بسم الله الرحمن الرحيم التاريخ : 11/08/2009م [email protected] غادر صديقنا ( الكافتيريا) يلتمس مكاناً ليمد ظهره قليلا بعد معاناة الساعات الفائتة ، فدار على جميع أقسام وطوابق الباخرة فلم يجد شبرا مناسبا كي يتمدد فيه سوى مسجد الباخرة العشوائي، استلقى على فرشات المسجد الهترئة يتوسد ( لاب توبه ) على خفيف لرفع رأسه قليلا عن الأرضية الحديدية ( الحارة ) دون الضغط علي ( اللاب توب ) بكامل جمجمته، وإثناء هذه الاسترخاءة وجد أغنية ( اللمبي ) لا زالت تدندن في أذنيه وتلامس أوتاراً حساسة فيه ( حب أيه ده اللجاي أنت تتكلم عليه ... ده أنت بينك وبين الحب دنيا ... أما نفس الحب عندي حاجة تانية .. أنت فين والحب فين ) شرد ذهن صديقنا في تفكير عميق في معاني هذه الأبيات الملهمة ، وبدا يوجه أسئلة لنفسه، يا ترى هل من أحبهم وأبذل من أجلهم كل هذه التضحيات والمغامرات يقدرون هذه المعاناة وهذا العنت ،ويبادلونني حباً بحب ؟، هل يحملون نحوي نفس المشاعر النبيلة التي احملها تجاههم، فوصل لقناعة راسخة أن هذه الأغنية كأنما فُصلت له ،وكأنها تتحدث بلسان حاله وبدأ وكأنه يخاطب( جماعته) بالسودان ويقول لهم أي حب الذي تتكلمون عنه وماذا تعرفون عن الحب وأين أنتم منه وأنا أعيش هذه ( البهدلة) دون أن المس منكم ما يوحي بتقدير أو حب حقيقي ، وكل حبكم مرتبط بما في جيبي وما أحضره لكم معي من سفر العذاب المر الذي أخوضه كل عام من أجلكم دون أن أحس بمجرد رفق بالإنسان ناهيك عن حبه ، (أنتو فين والحب فين ) مع طلباتكم التي لا تنتهي وأنا (شيال التقيلة ) الشايل ( فوق الدبر) ، بدأ يستغرق في هذه المعاني التي ألهمها له ( اللمبي ) وبدأ يدخل في حالة من ( الهلوسة ) و( الدبرسة ) والاستغراق النبيل ، لم تطاوعه عينيه على ( الغمّيد ) على ( اللاب توب ) وحديد سطح الباخرة ،وبدأ يستلهم من معاني أغنية ( يا مولاي آه من غلبي ) ودائما ما يتوقف عند البيت القائل ( مالك روحي مطعونة وتملّي تنيني ... مالك عيني للغميّد أبيتي تليني ) أبت عيناه أن تغمّد و( اللاب توب ) قوي على رقبته و( الرقدة ) غير مريحة ، لكن صديقنا استعاذ بالله من الشيطان وقرا آية الكرسي والمعوذتين والمسد وخواتيم البقرة وبعدها راح في نوم ليس بالعميق ، نوم مقطّع و( مبشتن ) ، لا تمر لحظات إلا ويصحوا مفزوعا ويحس كأن أحدا سحب ( اللاب توب ) من تحت رأسه، ومرة يحلم أن الباخرة وصلت والناس نزلوا وخلصوا عفشهم وهو منسي هنا، ومرة يحلم أنه المنبه ما ضرب ومواعيد الدوام فاتت وينسى أنه على ظهر باخرة . بقي على هذه الحال بين ( فزعة ) و ( خلعة ) و( هضربة ) حتى سمع آذان الفجر يصدح، حيث قام أحد ركاب الباخرة بأداء الآذان دون أن يكلفه أحد بذلك ودون أن يسأل عن توقيت وطريقة الآذان في مثل هذه الظروف وهل هناك مؤذن رسمي للباخرة ؟وما هو المتبع في هذا الجانب من قبل إدارة الباخرة، المهم وجد أن وقت الصلاة حان بتوقيت جدة وتوكل على الله وأذّن في الناس ، قام صاحبنا من ( رقدته ) البائسة أشعثاً و( مكرفس ) الثياب وحمد الله على بزوغ فجر اليوم التالي وبشر نفسه بحلم الوصول . بعد انتهاء صلاة الفجر توجه صاحبنا إلى سطح الباخرة للتمتع بالنظر للشروق ، وشهد الشمس وهي ترسل أشعتها تدريجيا على زرقة البحر الأحمر في منظر خلاب ومهيب، تنفس هواء جميلا خلال هذه الوقفة وهذا المنظر البديع ، وكان يمد بصره بعيدا عله يرى ما يوحي بظهور علامات سواكن ولكن البحر كان هلاميا وصامتاً ولم ير سوى زرقة الماء الممتد في الفضاء السرمدي. بعد أن لملم ليل البحر ظلامه ووحشته ورحل ،وطل فجر اليوم التالي من رحلة صديقنا في إجازته السنوية التي ضاع منها حتى الآن يومين وبزغ فجر اليوم الثالث وهو لا يزال في عرض البحر الأحمر ، توجه بسؤال من نوعية أسئلته البريئة التي كان يوجهها لجاره الهندي ببص النقل الجماعي ، فوجه لمن يقف بجانبه السؤال التالي : (يبدو لي قرّبنا لي سواكن بعد ده ... صح ؟؟؟ ) فلم يكن الشخص المتلقي للسؤال مستاءً كحال صاحبنا ، بل بالعكس كان متفتح الأسارير و( فرحان ) من غير سبب كأنه مسافر على طائرة ( اللوفتهانزا ) وليس الباخرة ، أجابه وعلى وجهة ابتسامة بلهاء ( نصف كم) وخالية من أي تعبير حقيقي سوى أن هذا الشخص ربما واقعي ولا يرى في هذه السفرية ما يعيبها وأنها ممتعة ومريحة وسريعة ، أيضا من طريقته يبدو انه متعود عليها ومقتنع بها وسعيد بها أيضا . فكان رده محبطاً لصاحبنا حيث أفاده أن الباخرة بها عطل فني وتعمل بمحرك واحد وبالتالي فهي تسير بنص سرعتها كما سمعنا، ولو ربنا سهّل يمكن نصل حوالي الثانية ظهراً إلى سواكن ، كاد صاحبنا أن يدخل في غيبوبة من شدة الصدمة التي وقعت عليه بسبب هذه المعلومة والتي ربما تكون خاطئة أطلقها أحد السذج فانتشرت انتشار النار في الهشيم بين الركاب ، لم يسمع صديقنا بأن الباخرة تعمل بمحركين أحدهما احتياطي كالطائرة، وإذا افترضنا ذلك هل هذا المحرك متعطل قبل تحركها من ميناء جدة وماذا لو تعطل الثاني في عرض البحر ؟، لم يحاول صاحبنا الاجتهاد في الإجابة على هذه الأسئلة لكنه وصل لقناعة مفادها أن حلم الوصول لا زال بعيدا وعليه استدعاء المزيد من الصبر ليقوي على تحمل بقية هذه الرحلة ( المهببة ).عاد إلى (الكافتيريا) لتناول شاي الصباح وعساه يضيع بعض الوقت بين شاي وقهوة وفطور حتى ينكسر هذا النهار الطويل، وجد بالكافتيريا شيء من الزحمة وما يشبه طابور وشخص واحد يقدم الوجبات والشاي والقهوة في آن واحد ، وعلى وجهة تكشيرة وصرامة توحي للزبائن أنهم( شحادين ) وليسوا عملاء يشترون كاس الشاي بما يعادل سعره في فنادق الخمس نجوم ، وقف في مؤخرة الصف غير عابئ بما سيضيع من وقت في ذلك وهو من يبحث عن وسائل قتل الوقت ، إلى أن جاء دوره وتناول كوب الشاي بعد أن وضعه ذلك العامل المتجهم الوجه بقوة وقسوة على (الكاونتر ) مما جعل الكوب يهتز ويفقد نصف ما بداخله من شاي . حمل كوبه وجلس في الكراسي عله يجد ما يؤنسه في التلفزيون لكنه فوجئ بأنه مغلق وكل الجالسين في (الكافتيريا) يلوذون في صمت عميق وبعضهم يتثاءب وآخرين يجربون تشغيل هواتفهم الجوالة عساها تلتقط شبكة السودان . فراح صاحبنا في رحلة استغراقه المعهودة في مشاكله وهمومه وحيرته وبدأ يعيد شريط الذكريات والمواقف وتمر بخاطره الصور والأحداث متزاحمة ، وبدأ يستعد نفسيا لموضوع الوصول وحاجاته التي يمكن أن يجدها قد تكسّرت بسبب ما فُعل بها في حوش باخرة ( باعبود ) في جدة، ولهفته لبناته اللاتي ينتظرن ما يحمله لهن من ( الجلاكسي ) و( الآندومي ) والحاجات الحلوة ، وزوجته التي تستعد نفسيا لاستقبال الثياب الجديدة التي ستدخل بها حلقة الاستعراض في عيد ( الضحية) الذي أوشك على الحلول، ومر بخاطره الكفيل والشركة وعمله الذي سينظره متراكمًا والتأشيرة التي بدأت أيامها تتساقط فأخرج الجواز ونظر إلى تاريخ انتهاء التأشيرة ببصيرته فقط لكون عيناه مشدوهتان في عوالم أخرى ولا شعوريا أعاده إلى مكانه في جيب قميصه الأمامي دون أن يقرا شيئاً، أخذ رشفة من شاي الحليب الذي أمامه فوجده بارداً ومسيخاً فوضعه على الطاولة زاهداً فيه ، مسح ببصره الجالسين على الكراسي عله يجد من يحاوره أو ( يونّسه) فعاد إليه بصره خاسئاً وهو حسير، ولم يجد أمامه خيار سوى النوم جالسا عسى أن يتسرب بعض الوقت ، وفعلا راحت عليه (نومة ) عميقة هذه المرة بسبب الإجهاد ولم يصحو منها إلا على صوت ضوضاء وجلبة شديدة ، ففتح عينيه مذهولا من فراغ الكراسي من الناس .يبدو أن الباخرة وصلت إلى ميناء( فلوريدا) أقصد سواكن وبدأ تدافع الناس على بوابة الخروج مختلطاً بتدافع عمال الميناء للدخول لاصطياد الزبائن واختلط الحابل بالنابل والداخل بالخارج والناس واقفون بممر ضيق وكمية الأوكسجين فيه قليله وأصاب الناس ما يشبه حالة الاختناق وإدارة الباخرة لم تسمح للناس بالخروج وليس هناك شخص معين يمكن الاستفهام منه ، الأجواء غامضة مربكة والجو حار وعمال الشحن والتفريغ تسللوا بقدرة قادر إلى داخل الباخرة وصاحبنا في حالة ذهول كامل مما يحدث ولم يفهم شيئاً حتى هذه اللحظة ، ففرك عينيه بشدة عله يستوضح الموقف ، وبين الحيرة والدهشة والإحباط لم يكن بوسعه سوى الوقوف في آخر طابور العذاب كعادته لأنه ليس ممن تروق لهم مسألة ( المدافرة) كما ذكرنا عنه. ونواصل .