Abdelwahab El-Affendi [[email protected]] (1) في الشهر الماضي أوردت الأنباء أن وزير التعليم الإسرائيلي أصدر قراراً بمحو كل ذكر للنكبة من مقررات الدراسة الفلسطينية. يأتي هذا بعد قرارات أخرى حرمت على الفلسطينيين إحياء ذكرى النكبة واعتبار ذلك جريمة ومخالفة للقانون. (2) هناك طغيان وعنجهية في هذا التوجه تذكر بمواقف طغاة أصبح سجلهم الأسود عبرة لمن اعتبر: الفرعون، وجنكيز خان وهتلر. بل إن هذا طغيان من نوع أبلغ شراً، لأنه لا يكتفي بإبادة الأجسام واستعباد الأشخاص، بل يريد غزو الضمائر وإخضاع العقول. فنحن هنا أمام مطالبة بإخضاع النفوس والسرائر لقوانين الطغاة، بحيث يمنعوا حتى من الحزن على مصابهم، وإنما يجب أن يحتفلوا بيوم قهرهم مع العدوالقاهر. (3) هناك أيضاً ضعف واضح وإحساس بالذعر يكمن وراء هذه العنجهية . لأن الجلاد الذي يخاف الضحية، واللص الذي يضغط على صاحب المال المسروق ليتنازل له عنه، يكشف عن الذعر الذي يعيشه ومشاعر عدم الأمان التي تكتنفه. فمطالبة الفلسطينيين بالاعتراف بإسرائيل، ليس فقط كأمر واقع، بل كدولة يهودية خالصة، يشير إلى معضلة تواجه المتطرفين الإسرائيليين. فنحن لا نسمع الحكومات الفرنسية أو الألمانية او الروسية تطالب الآخرين بالاعتراف بهوية الدولة. فالدولة إما هي فرنسية أو مصرية أو يهودية، وإما هي غير ذلك. وبالقطع هناك مشكلة إن كانت هناك دولة تعتمد على ضحاياها لتأكيد هويتها المناقضة لمصالحهم. (5) هذا الوضع الغريب ينعكس سلباً على ما يسمى بعميلة السلام الجارية الآن، وتناقضاتها المتمثلة في مطالبة الضحايا بتقديم تنازلات لجلاديهم. ومنذ الخلل الذي أدخلته اتفاقات كامب دايفيد حين جعلت مصطلح السلام يرادف إما الحياد أو المشاركة في حروب إسرائيل، فإن أي اتفاقية عقدها طرف عربي مع إسرائيل اشتملت على تنازلات و"اعترافات" بهذا وذاك لإسرائيل، ثم الدخول في حروب مع أطراف عربية أخرى لصالح إسرائيل. (6) الإشكالية هي أن شعور إسرائيل بعدم الأمان لا ينتهي أبداً. فكل اعتراف يدفع إسرائيل للمطالبة باعتراف جديد. فإذا اعترف بحقها في الوجود، طالبت بالاعتراف بالاستحواذ على القدس والجولان ومعظم الضفة. وإذا تم القبول بهذا طالبت بالاعتراف بيهودية الدولة والتخلي عن حق العودة. وهكذا. وترجع هذه الأزمة لأن الحقوق الأخلاقية غير قابلة للتخلي عنها، خاصة تحت الضغط والقهر. فقد يقرر أهل القتيل العفو عن القاتل عند المقدرة، ولكن "العفو" تحت تهديد السلاح لايكون عفواً. (7) منظمة التحرير الفلسطينية وقعت بدورها في هذا الفخ حين وقعت اتفاق أوسلو وغيرت ميثاقها وقدمت اعترافات لا آخر بهذا أو ذاك حسب طلب إسرائيل. ولكن الأمر لم يثمر سلاماً، بل مطالبات مستمرة بتقديم خدمات إضافية للاحتلال، من أبرزها مطاردة واعتقال الفلسطينيين الشرفاء لإرضاء العدو. (8) هذه الأيام تعقد منظمة فتح، العمود الفقري لمنظمة التحرير الفلسطينية أول مؤتمر لها منذ عشرين عاماً تحت حراب إسرائيلية، وهي ترى عدوها الأول هو حماس لا الاحتلال الإسرائيلي. ولا شك أن هذا منحدر سحيق سقطت فيه الحركة التي قامت لتحرير فلسطين وهي اليوم تحت حماية حكومة إسرائيلية تحرم على الناجين من نكبة قيام إسرائيل مجرد الحزن على مصابهم. (9) عدد من الكتاب الإسرائيليين سارعوا بتشبيه محاولة الحكومة الإسرائيلية إنكار النكبة بعملية إنكار المحرقة، وهي جريمة في دول كثيرة في أوروبا، وكبيرة أخلاقية يرى الكثيرون أنها تكشف عن خلل في المعيار الأخلاقي لمجترحها. وقد علق كاتب إسرائيلي بأن اليهود لا يريدون أن يشاركهم أحد في مكانة الضحية التي تستحق إعادة الاعتبار. (10) هناك فرق بين أن تريد الاستحواذ على دور الضحية، وبين أن تنكر على الضحايا حتى مجرد الحزن. لنتخيل لحظة لو أن حكومة نازية جديدة قامت في أوروبا (وهو احتمال أصبح يزداد ترجيحاً بعد صعود اليمين الجديد) ثم طلبت من الناجين من المحرقة أن يشهدوا بأنها لم تحدث. هذا هو وجه المقارنة، وليس مجرد إنكار المحرقة. (11) هناك اليوم عبء أخلاقي كبير على فتح وهي تعقد مؤتمرها في أرض محتلة وتحت مظلة اتفاق يلزمها بالدفاع عن دولة عنصرية تحارب شعبها، لأن تختط خطاً جديداً يطالب باتفاق سلام شامل يعطي الفلسطينيين كل حقوقهم قبل الدخول في أي ترتيب أمني أو سياسي يجعلها شرطياً إسرائيلياً بنصف الأجر. (12) الأمر نفسه ينطبق على حماس التي جعلت نفسها جزءاً من دويلة أوسلو وبرلمانها وحكومتها ثم أخذت تتذمر من المطالب الملقاة على عاتقها بموجب هذه الصفقة مع شيطان أوسلو. فمن أخذ الأجر حاسبه الله بالعمل. وليس أسوأ من قيادات تحول موقفها الأخلاقي الأسمى وحاجة العدو إلى مشروعية رضاها إلى وضع مقلوب يصبح فيه صاحب الحق أجيراً عند سارق حقه.