jamal ibrahim [[email protected]] فما حاولتُ في أرضٍ مُقاما ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا على قلَقٍ كأنّ الرّيح تَحتي أوجّهها يميْناً أو شمَالا (المتنبي) ( 1 ) كان ذلك في خواتيم عام 2005، حين سألني صديقي دكتور حيدر ابراهيم ، إن كان ممكناً أن اساعد في حصول الشاعر محمود درويش على تأشيرة الدخول إلى السودان ، أجبته أن ذلك لن يكون من باب المجاملة ، بل هو من واجبي كمسئول عن الإعلام في وزارة الخارجية ، وأتابع مثل هذه الزيارات المهمة ، وأن زائراً بحجم ومكانة الشاعر الضخم محمود درويش ، تنفتح له أبواب القلوب قبل أبواب الحدود ، ومداخل المطارات . كنت أعرف أن درويش يقيم بين رام الله وعمان . لا أعرف نوع جواز سفره ولا أي جهة أصدرته . لم يكن ذلك يعنيني في شيء . قال لي حيدر ابراهيم : إن الرجل موجود الآن في بيروت . أبرقت سفيرنا هناك آنذاك ، الصديق السفير سيد أحمد البخيت ، ولم يأخذ الأمر سوى ساعات ، بعدها كانت التأشيرة على جواز سفر الشاعر الفلسطيني الكبير . الرجل المبدع الذي نفذ بشعره إلى عمق القلب العربي ، واستوطنت بقصائده في الأوردة مع الجراح النازف منذ 1948 ، دخل إذاً إلى السودان زائرا . الوعي السوداني بالقضية بدأ قبل عام 1948 ، تاريخ ميلاد المظلمة الفلسطينية ، وعام الإظلام القسري للضمير الانساني ، وغيبة العدل الدولي إلى أجلٍ لم يسمَ . قاتل السودانيون في حرب 1948 . وسمعنا وقت العدوان الأخير المدمر على قطاع غزة في خواتيم عام 2008، أن ضاحية هناك تحمل إسم "السودانية" ،كانت هدفاً اسرائيليا أيضا . لم تكن إذاً دموع نساء السودان التي شاهدناها على الفضائيات ، بلا مرجعية . قبيل الأمسية الأولى لدرويش ، دعاني صديقي الشاب الأديب طلال عفيفي لأمسية خاصة في دارهم بالخرطوم بحري ، مع الشاعر درويش ولفيف من الأصدقاء . كان ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد. ." بيدي حين لاقيته . وقّع عليه مبتسماً وقلت له أن نسختي وصلتني من بيروت فور صدورها قبل شهر ، من صديقة مقيمة في بيروت . الخرطوم لم تقطع صلاتها القوية مع بيروت حتى وإن انقطعت عنا "الميدل ايست " التي كانت تحمل طائراتها من لبنان ، البشر وأيضا التفاح اللبناني ، ولكن أهم من كل ذلك كانت حمولها الثقافية لا تخطئها عين . . نزل المقال في ذات اليوم الذي حدثته فيه عنه والذي رحبت فيه بديوانه "كزهر اللوز أو أبعد. ." ، وقلت له إنه فتح جديد في مسيرة الشاعر والشعر . رأيت في الديوان، اختزالاً ذكياً للمسافة الفاصلة بين الشعر والنثر . قرأت في الديوان كيف نظر في كتاب أبي حيان التوحيدي ، وكيف استصحب نظرته لمقاربة الشعر والنثر ، تبايناً بين الفطرة والصنعة . كنت في صبيحة ذلك اليوم قد دفعت بالمقال لصحيفة خرطومية نشرته قبيل أمسيته الشعرية في قاعة الشارقة . تلك أمسية لا تقاس بمعايير الزمن العادي ، بل تقاس بتواتر الدهشة شهقة وراء شهقة ، واندياح الانبهار خطفة بصرٍ وراء خطفة . قرأ في مقالي كلامي عن "الجميلات" ، القصيدة الفريدة التي أبرزتها من ديوانه وأشرت اليها في مقالي . في أمسيته التالية في جامعة الأحفاد بأم درمان ، التقط الإشارة ، فكانت قصيدة "الجميلات" اختياره الموفق في تلك الأمسية . . ( 2 ) في بيروت تشاء الأقدار أن يكون حفل توقيع ديوانه الأخير قبل يوم من حفل توقيع مجموعتي الشعرية الأولى: "امرأة البحر أنت.." . التقينا في أمسيته قبيل التوقيع وتبادلنا ذكريات زيارته للخرطوم وتحاياه لدكتور حيدر ابراهيم منوهاً بالدفء الذي شمله في الخرطوم ، ومجدداً اعجابه بجمهوره في السوداني وانبهاره بالترحيب المميز والأذن الشعرية الرائعة في الخرطوم . بعد أن ألقى مقاطع من قصيدته الفريدة "الجدارية " : هذا البحر لي هذا الهواءُ الرطب لي هذا الرصيفُ وما عليه من خطاي وسائلي المنويّ .. لي ومحطةً الباص القديمة لي . ولي شبحي وصاحبُه . وآنيةُ النحاس وآيةُ الكُرسيّ، والمفتاحُ لي .. خرجنا جميعاً إلى حيث سيوقع مجموعته الأخيرة في جناح الصديق الكبير الأستاذ رياض نجيب الريس ، ناشر معظم دواوينه الأخيرة . أمسك بيدي والزحام يمنعنا من النفاذ عبر الباب المفضي إلى صالات عرض الكتب . قلت له مداعباً ، هيا اهتف هنا : الباب لي . . ! تفتح لك الجموع طريقاً .. ! ضحك الشاعر ملء شدقيه . كنت أسترجع القائه الباهر لقصيدة "الجدارية " . آه كم هو ثقيل موعد الرحيل . لا أجرؤ على مطالعة "الجدارية" إلا ويغالبني حزن طاغ ٍ ودمعات معلقة . لقد أعلن انه راحل بلا عودة . يقول درويش في القصيدة : هذا البحرُ لي هذا الهواءُ الرّطبُ لي واسْمي – وإنْ أخطأت لفظَ اسمي على التابوتِ – لي . أمَا انا - وقد امْتلأتُ بكلِ أسبابِ الرّحيلِ – فلست ُ لي . أنا لستُ لي أنا لستُ لي . . . ( 3 ) شَغَلتْ الشاعرُ ، أخريات أيامه ، مشاغلُ الشعر ومغامرات اللغة الحميمة واكتشاف المقاربة بين الشعر والنثر ، فيما رأيت . أكثر ولعه - أخريات ايامه - قد انصبّ على التجريب في اللغة والنظم ، وأخذَته هواجسُ التجديد الشعري واللغوي مأخذاً بعيداً . لم يكن درويش "حيواناً سياسيا" ، بل كان "حيوانا شعرياً " ، حتى وهو في أوج تخمته بالقضية ، متحدثا بصوتها عضواً في اللجنة المركزية ، فقد كان شعره حاضراً في صياغة بياناتها ، ماثلة هي القضية في قلب كل عربي يحمل جراحه الحضاري منذ عقود تتمدد في الزمان ، بلا مخرج أو حل . هرب درويش من السياسة وهرب أكثر بعيداً عن منظمة التحرير ، بل وأبعد من امانة الجامعة العربية . نفد بجلده وقلمه من علل العروبة ومن أزماتها الخانقة ، وآثر في لحظة ما من تاريخه الشخصي ، أن ينشيء مجلة للثقافة والشعر ، فكانت "الكرمل". لم تهضمه السياسة وشئون إدارتها ، على عظم ضغوطها عليه ، ولم يهضمها هو . لم يكن هروبه المعنوي ابتعادا عن حلمه الكبير في العودة إلى أرض الخروج . بقيت في دواخله حية تنبض ، تلك القوقعة التي احتضنت لؤلؤة الشعر في ذاكرة الطفولة التي خرجت قسرا من قريته "البروة" ، وهو لم يتجاوز السابعة من عمره . وانقل عن الفيلسوف الفرنسي بلاشار في كتابه " جماليات المكان "(ترجمة غالب هلسا – بيروت 2006)، قوله : "ان وظيفة الشعر الكبرى ، هي ان يجعلنا نستعيد مواقف أحلامنا . فالبيت الذي ولدنا فيه هو أكثر من مجرد تجسيد للمأوى ، هو تجسيد للأحلام كذلك ". الذي لفت نظري أن درويش تراجع رويداً رويدا من محاصرة السياسة لشعره ، لكنه دلف إلى السياسة من الأبواب التي اختارها لنفسه وبنفسه المبدعة ، يصنع تجلياتها صياغات ونظما شعرياً بديعاً. رأى الشاعر الصحفي اللبناني عباس بيضون ، أن الهاجس الفلسطيني بدا ضامراً في ابداع درويش الشعري الأخير ، لكنه يقر أنه "أسس زعامة" شعرية لافتة . أشرع أسلحة اللغة واصطنع لنفسه نفَسَاً شعرياً مميزاً ، بناه من واقع مأساوي حرمه من نعمة الوطن ومنحه وطناً افتراضيا بديلاً ، أقام في فضائه مع المتنبي وأبي تمام وأخيراً مع التوحيدي . تزامن خروجه ودخوله من الباب الذي اختار مع تدهور صحته وانعطاب قلبه ، إذ رأى الموت يغازله جهاراً ويتحرش به أن لو أراده يوما سيجده . في عملية القلب التي أجريت له في باريس عام 1998 ، تبلور عمله الابداعي "الجدارية " . ( 4 ) لو جاز لنا أن نختار لعصرنا "متنبياً "، لما ترددنا في اختيار درويش . إن كنا لا نرى تشابهاً بين شعره وشعر ذياك الشاعر العربي الضخم ، فإن درويش قد ملك ناصية الشعر الحديث ، وجدد أوزانه وقوافيه وبحوره . لعله أكثر الناجحين في الخروج بيسرٍ على بحور الخليل ثم الدخول إليها في يسر ، بل وفي استزراع القافية في ثنايا القصيدة ،لا في خاتمة عجز البيت . أحدث درويش فتوحاً في شكل البيت وشكل القصيدة برمتها ، كما في مضامينها ومعانيها ، وقربها إلى جمهوره العربي العريض. أما عن الموضوع ، فتلك قضيته التي أفلح في الباسها – على مأساويتها في مستوييها العام والشخصي- لبوس الابداع الجاذب الممتع . كتب الأديب الياس خوري الذي أنجز الديوان الأخير للراحل درويش بعد وفاته ، أنه لاحظ ان حمّى الشعر استغرقت الراحل ، إذ عكف عليه وانقطع إليه ونفض يديه عن أي نشاط آخر عداه . كأن "الجدارية" التي نظمها عام 1999 صارت المحطة الأخيرة والأخطر في حياته ، والتي أحدثت انقلاباً ابداعياً مدوياً في مسيرته . من منا لم يلحظ انشغال الراحل بفكرة الموت التي تملكته حتى آخر شهقة في هذي القصيدة التي لم يرد لها أن تنتهي ؟ لقد جعل الموت يتسلل إلى كل قصائده الخيرة ، هكذا كتب الياس خوري ، وهو يرتب القصائد الأخيرة للشاعر بعد رحيله لتخرج في ديوان : "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي . .".(2009 ، بيروت - رياض الريس للكتب ) . أمسك خوري قصائد الموت بيديه . كان مثل خبير المكياج يحمل فرشاته وأمشاطه وألوانه يزين عروسة الشعر لتخرج قبيل زفافها ، بالغة الحسن وفي أقصى حالات الزهو ، استهلالاً لزواج الخلود المرتقب : يقول درويش في مفتتح قصيدته "لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي " : يقول لها وهما ينظران الى وردةٍ تجرحُ الحائطَ : اقتربَ الموتُ مني قليلاً فقلتُ له : كان ليلي طويلاً فلا تحجب الشمسَ عنّي ! وأهديتُه وردة ً مثلَ تلك . . . فأدّى تحيتهُ العسكرية للغيب ِ، ثم استدارَ وقال : إذا ما أردتكَ يوماً وجدتك فاذهبْ ! ذهبْت ُ . . . ( 5 ) أراد القدر لدرويش أن يخرج من أرضٍ صارت وطناً مصنوعاً لغيره . ثم أراد له القدر أن تخرج عافية قلبه الكبير من جسده ، فلا يجد ملاذاً آمنا يحتضن حلمه ، ولا فردوساً ينفتح للشاعر الطفل ، المسكون بنزق الحياة ، المستوحش في لغة الشعر ، يطلب أن يبتكر حياته فيها من جديد ، فلا يرى حوله إلا مقاومة تتكسر نصالها فلا نصير ينصر ، ولا حليف يؤازر ولا شقيق يعين ،له الله . كيف يمسك إذاً بخيوط الحياة ، وهي أوهى من خيوط العناكب ، فيوائم بين تاريخ مهزوم وجغرافيا غائبة . . ؟ وقف في رحيله السرمدي شاهداً على اضمحلال الحلم ، وتسافُه طغاةٍ يتساقون دماء أطفال الحجارة ، وكأنهم يكترعون خمراً مسكرا . يا لشراهة القتلة ! صار وأد الأحلام هواية العابثين بأقدار الشعوب ، الدائسين بثقيل أحذيتهم حضارات عمّرت الأرض وسمقت إلى السماء بموحيات السماء . حيث ولد العدل السماوي في البقاع المقدسة ، ترى الظلم بعينيك يتساقط كما النيازك من سموات لوّنها اليهود بمطر الدم وعصف المذابح . ليس غريباً أن يتزامن رحيل درويش مع تمارين القتل وجولات الدمار ، التي أهدر خلالها غاشمٌ اسرائيلي دماء أطفال غزة ونسائها ، بعد أشهر ثلاث من رحيله . لكأن الشاعر في رؤيا رحيله ، خجل أن يشهد تواطؤنا وانكسارنا ، فغادر عجلاً . تربص به الموت ووجده ، تماماً كما جاء في الوعد الذي قطعه الموت في قصيدته الأخيرة .. كنت أيها الراحل عاصفة شعرية ، مثلما كنت وعداً ورعداً في سماء القضية ، ولأن الضمائر لن تنكسر ، ففي ذكرى رحيلك لن تضمحل العواصف ، وعلى قول المتنبي فالريح تحت قدميك وأنت في السموات العلى ، فلتهنأ أيها الراحل الكبير ، إذ أن القصيدة التي بدأتها لن تنتهي . لن تنتهي . . الخرطوم – 8/8/2009