الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ميليشيا الدعم السريع ترتكب جريمة جديدة    بعثة الرابطة تودع ابوحمد في طريقها الى السليم    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون ينقلون معهم عاداتهم في الأعراس إلى مصر.. عريس سوداني يقوم بجلد أصدقائه على أنغام أغنيات فنانة الحفل ميادة قمر الدين    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    تقارير: الميليشيا تحشد مقاتلين في تخوم بلدتين    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    مكافحة التهريب بكسلا تضبط 13 ألف حبة مخدرات وذخيرة وسلاح كلاشنكوف    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    تونس.. سعيد يصدر عفوا رئاسيا عن 2014 سجينا    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأزمة السودانية.. نهاية "مغامرة" الحل الإفريقي .. بقلم: خالد التيجاني النور
نشر في سودانيل يوم 21 - 12 - 2012

عندما جرى توقيع الرئيسين عمر البشير وسلفا كير على اتفاقية التعاون بين دولتي السودان في أديس أبابا أواخر سبتمر الماضي كان حتى أكثر الناس تفاؤلاً بأن تفضي تلك الاتفاقية إلى فتح صفحة جديدة بين البلدين تتجاوز تبعات التقسيم المؤلمة وتفتح باب أمل جديد أمام الشعبين، يدركون أنها كانت اتفاقية ملغومة لإبقائها ملفات خلافية حساسة بدون حل.
وكان باعث ذلك الأمل الرجاء من باب "تفاءلوا بالخير تجدوه"، وأن عسى أن تكون النخبة من أصحاب القرار في الجانبين أدركا أخيراً بعد تجارب معاناة شعبية مريرة جراء عواقب تقسيم البلاد قد استفادت من درس الوقوف على حافة استعادة السيناريو الأسوأ، عودة الحرب الشاملة في ظل وضع أكثر شرذمة وتعقيداً.
لكن سرعان ما تبدَّدت الآمال التي أطلقها توقيع الرئيسين والوعود التي تعهدا بها، وتباطأت القوة الدافعة للتنفيذ الفوري للاتفاقية، حسبما نصَّت بنودها، ولم يغن مسارعة مجلسي الوزراء وبرلمانيي البلدين في المصادقة على اتفاق التعاون شيئاً عندما حان أوان التنفيذ الفعلي للإلتزامات المقطوعة. فقد عادت الخلافات حول الترتيبات الأمنية إلى نقطة الصفر، وثار جدل محموم حول مساعي تدويل قضية أبيي ليس فقط بين الطرفين، بل بين الخرطوم وفريق الوساطة الإفريقية الذي تبنَّى وجهة النظر الجنوبية في النزاع.
ولئن بدا الجدلُ حول مسألة أبيي مفهوماً ومتوقَّعاً بحكم التعقيدات المحيطة بالخلافات المعلومة حول من يحق له التصويت في الاستفتاء المقترح من الوسطاء الأفارقة في أكتوبر المقبل، فإن المفاجأة وراء عرقلة اتفاق التعاون لم تأتِ من المسائل الخلاقية المعلقة المتَّصلة بأبيي، أو النزاع الحدودي حول المناطق المدعاة والمتنازع عليها، بل جاءت للمفارقة بسبب الخلافات بين الطرفين حول تنفيذ اتفاقية الترتيبات الأمنية التي تعتبر الأهم والمؤسسة لاتفاق التعاون الإطاري المرتكز على ثمانية اتفاقيات تغطي جوانب حيويَّة لا سيما تلك ذات الطابع الاقتصادي.
ما حدث أن سريان بنود اتفاقية التعاون التي كان مقدراً لها أن تبدأ إجراءات تنفيذها خلال أسابيع قليلة أصبحت في حكم المجمَّدة عملياً وهي تقترب من إكمال شهرها الثالث، ولا تلوح في الأفق بوادر تحوُّلٍ درامي في الموقف الراهن الذي دخل حيِّز التجميد بعدما قرر الطرفان العودة مجدداً إلى أديس أبابا إلى نقطة البدء، والبحث عن حلٍّ آخر عند حكماء القارة من الوسطاء الذين أعياهم الملف النزاع السوداني سلماً وحرباً، موحداً ومقسماً كذلك. ولا يبدو أن جراب الحكمة الذي أصبح خاوِياً عندهم يحمل حلاً سحرياً جديداً لم يتطرَّقوا إليه من قبل. ولذلك اكتفوا بإحالة الملف برمته إلى القمة الإفريقية الشهر المقبل, وبات واردا أكثر من أي وقت مضى ان يحيل الزعماء الأفارقة الأزمة السودانية المتطاولة المفتقرة لآفاق حلول بعد إلى مجلس الأمن ويتحقق ما تخشى الحكومة السودانية حدوثه "تدويل" الأزمة.
والسؤال لماذا فشلت اجتماعات اللجنة السياسية الأمنية بين دولتي السودان مرَّتين في الخرطوم وجوبا، ثم فشلها للمرة الثالثة في أديس أبابا في تحقيق اختراق فعلي؟. وما الذي سيترتَّب على هذا التطوُّر الخطير بشأن فرص صمود اتفاقية التعاون بعدما أصبحت كلُّ بنودها الحيويَّة عالقة في انتظار تسوية الخلافات المتجدِّدة.
في الواقع فإن السبب المعلن لتعثُّر اجتماعات اللجنة السياسية الأمنية المشتركة يعود إلى رفض جوبا الاستجابة لمطلب الخرطوم تضمين أجندة اجتماعات اللجنة مسألة فكِّ الارتباط بين الجيش الشعبي والفرقتين التاسعة والعاشرة اللتين تقودا معارضة مسلحة في جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتبرِّر حكومة جنوب السودان موقفها بأن فكَّ الارتباط تمَّ رسمياً عشيَّة استقلال دولة الجنوب، وتعتقد أن في تعهُّدها في اتفاق الترتيبات الأمنية بأديس أبابا بأن تكفَّ الدولتان عن تقديم يد المساعدات لمعارضي الطرف الآخر ووقْف الحرب بالوكالة ما يغنيها عن اتخاذ أية خطوات أخرى.
وتعتبر الصراع في جنوب كردفان والنيل الأزرق شأناً داخلياً بالسودان عارضة أن تقود وساطة بين الخرطوم والمتمردين من حلفائها السابقين، وتصف جوبا طلب الخرطوم منها نزع سلاح متمردي الجنوب الجديد بأنه تزَيُّدٌ وأمر لا قِبَل لها به بل تصفه كما جاء في كلمة للرئيس سلفا كير بأنه مهمة مسستحيلة.
ومن الواضح اتِّساع فجوة الخلافات البيِّنة في وجهتي نظر حكومتي السودان وجنوب السودان تجاه مقتضيات اتفاقية الترتيبات الأمنية والعسكرية، وقبل ذلك النزاع على أبيي الذي يفتقر إلى أفق تسوية مقبولة للطرفين الذي زاد من تعقيدها تبنِّي الوسطاء الأفارقة لإجراء استفتاء يقرر مصير المنطقة في اكتوبر المقبل وفق منظور يطابق وجهة النظر الجنوبية في شأن المخوَّل لهم المشاركة في الاستفتاء والذي يحرم قطاعاً واسعاً من المسيرية المرتبطين بالمنطقة بِحُجَّة عدم الإقامة الدائمة. ويزيد من اتساع فتق الخلافات على الراتق النزاعات الحدودية غير المحسومة بين الطرفين والتي تمثل هي الأخرى قنابل موقوتة قابلة للانفجار في كلِّ لحظة.
ومن المؤكد أن مجملَ المشهدِ الشديدِ الاضطرابِ والعصيِّ على الحلحلة في العلاقات بين دولتي السودان، وبصفة خاصة بين الحزبين الحاكمين في الخرطوم وجوبا يتعدَّى بكثير مجرد الاختلاف العميق على مسائل ذات طابع فنِّي يتعلق بتنفيذ الاتفاقيات المبرمة إلى أسباب أبعد دلالة تتعلق بطبيعة الصراع بين الطرفين على رسم مستقبل السودان حتى بعد تقسيمه، ويعكس صراع إرادات على تشكيل الخيارات السياسية المقبلة في السودان الكبير.
وهي معركة مستمرة يتم خوضها في كل مرحلة تحت لافتة جديدة، وهو ما يفسر العدد الكبير من الاتفاقيات التي يتم توقيعها بين الطرفين بعد ضغوط وتدخلات دولية وإقليمية عنيفة، يخضع لها أحد الطرفين أو كلاهما معاً مؤقتاً ريثما تمر موجة الضغوط الكثيفة، ثم لا تلبث أن تعود الأمور إلى مربع الصفر والتنصُّل من تنفيذ التعهُّدات ويشتجر الطرفان في تفاصيل فنية دقيقة تبدو وكأنها هي الأسباب الفعلية لتعثُّر تطبيق ما تم الاتفاق عليه ولكنها في الواقع ليست سوى غطاء لحقيقة طبيعة صراع الوجود بين طرفين أو مشروعين متناقضين كان تحالفهما القصير إبان الفترة الانتقالية مجرد زواج عابر، وبقي الرهان على إفناء الآخر والقضاء عليه الهدف الحقيقي.
والصراع الراهن بين الطرفين الذي يتأكد في كل مرة، على الرغم من كثرة جولات التفاوض والتفاهمات والاتفاقات الموقعة، أنه أبعد ما يكون عن الوصول إلى تسوية نهائية حاسمة ليس في واقع الأمر سوى مردود حتميٍّ ونتاجٍ متوقعٍ لحصادِ مسيرةِ تعاطي كلا الطرفين مع ملف الأزمة الوطنية السودانية، إذ ثبت أن هناك ثمة اختلاف أساسي في استراتيجية ونهج كل من المؤتمر الوطني الحاكم في الخرطوم، والحركة الشعبية الحاكمة في جوبا في إدارة هذا الصراع، والذي بدأ في الظهور منذ التفاوض بين الطرفين على التسوية التي انتهت بتوقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا.
لقد كان هذا النهج حاسماً في رسم وتشكيل خارطة الطريق لمستقبل الصراع بين الطرفين ودلَّل بصورة قاطعة على ما يريده كل طرف في نهاية الأمر من التسوية الثنائية التي انفرد الطرفان بإبرامها بمعزل عن بقية القوى السياسية في الشمال والجنوب على الرغم من أن الشعار المرفوع أنها تفضي لاتفاقية سلام شامل تنهي الأزمة الوطنية السودان في تجلياتها المختلفة، وتقدِّم نموذجاً لمعالجة كل المطالب السياسية عن طريق إحداث تحول ديمقراطي يستوعب مطالب كل الأطراف السياسية المركزية المدنية والجهوية المتمردة عسكرياً.
وتشير معطيات مسار الأحداث في عملية التفاوض والسلام السودانية أن الحركة الشعبية تمترست في تعاطيها مع المؤتمر الوطني برؤية استراتيجية أكثر عمقاً وثباتاً في شأن ما تبتغي تحقيقه في خاتمة المطاف، واتَّبعت أسلوباً تكتيكياً أكثر فاعلية في تحقيق الأهداف عبر مرحلتها وصولاً إلى مشروع "السودان الجديد" الذي طالما حملته ورفعته شعاراً يدعو إلى إعادة تأسيس الدولة السودانية الحديثة على قواعد مفارقة لما ظلت النخبة الشمالية تعتقد أنها مسلمات مستقرة لا يمكن المساس بها.
وقد برعت الحركة الشعبية بصفة خاصة في إدارة لعبة التفاوض بسياسة "الخطوة خطوة"، أو "خذ وطالب"، أو وفق القاعدة الأصولية عند فقهاء المسلمين "ما لم يدرك كله، لا يترك جله"، ونجحت في إيقاع مفاوضي المؤتمر الوطني في الفخِّ مرتين حين أظهرت استعدادها التراجع من مشروعها الوحدوي الجديد لصالح مشروع إقليمي "قومي جنوبي" في إطار سودان موحَّد بنظامين، والمرة الثانية حين قايضت الحصول على حق تقرير المصير للجنوب باحتواء "المشروع الإسلامي" للمؤتمر الوطني حين قصر مطلبه بتنفيذ قوانين الشريعة داخل حدود الشمال.
غير أن الحركة الشعبية حصلت على جائزة كبرى لم تكن تنتظرها كفلت لها دقَّ"مسمار جحا" وموطن قدم لمشروعها الوحدودي الجديد في الشمال مجدداً، حين وافقت قيادة المؤتمر الوطني على إعادة فتح معادلة تسوية مچاكوس الإطارية التي جعلت حدود الشمال والجنوب المعلومة منذ عام استقلال السودان في العام 1956 مرجعيَّة حاسمة لحدود الطرفين في المقايضة التاريخية المبرمة، تقرير المصير للجنوب مقابل سريان "القوانين الشرعية" في الشمال، أصبحت القسمة ضيزى عندما وافق المؤتمر الوطني إلى إدراج المناطق الثلاث: أبيي، وجنوب كردفان، والنيل الأزرق التي كان مفهوماً أنها تابعة للشمال في ذلك الوقت حسب تلك التسوية في مسار مفاوضات مختلف تحت وساطة كينية وأميركية انتهت بتضمينها في برتوكولات اتفاقية السلام الشامل النهائية لتصبح جزءًا لا يتجزأ منها.
ولكن ما الذي فتح "صندوق باندورا"، ولماذا وافق المؤتمر الوطني على الدخول في "عش الدبابير" دون تدبُّر ولا تدبير لعواقب ذلك ومآلاته المستقبليَّة الخطيرة التي تقع وبالاً عليه وعلى البلاد؟. في الواقع لم يكن ذلك مفاجئاً، إذ لم يكن إلا انعكاساً لاستراتيجية ونهج التفاوض التي اخطتها الحزب الحاكم في الخرطوم التي ولغ فيها بلا تبصُّر لتورثه المأزق الحالي.
خطيئة المؤتمر الوطني الكبرى أنه خاض ماراثون التفاوض مع الحركة الشعبية وهو يفتقر إلى "مشروع سياسي وطني"، وقد تخلَّى حتى عن حلم "مشروعه الإسلامي" الذي بدأ بطموحات أممية حين استولى الإسلاميون على السلطة ليتقزَّم إلى أقلّ من مشروع بحدود جزء من وطن حيث تحوَّل إلى مجرَّد صراع حول "هُوِيَّة العاصمة"، كان همّ "الطبقة الإسلامية الحاكمة" الوحيد إنجاز "صفقة"، تكفل لها "الخلود في السلطة"، مع الطرف الذي استقر في حساباته أنه الطرف السياسي الوحيد في المعادلة السياسية السودانية الذي يشكِّل خطراً وتحدياً حقيقياً لفرص استمرار سيطرته على السلطة، مستضعفاً ومهوِّناً من شأن سائر القوَى السياسية الوطنية الأخرى ولذلك لم يأبه بها وعزَلَها وحرَمَها من أن تكون شريكة في تسوية الحرب الأهلية التي شكَّلت التحدِّي الوطني الأبرز طوال حقبة الحكم الوطني.
وكان الهدف واضحَ الاستئثار بتسوية لا يتكاثر فيها الشركاء وتقلّ فيها الحظوظ، وتكفي للاقتسام مع شريكٍ واحدٍ ذي بأْسٍ. كما أن المؤتمر الوطني كان يطمع أن يصل إلى دخول نادي التطبيع مع الولايات المتحدة ومن ورائها المجتمع الدولي على صهوة حليفها المنتظر الحركة الشعبية. أبدى المؤتمر الوطني حرصاً بالغاً على عقد شراكة سياسية مستدامة مع الحركة الشعبية تضمن ديمومة السلطة وفق صيغة فضفاضة لبقاء السودان موحداً في شبه كونفدرالية نظامين في دولة واحدة، أدرك جون قرنق أن هذه هي نقطة ضعف المؤتمر الوطني الأساسية ولذلك برع في استغلالها للحصول على مكاسب تفوق بكثير الحقوق التي ضمنتها تسوية مچاكوس الإطارية للجنوب.
ومن هذه الثغرة تحديداً كانت النافذة التي ستعود بها الحركة الشعبية بعد أن ضمنت في جيبها الجنوب كاملاً إلى إيجاد موطئ قدم في الشمال عبر إثارة مصير "المناطق الثلاث" التي كانت خارج معادلة التسوية، ودغدغتْ مشاعرَ مفاوِضِي المؤتمر الوطني بإمكانية الدخول في شراكة سياسية إذا سهل لها تسوية ترضي قادة المناطق الثلاث الغاضبين، التي كان مقاتلوها يشكلون "عصب" الجيش الشعبي الحي.
ولندع هيلدا جونسون الوزيرة النرويجية السابقة والشخصية المؤثرة ضمن الترويكا الدولية التي لعبت دوراً مؤثراً في كواليس مفاوضات نيفاشا، فقد أوردت في كتابها عن أسرار مفاوضات نيفاشا، الذي صدر منذ عامين ولم يكذب أحد من المعنيين إفاداتها، قولها إن طه "قد ناشد مراراً وتكراراً الحركة الشعبية بالإلتزام بشراكة سياسية ذات طابع رسمي أكبر، وتمتد على أجل أطول، أراد ببساطة، وإن لم يكن ذكر ذلك صراحة، شراكة من شأنها أن تساعد كلا منهما في الفوز بالانتخابات والبقاء في السلطة، وتم طرح هذا الأمر مراراً وتكراراً، حيث طلب مني علي عثمان عدَّة مرات التدخُّل للحديث مع الحركة الشعبية، وقد ناقشت الأمر مع د. جون قرنق وقادة الحركة الشعبية لكنهم كانوا حذرين للغاية ومتحفظين جداً من مصاهرة حزب المؤتمر الوطني".
وتقول جونسون إن التنازلات التي قدَّمها مفاوضو الخرطوم كانت على صلة وثيقة برهانهم على إقناع الحركة الشعبية بقضية الشراكة السياسية التي كانت مسألة جوهرية بالنسبة إليهم، وتضرب مثلاً في هذا في هذا الخصوص بموافقة المؤتمر الوطني على بروتوكول أبيي المستند على مقترح أمريكي، وذكرت أن طه أبلغ قرنق لاحقاً أن أبيي ينبغي أن تكون جزءًا من صفقة شاملة، وأن موافقة الحكومة على المقترح جاءت في هذا السياق، وضرورة أن تخضع لمقايضات ومبادلات مع قضايا أخرى، وقال طه إن الحركة الشعبية كانت تأمل في وضع أبيي في جيبها دون أن تدفع الثمن استناداً على تدخُّل "الحكم" الأمريكي.
ويبدو أن هذا ما يحدث بالفعل الآن فالحركة الشعبية في طريقها لوضع "أبيي" دون ثمن في جيبها استناداً على تدخُّل "الحكم الأمريكي" الذي يمارس ضغوطاً كثيفة لنقل الملف إلى مجلس الأمن الدولي، بعدما نجحت في كسب تعاطف الوسطاء الأفارقة الذين تبنَّوْا وجهة نظرها، ومسألة نقل ملف أبيي إلى طاولة مجلس الأمن وتدويله تبدو مسألة وقت لا أكثر، على الرغم من محاولة الدبلوماسية السودانية المستميتة إبقاء الملف في الدائرة الإفريقية الأقل ضرراً، وتأجيل اتخاذ قرار في هذا الخصوص إلى القمة الرئاسية الشهر القادم لا يحمل معنى سوى إضفاء ثقل أكبر إلى قرار إفريقي بتدويل مسألة "أبيي".
ولعله والحال هذه فإنه يتعين على الأطراف السودانية الاستعداد لرؤية هذا السيناريو يتحقق. أما المسألة التي تعيق تنفيذ اتفاق الترتيبات الأمنية وما يعرف بفك الارتباط بين الجيش الشعبي والحركة الشعبية شمال، فهي الوجه الآخر لعملة "تسوية نيفاشا" المفتقرة لبعد إستراتيجي يرى خطورة مآلات تنازلات غير محسوبة العواقب، وتخطئ الخرطوم حين تعتبر أنها في مواجهة مشكلة تمرُّد عسكري فحسب، أو إزاء مسألة فنية متعلقة بنزع السلاح، ما يجب أن يقلق "الطبقة الحاكمة" في المؤتمر الوطني ليس فك "الارتباط العسكري" بل "فك الإرتباط " بين تمثلات التمرد في "الجنوب الجديد" وعواقبه، وتمثلات التمرد القديم في "الجنوب العتيد" بكل محمولاته ومدلولاته وتجلياته السياسية التي انتهت بتقسيم البلاد، وارتهان ما تبقَّى منها للمزيد من التشرذم بسبب تفاعلات هلال التمرُّد الممتد من دارفور إلى جنوبي كرفان والنيل الأزرق إذا تركت للصفقات الجزئية بدون رؤية لتسوية وطنية شاملة.
لقد خسر المؤتمر الوطني الحاكم الرهان على"الشراكة المستحيلة" مع الحركة الشعبية التي لم تقامر بالتخلي عن مشروعها السياسي من أجل تسوية "منقوصة"، فقد ظل بصرها مصوباً نحو هدفها القديم "السودان الجديد" وإن بدا أحياناً أنها تخلَّت عنه بتنازلات مدروسة تضمن لها العودة إليه خطوة خطوة بعدما لم يتيسر لها الأمر دفعة واحدة.
ويلزم "الطبقة الحاكمة" في الخرطوم التعلُّم من أخطائها التي لا تنتهي، التي تورَّطت فيها بفعل نهج الصفقات الثنائية والتسويات المجزأة، الذي تحصد منه الآن الحصرم، لم يعد بوسعها عقد المزيد من هذا النوع من الصفقات، لا مع دولة الجنوب الوليدة التي باتت تشكل البعد الحاسم واللاعب الأخطر في حسابات الأمن القومي السوداني، ولا مع حركات المعارضة المسلحة في هلال التمرد الممتد، لم يعد من سبيل لإنقاذ السودان حقاً من مستقبل مجهول بلا حلٍّ سياسيٍّ شاملٍ وفق "مشروع وطني" جديد يتعاقد عليه السودانيون جميعاً بلا وصاية من أحد، أو تحاول سلطة "متآكلة" تظن أنه لا يزال بوسعها فرض شروطها.
لم يعد هناك شيء اسمه مشكلة دارفور، أو مشكلة جنوب كردفان، أو النيل الأزرق، أو الشرق هناك مشكلة واحدة "أزمة وطنية" لم يشهد لها السودان مثيلاً، حلها ليس عند الأفارقة، ولا في مجلس الأمن، ولاعند إمبيكي، حلها هنا في الخرطوم، في الداخل بتنازلات وطنية لأصحاب الحق، وليس في الخارج بتنازلات "أجنبية" لن تجلب إلا المزيد من الفشل، ببساطة لم يعد مجال أمام الطبقة الحاكمة في الخرطوم للهروب إلى الأمام، لقد انسدَّت كلُّ الطُرُقِ إِلا طريق الحل الوطني الشامل.
صحيفة إيلاف
19 ديسمبر 2012


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.