، هو هكذا دوماً، جزء من صناعة القرار، لكنه يهرب عند شدائد تحمل المسؤولية، ألم يكن في يوم من الأيام عراب اتفاق ميشاكوس الإطاري الأساس الذي قامت عليه اتفاقية السلام الشامل؟ لكن عند ساعة المحك بدأ يتحدث عن تحفظات؛ حتى عندما يأتي يوم الحساب يبرئ نفسه، وهذه الأيام يكرر المشهد، لكن فات الأوان.
(10)
سأل عبد الملك بن مروان رجلا من الخوارج عن رأيه في الحجاج بن يوسف، فأجابه: (هو خطيئتك). وهذه قصة لم أجد لها مكانا مناسباً، لكنها كانت تتقافز لي ما بين السطور.
abdelhamid awadelkarim [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.