أويت إلى فراشي مبكرا ليلة رأس السنة، خائفا أترقب؛ اصيخ السمع للأصوات التي تتسرب عبر أبوابي ونوافذي الموصدة، فلا يصلني منها إلا صافرات سيارات الشرطة (أو لعلها صافرات الإسعاف، أو موكب مسؤول كبير يتفقد أحوال الرعية، أو لعلها صافرات دوريات قوات مكافحة الاحتفال بليلة رأس السنة). وكانت شوارع الخرطوم قد امتلأت فجأة في الاسبوع المنصرم بمئات الملصقات التي تحذّر، بلون أحمر فاقع، من الاحتفال برأس السنة الميلادية لأن في ذلك تشبّه بالكفّار مما يدخل في دائرة الحرام، ويودي بالمُحتفل إلى نار جهنم وبئس القرار. كذلك حذّرنا خطيب مسجدنا يوم الجمعة الفارطة من الاحتفال ب"عيد" رأس السنة الميلادية (وكافة الأعياد الأخرى غير عيد الفطر وعيد الأضحى) لأن في ذلك تشبّه بالكفار، وهو أمر حرام شرعا، وقال لنا، بالحرف الواحد، أن الكفار يأتون في احتفالهم برأس السنة بكيكة (تورتة) ويقسمونها على المُحتفلين، ثم يقول الواحد منهم، وهو يأكلها:" أنا آكل لحم الرب"، ثم يقول وهو يشرب الخمر: "أنا أشرب دم الرب!" (ولم يقل لنا أين رأى كل ذلك). وفطن الخطيب أننا قد نحتال على تلك الحرمة فنقول أننا تحتفل بعيد استقلال السودان الموافق الأول من يناير، فذكّرنا أن الإستقلال الحقيقي لم يأت بعد ما دُمنا نتشبّه بالكفار، ولا نملك قرارنا بعد: خرج الإستعمار من الباب لكنه دخل من النوافذ كافة. وقد توعدنا الخطيب بالويل والثبور، وعظائم الأمور، وبنار الله الموقدة إن سرنا على نهج أهل الكفر واحتفلنا برأس السنة الميلادية، أو هنأنا بعضنا البعض، أو هنأنا الكفار بذلك اليوم.، أو إن تشبهنا بهم.ولا شك عندي أن خُطب الجمعة في معظم مساجد السودان (ومساجد البلاد السعيدة الأخرى) أخذت نفس المنحى، (فالقلوب العامرة شواهد، وتوارد الخواطر أمر وارد). أصابني أرق حاد ليلة رأس السنة وأنا أتفكر في وعيد خطيب الجمعة، وتحذير الملصقات الحمراء، وخشية النار التي وقودها الناس والحجارة. رفضت في بداية ذلك المساء قطعة الكيك التي أتت مع شاي الغروب، ورفضت عشائي خوفا من أن يُعد ذلك من باب الاحتفال برأس السنة الميلادية. ثم نظرت إلى حاسوبي المحمول وفتحته بيد واجفة (لما في ذلك من تشبه محتمل بالكفار الذين صنعوه لا شك)، وهالني عدد رسائل التهنئة من الأصدقاء والمعارف من شتى أنحاء الدنيا، فأحجمت عن الرد عليها لشبهة الحرام في تبادل التهاني. ثم تذكرت ان الأول من يناير هو رأس السنة المالية لحكومة السودان، وعنّ لي أن انتهز هذه المناسبة الجليلة لمحاسبة النفس حسابا عسيرا ومراجعة أعمالي في مسألة التشبّه بالكفار، والعياذ بالله. نظرت حولي في غرفة نومي، فرأيت أول ما رأيت مروحة السقف، ومكيّف الهواء، والمصباح الكهربائي، وبجانبه هاتفي الجوال "نوكيا" الفنلندي، والمذياع "سوني" الياباني، وتساءلت في توجس :" أفي استخدام كل ذلك تشبّه بالكفار؟" ثم نظرت إلى خزانة ملابسي التي أعلم علم اليقين أنها مليئة بسراويل الفرنجة وألبستهم، وتساءلت:" أفي التزيّي بذلك تشبّه بالكفار؟" ثم نظرت إلى أرضية الغرفة ونوافذها وأبوابها (الصينية)، وطفت بعين خيالي في غرف المنزل الأخرى، بداية بالمطبخ، بثلاجاته ومبرداته ومواقده وأدواته الكهربائية (الأمريكية والفرنسية)، وسألت نفسي :"أفي استخدام واقتناء هذه الأشياء تشبّه بالكفار؟" ثم حلّقت بخيالي فوق المدينة بأبراجها السامقة المُجلّدة بالرخام والألومنيوم والزجاج، وبسياراتها (الكورية) ذات الدفع الرباعي، وإلى شوارع الأسفلت بإشارات مرورها وأضوائها الباهرة، وإلى واجهات المتاجر والمطاعم، وصوالين التجميل وتصفيف الشعر، (ومعظمها، إن لم يكن كلّها، مصنوعة في خارج ديار المسلمين)، وتساءلت في حيرة :"أهذا تشبّه بالكفار؟" غير أن أكثر ما أرّق منامي وعمّق حيرتي هو السؤال:"من هؤلاء الكفار؟ وأين نجدهم؟ هل هم كفار قريش أم بينهم الصينيين واليابانيين والفنلنديين والكوريين والروس والأمريكان والبرازيليين والنمساويين والألمان والتايلانديين الذين نُتاجر معهم، ونستجلب مصنوعاتهم، ونستخدم اختراعاتهم وعقاقيرهم وتقنياتهم، ونقبل مساعداتهم التنموية الفنية والإنسانية، ونسافر إلى بلادهم في طلب العلم والعمل والنزهة والعلاج؟ أفياكلون الطعام ويمشون في الأسواق مثلنا؟ ألهم مثل ما لنا من العيون والآذان والأنوف، أم لهم قرون وأذيال مثل الشياطين؟ أيتألمون ويفرحون وتصيبهم خيبات الأمل والأمراض مثلنا؟ أيكذب بعضهم ويسرق ويزنى ويُنافق ويقتل مثلما يفعل بعضنا، أم أنهم جميعا من الكذابين السارقين المنافقين الزناة القتلة؟كيف نعرف الكفار ونميزهم عن المسلمين؟" وفي انتظار الإجابات على هذه الأسئلة، كل سنة ماليّة وأنتم بخير!