لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ (عدَدْنا لِسَانَنا "لُغَةً" وأَلسِنَتَهُم "رُطَانَةً" فاسْتَعْصَمُوا بِالبُعْدِ عَنَّا)! كمال الجزولى (1) (1/1) عرضنا فى الحلقة الماضية لتقريرين صحفيين من (كودى) التابعة لإدارة الحركة الشعبية بجبال النوبا: أحدهما لمراسل (الواشنطن بوست) والآخر لمراسل (AFP) ، وكلاهما يدور حول النقلة الجارية هناك من العربية إلى الانجليزية فى التعليم والتخاطب بقرار صادر فى 2001م من سلطات الحكم المحلى للحركة! واستند كلا المراسلين على مشاهداتهما وحواراتهما مع الدارسين ومع المعلمين الكينيين واليوغنديين ليؤكدا أن النقلة التى تساهم فيها (اليونيسيف!) تحظى بتأييد المواطنين الذين يقولون إنهم أفارقة وإن العربية ليست لغتهم ولهذا فإنهم لا يريدونها بعد اليوم! (1/2) أوحى لنا التقريران ، أكثر من أى وقت مضى ، بأن الجماعة المستعربة المسلمة فى السودان لم تتأهَّل بعد للتواضع مع الآخرين على ترتيبات التساكن المتنوُّع فى الوطن ، لافتقارها للمقوِّمات التى تجعلها تستقيم هى نفسها على صراط التعدُّد المتوحِّد بين مكوِّناتها أولاً ، قبل أن تتصدى لتدبير هذا التساكن ، وأن الآخرين ، من جانبهم ، أعمق توحُّلاً فى هذا المأزق ، لجهة ما تعانى مكوِّناتهم الثقافيَّة تاريخياً من ضعف مزمن فى الوعى بذاتها. وخلصنا من ذلك إلى أن مفاصلة (التشاشة) المستعرة على (السلطة والثروة) بين طرفى (نيفاشا) ، منذ حين ، إنما تفرِّط فى القضية الأساسية: (الوحدة) ، عن قصد أو عن غفلة .. سيَّان! (1/3) وقلنا إنه ، وبصرف النظر عمَّا يمكن رصده فى التقريرين من تناقض هنا أو تزيُّد هناك ، فإن ما ينبغى أن نسمعه ونعقله جيداً هو أن الجذر الأساسى لحقيقتهما العيانية قائم فى ما آلت إليه كلا العربية وحمولتها من ثقافة الجماعة المستعربة المسلمة ، بفعل تحوُّلهما ، علاوة على الدين والعِرق ، إلى أسلحة يفرض بها التيار العروبىُّ الاسلاموىُّ السلطوىُّ استعلاءه على الآخرين ، حتى استيقظت الجماعة كلها على آخر كابوس كانت تنتظره: أن يثفل الآخرون لغتها كما لطعة الدم من الحلقوم! فتساءلنا عمَّن يُسائِل التاريخ عن هذا المآل: تيار الاستعلاء من سلطنة (الكَكَر) إلى سلطة (الجبهة) ، يتوهَّم قدس الأقداس عنده (أسلمة) الآخرين و(تعريبهم)؟! أم تيار الغفلة عن استحقاقات (الوحدة) كضرورة موضوعيَّة ، من (أنيانيا وَنْ) إلى (الحركة الشعبيَّة) ، يتوهَّم أن (استعلاء الجلابة) البغيض لن ينثلِمَ بغير (استعلاء الهامش) المضاد ، حتى لو اقتضى الأمر الاستقواء بالعامل (الخارجى) ، سياسة كان أم ثقافة أم .. لغة؟! وفى ما يلى نواصل: (2) الاجابة ، قطعاً ، ليست بذات السهولة التى يمكن أن ينطرح بها السؤال ، بل قد تستلزم مبحثاً كاملاً على درجة عالية من التمكث والتعقيد فى الاقتصاد السياسى للعلاقات الاثنيَّة فى السودان. على أننا سنقتصر هنا ، ولأغراض هذه المقالة القصيرة ، على الاشارة لبعض ذلك على النحو الآتى: (2/1) تنتسب غالبيَّة الجماعة المستعربة المسلمة ، بثقلها الاقتصادى السياسى والاجتماعى الثقافى فى بلادنا ، إلى العنصر النوبىِّ (النوبىِّ لا النوباوىِّ) المنتشر على امتداد الرقعة الجغرافية من أقاصى الشمال إلى مثلث الوسط الذهبى (الخرطوم كوستى سنار) ، وهو العنصر الذى ينتمى إليه غالب (الجلابة) ، أو الطبقات والشرائح الاجتماعية التى تمكنت ، منذ خمسة قرون ، من تركيز الجزء الأكبر من الثروة فى أيديها (ساندرا هيل ضمن ب. ودوارد ، 2002م) ، والتى تَشكَّلَ فى رحمها ، تاريخياً ، التيار (السلطوى) المستعلى على الآخرين فى الوطن بعِرق (العرب!) ودين وثقافة (الاسلام) ، بالاضافة إلى اللغة العربية بطبيعة الحال. فعلى الرغم من الأصول النوبيَّة لهذه القوى الاجتماعية ، إلا أن ثقافتها والهوية التى تستبطن الوعى بها ليست نوبيَّة بأىِّ معنى ، فهى تقدم نفسها كنموذج (قومىٍّ) ] أو ثقافة (قوميَّة) ترتكز إلى اللغة العربيَّة والثقافة العربيَّة الاسلاميَّة والدين الاسلامى ، فى حين أنها لا تمثل ، فى الواقع ، نموذجاً (قوميَّاً) أو ثقافة (قوميَّة) كليَّة تعبِّر عن (مجموع) الثقافات السودانيَّة ، أو منظومة (التنوُّع) السودانى ، "بل تعبِّر فقط عن ادراك وفهم نيلىٍّ شمالىٍّ لهذه الهويَّة السودانيَّة الصاعدة" (دورنبوس ، فى بارنت وكريم ضمن المصدر). (2/2) شكَّلت مراكمة الثروة فى أيدى (الجلابة) ، إذن ، الخلفيَّة التاريخيَّة لنشأة التيار الاستعلائى السلطوى وسطهم ، وتمكينه من فرض نمط (تديُّنه) والمستوى الذى يناسبه من الثقافة العربيَّة واللغة العربيَّة. ولأنه ليس من أهداف هذه المقالة ، بل ليس فى وسعها ، تتبع السيرورة التاريخية الطويلة التى أنتجت رأسماليَّة المستعربين المسلمين الطفيليَّة الراهنة ، فإننا نكتفى بالاشارة هنا إلى أهم محطاتها ، كالدفعة الكبيرة التى وجدتها ، مثلاً ، من الادارة البريطانية (1898م 1955م) ، عندما احتاجت هذه الأخيرة إلى خلق (المؤسسة السودانية) الداعمة لها من شريحة كبار التجار مِمَّن مكَّنتهم خدمتهم لرأس المال الأجنبى فى السوق المحلى ، وقتها ، من مراكمة ثروات أعادوا استثمارها ، بشكل رئيس ، فى مجال الاستيراد والتصدير ، أو فى بعض الصناعات التحويلية الخفيفة ، فى مرحلة ما بعد الاستقلال (ت. نبلوك ، 1990م) ، قبل أن يتفرَّغوا نهائياً ، منذ أواخر سبعينات القرن الماضى ، للمضاربة فى العقارات والعملات .. الخ ، بالاضافة إلى الأرستقراطية القبلية والطائفية التى جرى تمكينها من التصرف فى الأراضى والثروات ، والشرائح العليا من بواكير خريجى (الكليَّة) الذين لعبت دخولهم العالية دوراً مهماً فى تشكيل نزعاتهم المحافظة. ولكن يعنينا ، مع ذلك ، لفت الانتباه إلى الأهميَّة التاريخيَّة الاستثنائيَّة التى يكتسيها التكوين الأوَّلىُّ الباكر للفئات والشرائح الاجتماعية العليا ، المنتمية ، بالأساس ، إلى الجماعة المستعربة المسلمة ، فى عقابيل انهيار الممالك المسيحية وتأسيس (مملكة سنار) ، وبالأخص فى ملابسات النشأة الأولى لنظام التجارة البسيط على نمط التشكيلة ما قبل الرأسمالية منذ مطلع القرن السادس عشر (ك. بولانى ضمن: ت. نبلوك ، 1990م) ، وازدهار التجارة الخارجيَّة تحت إشراف ورعاية السلاطين ، على غرار قوافل التجارة الموسميَّة فى مكة مع بدايات الانقسام الطبقى واكتمال انحلال النظام البدائى خلال القرنين الخامس والسادس الميلاديين (بيلاييف ، 1973م) ، وإلى ذلك اندغام مختلف شرائح التجار والموظفين والفقهاء وقضاة الشرع (أهل العلم الظاهرى) ، أو الطبقة الوسطى قيد التكوين آنذاك ، فى (السلطة الزمنية) من باب الدعم الذى كانوا يقدمونه للطبقة الأرستقراطية العليا من السلاطين والمكوك وحكام الأقاليم ، والفائدة التى كانوا يجنونها من امتيازات التحلق حول المركز السياسى لتلك السلطة بما كانوا يحصلون عليه ويعيدون استثماره تجارياً من أنصبة صغيرة من الذهب والرقيق وخلافه (أوفاهى وسبولدنق والكرسنى والبشرى ضمن ت. نبلوك ، 1990م). (2/3) ولكون المراكمة عمليَّة بطيئة ، بطبيعتها ، ولا تكاد نتائجها تستبين إلا وفق القوانين العامة لحركة التطوُّر التاريخى ، فقد أمكن ، فقط مع خواتيم القرن السابع عشر ومطالع القرن الثامن عشر ، أن يفضى التراكم الكمِّى لتناقضات المصالح المتباينة بين مختلف شرائح التجار إلى تغيُّر كيفى فى النظام التجارى نفسه ، مما أفضى ، على المدى الطويل ، إلى تفكك وانحلال الدولة السنارية ذاتها خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر. ومن أبرز عوامل ذلك تراجع دور السلاطين فى ذلك النظام خلال القرن الثامن عشر ، نتيجة تشجيع التجار الأجانب لصغار التجار المحليين على اقتحام التجارة الخارجية والتعامل بالعملات الأجنبية ، كالدولار الأسبانى ، للانعتاق من الذيلية لتجارة السلطان وتحكمه المطلق فى الأسعار عن طريق تحكمه فى كميات الذهب التى تصل الأسواق ، وانحلال قبضة السلاطين ، نتيجة ذلك ، على أراضى السلطنة بحلول نظام الملكية الخاصة للأراضى محل ملكية الدولة ، فحازها التجار الأثرياء وأصحاب النفوذ ، وجرى تكبيل الرعاة والمزارعين العبيد وأنصاف العبيد بالمزيد من علاقات الانتاج العبودية والاقطاعية المتداخلة (ت. نبلوك ، 1990م) ، بالاضافة إلى تعمُّق التناقض بين عجز السلطة السياسية المفككة ، وبين النمو المتسارع للنشاط التجارى مع تزايد حاجته إلى قوة مركزية تفرض الأمن والاستقرار والسوق الموحَّدة والحدود الجغرافيَّة ، وتحدُّ من عوائق النظام الضريبى المتعدِّد بتعدُّد الأنظمة السياسية فى الاقاليم (القدال ، 2002م). ثم جاء من فوق ذلك كله تفاقم الحركات الانفصالية ، ضغثاً على إبالة ، فى أجواء انقسامات السلطة وصراعات أجنحتها ، مما نجم عنه انسلاخ مناطق بأكملها ، كمنطقة الشايقية ، عن كيان المملكة (ت. نبلوك ، 1990م) ، بل وانطلاق الدعوة الصريحة من مناطق أخرى لمحمد على باشا للتدخل (القدال ، 2002م). (2/4) بالمقابل كانت هناك قوى الانتاج البدوى فى قاع المجتمع ، المُكوَّنة من العبيد ورعاة الإبل والماشية وحِرَفيىِّ الانتاج السلعى الصغير فى القرى ومزارعى الأراضى المطرية والرى الصناعى ، الرازحين بين مطرقة السيطرة المطلقة للسلطان ، وسندان النفوذ الاقتصادى للتجار ، على نظام "الشيل" ، حيناً ، ثم على نظامَىْ "السُّخرة" أو "المشاركة" فى الانتاج ، بحسب الحال ، نتيجة لاستحواز التجار الأثرياء وذوى النفوذ على الأراضى فى مرحلة لاحقة من صراع المصالح ، كما سلفت الاشارة. وتنتسب إلى قاع المجتمع هذا ، بالأساس ، قبائل الجنوب ، وجبال النوبا ، والفونج (جنوب النيل الأزرق) ، والنيل الأبيض ، مِمَّن اعتبروا مورداً رئيساً للرقيق والعاج وسلع أخرى "كانت تنتزع بالقوة .. مما جعل لهذه العملية تأثيراتها السالبة على المناطق المذكورة" (ت. نبلوك ، 1990م). (2/5) وقد كان لا بُدَّ لتلك التأثيرات أن تلقى بظلالها السالبة أيضاً على جبهة الثقافة واللغة. فعلى حين لم يُفض انهيار الممالك المسيحيةً إلى (محو) المسيحية نفسها ، كديانة وثقافة سائدتين ، بضربة واحدة ، كما يعتقد بعض الكتاب خطأ (مثلاً: جعفر بخيت ، 1987م) ، دَعْ عنك الديانات الأفريقية وما يرتبط بها من ثقافات ، كانت قد بدأت فى التشكُّل خصائص الفضاء الروحى لذلك النشاط المادى ، وفق المعايير الثقافيَّة لمؤسسة (الجلابى) السائدة اقتصادياً ، المتمكِّنة سياسيَّاً ، مثلما بدأت فى التكوُّن هوية ما يطلق عليها (الشخصية السودانيَّة) ، من زاوية هذه الثقافة نفسها ، أى شخصية (الجلابى) المنحدرة من العنصر المحلى النوبى المستعرب بتأثير العنصر العربى الذى ظل ينساب داخل الأرض السودانية منذ ما قبل الاسلام ، وبتأثير الثقافة العربية الاسلامية التى ظلت تشق طريقها ، منذ 641م ، عبر المعاهدات ، وعبر عمليات التبادل التجارى ، ثم ، لاحقاً ، بتأثير البعثات الأزهرية ، والفقهاء الذين استقدموا من مصر ، والمتصوفة ومشايخ الطرق الذين قدموا من المشرق والمغرب. ومن أبرز السمات الثقافيَّة الباكرة لشخصيَّة (الجلابى) هذه إكباره ، حدَّ الخوف والتقديس ، (للسلطة الروحية) المتمثلة فى الأولياء والصالحين وشيوخ المتصوِّفة (أهل العلم الباطنى) ، وقدرتهم الخارقة على اجتراح معجزات ترتبط فى الغالب بصيغ (كلاميَّة) ، مِمَّا يُضاعف من ثقة (الجلابى) بلا حدود فى طلاقات هذا السحر الكامن فى لغته وثقافته (راجع "الطبقات" لود ضيف الله) ، ويفاقم ، فى ذات الوقت ، من استهانته بكل ما عداهما من (رطانة) ، واستعلائه بالأخص على العنصر الزنجى. لقد مهَّد ذلك كله لحجاب كثيف بين هذين العنصرين فى الوعى الاجتماعى العام ، حيث استعصم العنصر الزنجى مع لغته وثقافته بالغابة والجبل ، وحدث الشئ نفسه تقريباً فى سلطنة الفور ومملكة تقلى (محمد المكى ، 1969م). (نواصل) الهامش: ] غالباً ما يشيع فى التقليد (الجلابى) استخدام هذه الكلمة وقرينتها (وطنى أو وطنيَّة) بصورة ملتبسة ، وبمدلولات مبهمة ، بخاصة فى حقل السياسة ، وبخاصة أكثر حين يكون المُراد ابتزاز ذهنية ووجدان العامَّة لتسويق أوضاع غير سويَّة (وفاق وطنى ، زى قومى ، شخصيات قوميَّة .. الخ).