السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جِبَالُ النُّوبَا .. الاِنْجِلِيزِيَّة (الأخيرة)
نشر في سودانيل يوم 04 - 02 - 2009


لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ
(عُزُوفُ صَفْوَةِ جَماعاتِنا القَومِيَّة عَن لُغاتِها المَحلِّيَّةِ وَجْهٌ مِن انفِصامِها عَن الطُّمُوحِ الدِّيمُوقراطِىِّ لِهذِه الجَّمَاعَاتْ)!
بقلم/ كمال الجزولى
(1)
(1/1) تغيير الحركة الشعبيَّة لغة التعليم والتخاطب من العربية إلى الانجليزية فى مناطق إدارتها بجبال النوبا أيقظنا على ضعف تأهُّل الجماعة المستعربة المسلمة لترتيب مساكنتها للآخرين ، وضعف وعى الآخرين بمكوِّناتهم الثقافيَّة ، وضعف جدارة (نيفيشيا) بصون (الوحدة)! وقلنا إن ما ينبغى أن نسمعه ونعقله هو أن صمتنا عن استعلاء التيار (السلطوىِّ) على الآخرين باسمنا يُنتج الآن مشهدهم يثفلون لغتنا كما لطعة الدم من الحلقوم! وتساءلنا عمَّا إذا كان المسئول عن هذا تيار الاستعلاء بيننا ، أم تيار الغفلة عن استحقاقات (الوحدة) بين (الآخرين)!
(1/2) وللاجابة تقصَّينا انحدار غالب الجماعة المستعربة المسلمة من العنصر النوبىِّ فى الشمال والوسط ، وانحدار غالب (الجلابة) من هذه الجماعة حيث بالثروة والدين والثقافة واللغة والعرق تشكل تيار الاستعلاء على العبيد والمزارعين والرعاة وصغار الحِرَفيِّين ضمن التكوينات القوميَّة والقبليَّة فى الجنوب وجبال النوبا وجنوب النيل الأزرق. ولاحظنا أن الاستعمار فاقم المشكلة ، وأن نخبنا التى ورثت السلطة عنه اعتمدت الأسلمة والتعريب كأيديولوجية قامِعة. ولكننا لاحظنا أيضاً انتباهة أقسام واسعة من التيار (العقلانى/التوحيدى) وسط هذه الجماعة لخطورة هذه الخطة ، وأبرزنا ما كان اجترحه الشيوعيون باكراً من معالجات يجدر تطويرها كيلا تتجمَّد فى القوام الشعارى.
(1/3) ثم شدَّدنا على خطورة دور مثقف الهامش من حيث منظومة القيم التى يشتغل عليها داخل الثقافة المحليَّة. ونظرنا فى سيرورة (الوحدة) ضمن أيديولوجيا (السودان الجديد) ما بين (المانيفستو) عام 1983م وإحلال الانجليزيَّة محل العربيَّة عام 2002م ، فلاحظنا علو مكانة (الوحدة) فى (المانيفستو) رغم نزوعه لتفسير (التنوُّع) السودانى بمؤامرة (فرِّق تسُد) الاستعماريَّة. ثم تساءلنا عمَّا إذا كان صحيحاً أن الحركة قد تحوُّلت للاقرار بهذا (التنوُّع) فى ضوء (السياسة اللغويَّة) الجديدة للحركة ، أو ما أسماه مسئولها سايمون كالو (بالثورة اللغويَّة)!
(1/4) ولأن المعيار الموضوعى لسداد أى أيديولوجيا هو قوة حمولتها من الابستمولوجيا ، فقد قادتنا مناقشة هذه السياسة علاوة على استجلاء مفهوم (اللغة) فلسفياً إلى مقاربة الواقع اللغوى لتكوينات النوبا فى عشر مجموعات كبيرة تقوم العربيَّة بينها مقام أداة الاتصال lingua franca ، علاوة على كونها لغة البعض الأصليَّة ، بينما تنحصر الانجليزيَّة فى شريحة ضيقة من المتعلمين ، حسب المسح اللغوى الذى أجراه معهد الدراسات الآفرو آسيوية ابتداءً من العام 1972 1973م وتم نشره فى 1978م.
(2)
(2/1) لكن المؤسف أن حقائق الواقع الموضوعى نفسها قد تخضع أحياناًًً لمنهج المكابرة الغليظة وفق مقتضى الكسب الآنى فى السياسة السياسويَّة! فقد كتبت (خرطوم مونيتر) ، على سبيل المثال ، فى (افتتاحيَّتها editorial) بتاريخ 29/4/04 ، أن "اللغة العربيَّة فشلت ، حتى على أيام المهديَّة ، فى أن تكون أداة تخاطب على المستوى القومى national medium for communication"! وأنها "ظلت تستخدم فقط من جانب بعض القبائل الموالية للعرب والتى احتلت مناطق فى الجزيرة والنيل الأبيض وبعض الجيوب الصغيرة فى غرب السودان"! أما اللغة الانجليزيَّة فقد "أصبحت هى لغة التخاطب فى السودان لفترة طويلة من الزمن بعد سقوط الثورة المهديَّة"! وذلك على حين فشلت العربيَّة "المكتسبة حديثاً فشلاً ذريعاً فى الانتشار عبر كل مساقات الحياة قبل أن ينال السودان استقلاله من البريطانيين والمصريين"! وحتى خلال الفترة التى أعقبت الاستقلال فقد وجد أبراهيم عبود صعوبة فى إنفاذ سياسات التعريب فى الجنوب "لأن كلا الجنوبيين والشماليين كانوا واقعين فى حب اللغة الانجليزيَّة were in love with the English Language"! بل وقد ذهب "الشماليون إلى أبعد من ذلك فألفوا أشعارهم باللغة الانجليزيَّة"! و"لم تستطع العربيَّة أن تحقق قفزة نوعيَّة فى المجالات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والعلميَّة والثقافيَّة فى السودان إلا تحت حكم الانقاذ"! وذلك فى الوقت الذى "هجرت فيه البلاد زبدة الخبرات والعقول التى كانت تشكل مصدر فخرها بسبب عدم إتقان أصحابها للغة العربيَّة التى فرضتها الانقاذ حديثاً"!
(2/2) والآن ، أفلا يحق للمرء ، فور فراغه من مطالعة هذا الكلام العجيب ، أن يتساءل عمَّا إذا كان موضوعه (السودان) حقاً أم (بلد آخر) لم يعرف العربيَّة إلا قبل خمسة عشر عاماً فقط! وما إذا كان كاتبو هذه (الافتتاحيَّة) على دراية ، أصلاً ، بالطبيعة المعقدة لمشكلة الصراع السياسىِّ الناشب حول تركيبة السودان الاثنيَّة المتعدِّدة والمتنوِّعة عرقياً وثقافياً ولغوياً أم أنهم يصدرون عن محض (مُدرَكات perceptions) تحتل الحقيقة الأيديولوجيَّة فيها موقع الحقيقة الابستمولوجيَّة! وما إذا كان مصدر علمهم السودانىِّ هذا حركة الواقع التاريخىِّ الحى لجماهير التكوينات القوميَّة والقبليَّة فى البلاد أم تشهِّيات بعض شرائح الانتلجينسيا النخبويَّة فى الجنوب كما فى الشمال! وإلا فأيَّة إنجليزيَّة تلك التى أصبحت لغة للتخاطب بين الناس فى السودان كله بعد دخول الاستعمار؟! وأىُّ شِعر هذا الذى صار الشماليُّون (هكذا بالألف واللام!) يؤلفونه بالانجليزيَّة؟! وأى حُبٍّ للانجليزيَّة ذاك الذى فوجئ أبراهيم عبود بأن الشماليين والجنوبيين أجمعهم واقعين فيه؟! وأىُّ عقول وخبرات هذى التى هجرت البلاد لعدم إلمامها باللغة العربيَّة التى فرضتها الانقاذ (حديثاً)؟! (2/3) إننا لا نشك مطلقاً فى أن جماعات جنوبيَّة كثيرة فى (الحركة الشعبيَّة) وفى (خرطوم مونيتور) وغيرهما مناضلون ولهم قضيَّة ويؤثرون فى ذهنيَّة أقسام وقطاعات واسعة من الانتلجينسيا الجنوبيَّة. لكننا ، فى هذه الناحية ، نختلف معهم ، يقيناً ، فى الفكر ، وفى تصوُّر طبيعة القضيَّة ، وفى المنهج النضالى الذى يتبعونه ، ومن ثمَّ فى قيمة الوعى الذى يروِّجون له. فثمة فرق شاسع بين الوعى بالدور التدميرى الذى لعبه تاريخياً تيار الاستعلاء (السلطوى/التفكيكى) وسط الجماعة المستعربة المسلمة ، وبين الدعوة لتدمير ثقافة ولغة هذه الجماعة ذاتهاً ، أى وجودها أصلاً. ولئن كان ثمة تيار ديموقراطى (عقلانى/توحيدى) وسط هذه الجماعة يبغض الاستعلاء ، ويستشعر خطره ، فيناصبه العداء ، ويتصدى لحربه من داخل ثقافة الجماعة ، دفاعاً فى المقام الأول عنها ، وتبرئة لذمتها ، وتنقية لها من هذه السُّبة التاريخية ، وذلك باب فى النضال لو تعلمون عظيم ، فمن الوهم تصوُّر أن هذا التيار الديموقراطى نفسه يمكن أن يقبل بممارسة (الاستعلاء المضاد) على هذه الجماعة ، بل وإلى حد الدعوة لمحو هويتها من (الوجود السودانى) حلاً للمشكلة! هذا أمر لا يستقيم عقلاً ، ولا يُعقل منطقاً ، ولا يخوض فيه غير داعية لفتنة جديدة أو متجانف لهلكة أخرى. فالحل الذى يستبدل استعلاءً باستعلاء ليس حلاً البتة ، وإنما هو ، بكلِّ المقاييس ، وسيلة لإعادة إنتاج الأزمة فى سياق آخر! وإذا كنا نتفهَّم بواعث ردود الأفعال الجمعيَّة للمقموعين ، وسايكلوجيَّتهم الاجتماعيَّة ، فإن هذا ليس بعذر للمؤسسات المسئولة عن بلورة الرأى العام والتأثير فى الوعى الاجتماعى فكرياً وسياسياً ، وبخاصة تلك التى تزعم الانطلاق من مواقع ثوريَّة ، حين تتقاعس عن أداء دورها فى تثوير هذه السايكولوجيَّة وردود أفعالها ، دع أن تتصدى هى نفسها لتوجيه هذه الانفعالات فى الاتجاه الخاطئ.
(2/4) إن وجود الجماعة المستعربة المسلمة فى السودان ، بهويِّتها الدينيَّة واللغويَّة والثقافيَّة ، ليس (اقتراحاً) مطروحاً للنقاش ، بل هو إحدى حقائق الحياة السودانيَّة التى لا يجوز إسقاطها لدى أىِّ حل ديموقراطىٍّ سلمىٍّ لمشكلتنا الوطنيَّة ، تماماً كحقيقة وجود التكوينات الاثنيَّة الأخرى غير المستعربة وغير المسلمة. ولكن ثمة مدخلين متضادَّين ، مع ذلك ، للوعى بهذه الحقيقة: فمن جانب هناك مدخل (الوعى الموضوعى) ، مدخل (العقلانيين/التوحيديين) من كل تكوينات البلاد الاثنيَّة ، يتطلعون لأن يشيِّدوا فوق هذه الحقيقة صرح وحدة مرموقة ، طوعيَّة وجاذبة ، تتساوى فيها حقوق الجميع وواجباتهم كما تتساوى أسنان المشط ، ويتنشأون ، جيلاً بعد جيل ، على الاقرار التلقائىِّ الجهير بهويَّات بعضهم البعض ، فلا يستعلى عِرق منهم على عِرق ، ولا دين على دين ، ولا ثقافة على ثقافة ، ولا لغة على لغة ، دون أن يكون ثمن هذا الوعى (إستقالة) الجماعة المستعربة المسلمة من (الوجود) ، أو (انسحابها) من حركة (التاريخ) ، أو (محوها) من منظومة (التنوُّع) السودانى ، فجدل (التنوُّع) ذاته يفترض وجود هذه الجماعة ضربة لازب. أما من الجانب الآخر فهناك مدخل (الوعى الزائف) ، وهو مدخل (السلطويين/التفكيكيين) فى هذه الجماعة ، يحلقون بأجنحة من الشمع تحت شمس هذه الحقيقة الساطعة ، متوهِّمين فيها زاداً لتأبيد سطوتهم بلا مُسَوِّغ ، ومَدداً لتكريس استعلائهم دونما استحقاق. وواجب الوطنيين الديموقراطيين من مختلف التكوينات الاثنيَّة التضامن لمجابهتهم باستقامة ، لا تشويه الصراع باختلاق أو تشجيع (الاستعلاء المضاد) الذى نخشى أنه يستشرى الآن كالوباء فى جسد الهامش المناضل كله ، لا فى الجبال وحدها أو الجنوب وحده ، فقد لاحظنا أن د. شريف حرير الذى شارك باسم التحالف الفيدرالى فى مفاوضات انجمينا مع الحكومة لوقف إطلاق النار فى 10/4/04 تعمَّد تقديم مطالب الفور .. بالانجليزيَّة!
(3)
(3/1) خلطت (خرطوم مونيتور) بين سداد دعوتها لاستعادة العناية القديمة بتعليم اللغة الانجليزيَّة فى المدارس والجامعات ، كأداة للانفتاح على علوم الغرب ، وترميم ما تسبَّبت فيه سياسات الانقاذ غير الرشيدة فى هذا المجال ، وهو ما نتفق معها حوله بصورة عامة ، وبين خطل مناداتها بإحلال الانجليزيَّة محل العربيَّة كأداة للتخاطب medium of communication فى عموم السودان ، مِمَّا يشى ضمناً بتأييدها لقرار الحركة الشعبيَّة ، لا بتغيير لغة التعليم فحسب ، بل ولغة (التخاطب) أيضاً من العربية إلى الانجليزية فى مناطق إدارتها بجبال النوبا. (3/2) وإذا كنا نتحدث عن الوحدة كاستراتيجيَّة وطنيَّة ديموقراطيَّة ، فإن من أهمِّ مقوِّماتها (اللغة) التى تشكل (أداة التواصل lingua franca) بين مختلف المكوِّنات الاثنيَّة. ولعل مِمَّا يَتيَسَّر استنتاجه من المسح اللغوى المار ذكره أن العربية المحوَّرة بفعل المثاقفة ، والتى ظلت تلعب دور أداة التواصل بين مختلف المجموعات اللغوية فى الجبال نفسها ، ناهيك عن أن البعض هناك يعتبرها لغته الأصلية ، هى نفسها التى ظلت تلعب ذات الدور بين مجموعات الجبال اللغويَّة من جهة ، والتكوين المستعرب من جهة أخرى ، وبقيَّة التكوينات الاثنيَّة بشروطها المماثلة على نطاق القطر كله من جهة ثالثة. ولعل الوضع اللغوى لدى تكوينات الجنوب القوميَّة والقبليَّة يقدم أيضاً مثالاً ساطعاً آخر على توطن ضرب من العربيَّة (عربى جوبا) كأداة للتواصل فى ما بينها هى نفسها ، من جهة ، وفى ما بينها مجتمعة وبين بقيَّة التكوينات الاثنيَّة فى البلاد من الجهة الأخرى. ولئن كانت اللغه تنتشر بفعل عوامل شتى ، كالدين أو التجارة أو تبنيها من جانب الحكام أو ما إلى ذلك ، فإن المعطى التاريخى العيانى الماثل والذى لا تجوز المكابرة فيه هو أن العربيَّة ، فصيحة أو عاميَّة أو محوَّرة ، وبنموذج أم درمان أو جوبا أو الدلنج .. الخ ، تكرَّست فى ما بيننا أداة للتواصل المطلوب على رأس المقوِّمات التى نحتاجها لتحقيق حلمنا بوطن ديموقراطىٍّ متنوِّع فى وحدته. وهى ، من قبل ومن بعد ، لغة أفريقيَّة يتحدثها ما لا يقل عن 60% من سكان القارة. فما حاجتنا لإحلال الانجليزيَّة محلها كأداة لا تساعدنا على وصل ما بيننا ، بل تفصم ما تبقى من عراه؟!
(3/3) ومع ذلك فليت قرار الحركة اتجه لتدوين لغات المجموعات النوباويَّة المختلفة لاستخدامها فى تطوير ثقافاتها ، وكأداة لتعليم أبنائها ولو خلال سنوات المرحلة الابتدائيَّة ، ولإحلال أكثرها انتشاراً محل العربيَّة كلغة للتخاطب فى ما بين مجموعات الجبال المختلفة ، مع الابقاء على العربيَّة ، كما فى السابق ، لغة للتواصل بين هذه التكوينات مجتمعة وبين بقيَّة التكوينات الاثنيَّة السودانيَّة. تلك على الأقل خطة أقرب للارادة الشعبيَّة التى أنتجت واستقبلت واستخدمت هذه اللغات ، علاوة على كونها تدفع باتجاه أحد أنبل الأهداف الوطنيَّة الديموقراطيَّة: الإقرار بالحق فى التميُّز الثقافى. وهى ليست خطة منبتة بلا سابقة ، فثمة نموذج لها اختطه جوزيف قرنق على أيام توليه وزارة شئون الجنوب مطلع السبعينات ولم يمهله الاعدام لإكماله ، حيث كان قد حث مستشاره الفنى للتدريب والتعليم أن يدرس إمكانية تبنى لغة من لغات الجنوب ، كالدينكا مثلاً ، لتكون لغة الاقليم القومية ، وأن يحدِّد العوامل الجديرة بالاعتبار لتلك الغاية ، وأن يستقرئ النتائج الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى ستترتب على ذلك فى القطر وفى الاقليم ، وردَّ الفعل المتوقع من الجنوبيين الذين يتكلمون لغات أخرى ، وأن يدرس كذلك إمكانية اختيار أكثر من لغة لهذا الغرض (عبد الله على ابراهيم ، 2001م). فكيف غابت عن صانعى قرار الحركة الشعبيَّة وعن كاتبى افتتاحيَّة (خرطوم مونيتر) أدنى ملامح هذا السداد فى اجتهاد النظر والعمل؟! أَليس من شأن مثل هذا القرار أن يسهم فى طمر اللغات التى تشكل الذاكرة الثقافيَّة التاريخيَّة لتكوينات (الهامش) القوميَّة التى تدافع كلا المؤسَّستين عنها؟!
(3/4) ولكم وددت ، فى هذا الختام ، لو أننى عثرت على إجابة أخف مرارة مما فى أطروحة د. عبد الله على ابراهيم (الماركسيَّة ومسألة اللغة فى السودان) ، حيث يرى أن المكوِّن الثقافى لجماعاتنا القوميَّة/القبليَّة غير العربيَّة هو أقل العناصر وعياً بذاته فى عمليَّة اليقظة ، ويدلل على ذلك بضآلة شأن اللغات المحليَّة عند المتكلمين بها من الصفوة التى أثبتت فى أكثر من مناسبة عزوفها التام عنها ، إلى حدِّ التفكير أحياناً حتى فى إحلال السواحيليَّة محلها ، كوجه من وجوه انفصامها الحقيقى عن الطموح الديموقراطى الأساسى لهذه الجماعات. إنتهت إجابة عبد الله ، ولمن أراد استزادة أن يلتمسها فى المصدر. غير أننا نضيف ملمحاً آخر لهوان هذه اللغات على هذه الصفوة حتى أهملتها المحافل الاقليميَّة التى يفترض أن تعنى بحق التعدُّد اللغوى فى بلدان المنطقة. فقد انعقد ببيروت ، خلال الفترة بين 19 22 مارس الماضى ، المنتدى المدنى الأول الموازى للقمَّة العربيَّة ، وأصدر توصياته تحت عنوان (الاستقلال الثانى: نحو مبادرة للاصلاح السياسى فى الدول العربيَّة). وعلى حين لم ترد كلمة واحدة فيه عن اللغات والثقافات السودانيَّة إنصب اهتمامه على "ضرورة الاعتراف بالحقوق اللغويَّة والثقافيَّة الأمازيغيَّة في بلدان المغرب العربى ، واعتبارها أحد مكونات الثقافة الوطنيَّة ، على أساس المساواة وحق المواطنة واحترام حقوق الإنسان والشراكة في الوطن". ولا عتب على المنتدى ، فقد نهضت للأمازيقية حركة تذود عن حياضها ، بينما حركة الهامش لدينا مشغولة بإحلال الانجليزيَّة محل العربيَّة!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.