منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث: المدنيون في الفاشر يكافحون بالفعل من أجل البقاء على قيد الحياة    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رغم أنفها إبادة.. وإن لم تكن ... بقلم: محمد عبدالله علي التوم*
نشر في سودانيل يوم 16 - 08 - 2009

عندما وقف ديفيد شِن David Shinn السفير الأمريكي السابق والأستاذ الحالي بجامعة جورج واشنطن، أمام لجنة الاعتمادات المالية التابعة لمجلس النواب في الكونغرس الأمريكي في الثاني عشر من مارس في بدايات العام الحالي ليدلي بشهادته حول أولويات السياسة الأمريكية في منطقة القرن الأفريقي، لم تنقصه الشجاعة والجرأة ليعبِّر أمام السادة الشيوخ عن قناعاته وما يراه من مكامن الخلل في السياسة الأمريكية تجاه السودان رغم علمه بما قد يجره عليه ذلك.. لقد تحدث مخاطبا الجلسة قائلاً: "أنا أعلم سلفا- في ضوء الأجواء العدائية السائدة تجاه الخرطوم في هذه البلاد- أن ما سأقوله الآن سيجعلني كمن يقف مصادماً شاحنة ضخمة تسير مسرعة ذلك أنني بهكذا موقف إنما أقف ضد المسلمات المعلومة هنا... ولكن إن كنا نريد أن نتحدث عن سياسة ذات معنى تجاه السودان فلا بد من قول ما يجب قوله: الأمر الأول هو أن نتوقف عن تكرار القول بأن الإبادة الجماعية لا تزال مستمرة في دارفور..
إن ما يحدث الآن ليس إبادة جماعية... إن استخدام لفظ الإبادة الجماعية في وصف الوضع الحالي في دارفور يسبغ على الأمر بعدا عاطفيا يضر بطريقة تعاملنا مع القضية السودانية"، ومضى الرجل إلى القول بحزم يحسد عليه أمام جمع مثل هذا:" لقد حان الوقت للإقرار بأن الوضع في دارفور قد تغير"..
ديفيد شِن لم ينه حديثه عند هذا الحد.. بل عمد للمرة الثانية إلى أن يرمي بقفاز تحديه أمام مسلمات أعضاء الكونغرس مطالباً مباشرة بوجوب إزالة إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب مستشهدا بتقرير وزارة الخارجية الأمريكية نفسه الذي يؤكد تعاون السودان في محاربة الإرهاب.. "إذا فعلنا هذين الأمرين التوقف عن الاستمرار في وصف ما يحدث في دارفور الآن بالإبادة الجماعية وأزلنا إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب عندها فقط سنكون قد بعثنا لحكومة السودان برسالة مؤداها أننا، على الأقل، نقر بوجود واقع مختلف الآن في السودان".. تُرى هل أسمع ديفيد شِن؟
يبدو أن من حسن طالع السفير ديفيد شِن أنه لا يمثل جهة رسمية وحديثه الذي ألقى به أمام أعضاء الكونغرس في نهاية المطاف لا يمثل سوى شخصه... وبالتالي لم يجد ما ذكره كثير اهتمام لدى وسائل الإعلام ولا انبرى له المعارضون والمنتقدون يرمونه بسهام ألسنتهم واتهاماتهم..
ولكن الحال اختلف مع الجنرال سكوت غريشون مبعوث الرئيس أوباما الخاص إلى السودان بعد تصريحات مماثلة منتصف الشهر الماضي وفي شهادته التي أدلى بها قبل أسبوع أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي..
لقد أثار حديثه زوبعة عنيفة لا تزال تداعياتها مستمرة في أوساط المجموعة المتبنية لقضية دارفور أو ما يعرف ب Darfur advocacy community.. فرغم أن حديث غريشون لم يكن بذات القطعية التي عبر بها ديفيد شِن عن قناعاته، ورغم أنه ذكر الكثير من الإشارات السالبة بحق الحكومة السودانية، إلا أن عدم اعتداد غريشون بالمسلمات أيضا وجرأته على طرح تفكير موضوعي مختلف وهو يحلل الأوضاع ويشخصها في السودان، دعا ما يعرف ب"ناشطي دارفور" كما تسميهم الصحافة الأمريكية، إلى أن يصوبوا عليه سهامهم ولاذع انتقاداتهم كتحرك أولي تجاهه راعوا فيه الاقتصاد نسبيا في الهجوم والتحوط في انتقاد الرجل فهم وإن كان قد بدا واضحا أنهم قد "قنطوا من خير فيه بتبني مواقفهم كما هي"، إلا أنهم لا يزالون يرجون أن تكون إشاراتهم الأولية هذه كافية للرجل ليفيق من حالة الموضوعية هذه ويثوب بعدها إلى رشده ويكف عن ترديد مثل هذه الأفكار الهدامة التي بثها في أسماع السادة الشيوخ وتناقلتها من بعد وكالات الأنباء وطارت بها كل طائر..
إن غريشون ليس ديفيد شِن الأكاديمي الذي لا يعبر إلا عن شخصه ورؤاه الذاتية فقط، بل هو المبعوث الخاص لأوباما وهو بتلك الصفة يقف على قمة الهرم التنفيذي للإدارة الأمريكية "بكلينتونها ورايسها" فيما يخص قضية السودان... غريشون ليس بينه وبين أوباما وسطاء أو رؤساء، بل يتمتع بخط اتصال مفتوح معه ويستمع الأخير له ويتبادل معه الأفكار والرؤى حول قضايا السودان، ومن هنا تأتي خطورته وأهميته لنشطاء دارفور خصوصا حينما يكون تفكيره خارج الإطار الموضوع وتصريحاته لا تتسق مع الخط العام الذي ظل "ناشطو دارفور" يرسمونه لسنوات طويلة لترسيخ صورة نمطية معينة عن السودان من يريد ان يخرج عنها فعليه أن يتحسس مسدسه أولا ومن ثم "يَتَحَزَّم ويَتَلَزَّم" كما يقول أهلنا في السودان [يقصدون أن المرء إن عزم فليستعد بما يلزم] ويكتب وصيته السياسية..
لقد راهن المشتغلون بقضية دارفور في الولايات المتحدة على أوباما في تبني سياسة أكثر تشددا وصرامة من سلفه الجمهوري بوش في التعامل مع حكومة السودان.. بمن في ذلك، وللغرابة، بعض الجمهوريين أنفسهم من المنخرطين في قضية دارفور "ولا نستثني من هؤلاء مبعوث بوش الأخير ويليامسون".. لقد كان هؤلاء وأولئك يعولون كثيرا على أوباما في تحقيق أشواقهم ناحية التضييق على حكومة السودان ومحاصرتها بل وخسف الأرض بها لو دعا الحال من فرط عدائهم لها.. ولكن هاهو أوباما قد أكمل نصف عامه الأول في البيت الأبيض والأمور لا تسير كما يشتهون ويرجون، بل أن مبعوث أوباما الخاص يتجاوز الخطوط الحمراء ويمشي في مسالك محرمة وغير مصرح بولوجها..
تمثلت خيبة أملهم الأولى في اختيار أوباما لمبعوث خاص للسودان من خارج إطار المجموعة المشتغلة بقضية دارفور، وهم كانوا قد هيأوا شخصيات بعينها ورشحوها لتولي المنصب [الغريب أنه كلما يعتزم رئيس سواء كان جمهوريا أو ديمقراطياً تعيين مبعوث خاص للسودان إلا وتطفو وسط مجموعة الناشطين ذات اسماء قادتهم من أمثال جون برندرقاست صاحب الصوت الأعلى على الإطلاق في كل ما يخص السودان في الولايات المتحدة، روجر وينتر مساعد مدير وكالة التنمية الدولية الأمريكية السابق والمنخرط في الشأن السوداني لعقدين، النائب الجمهوري فرانك وولف المشتغل بقضايا السودان أيضا لأكثر من عقدين وأحد رموز اليمين المسيحي في الكونغرس، وجميعهم من الناشطين المعروفين بعدائهم للحكومة السودانية].. ولكن أوباما فاجأ الجميع بإختيار الجنرال اسكوت غريشون الذي لم يكن ذا صلة بقضايا السودان ولم يكن مرشحا في الأصل لأية مهمة تتعلق بالشأن الخارجي بل كانت الأنظار تتجه إلى احتمالات تعيينه في أحد المناصب الداخلية الهامة...
إسكوت غريشون بدأ مهمته بمهنية ملاحظة وأبعد نفسه عن شعارات "ناشطي دارفور" المحفوظة.. بعد إعلان تعيينه، كان تركيزه منصبا على تملك المعلومات والحقائق.. ولهذا الغرض زار السودان مرات عديدة ودول الجوار والدول الأخرى ذات الصلة بالملف وأصبح حضوره متواصلا وكثيفا في الشان السوداني منذئذ.. عمليا ما انعقدت فعالية أو ملتقى حول السلام في السودان أو عن دارفور منذ مارس الماضي وحتى الآن إلا وكان غريشون حاضرا فيها بقوة: مفاوضات الدوحة، اجتماع المبعوثين الخاصين الدوليين في لندن، اجتماعات توحيد الحركات المقاتلة، زيارة العواصم ذات الصلة مثل لندن، بكين، القاهرة، باريس وغيرها فضلا عن مبادرته بعقد إجتماع شريكي نيفاشا في واشنطون في يونيو الماضي.. كل هذا في نظر ناشطي دارفور غير كاف لأداء مهمته ما دام الرجل لا يصبح ويمسي لاعنا حكومة الإبادة الجماعية في السودان ومتوعداً إياها بالويل والثبور وعظائم الأمور إن هي لم توقف إبادتها المستمرة في دارفور...
بالتالي يمكن للمراقب الموضوعي القول بأن تصريحات غريشون مؤخرا وتصريحاته في مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي جاءت مبنية على خلفية من المعلومات وفرها له انخراطه الكثيف والمباشر في الشأن السوداني في الفترة الماضية حيث كون أفكاره عن المشهد السياسي العام عبر قنوات مختلفة ولم يغلق نفسه في تقارير تحالف "انقاذ دارفور" ومجموعة "كفى" أو مقالات نيكولاس كريستوف في النيويورك تايمز أو رسائل الإيميل المطولة لإريك ريفز الذي هجر تدريس اللغة في كلية سميث وتفرغ لتبني قضية السودان..
الجنرال غريشون في جلسة الكونغرس حرص أن يكون متوازنا وهو يعبر عن آرائه ورؤاه المخالفة ل"ناشطي دارفور" حول ما يجري حاليا في السودان وفي دارفور على وجه التحديد، وحاول قدر ما استطاع ألا يكون مشاكسا حتى وهو يمتنع عن توصيف الوضع بالإبادة الجماعية المستمرة.. فضَّل الرجل أن يكون لبقا في امتناعه هذا رغم محاصرة بعض الشيوخ وتذكيرهم له أن رئيسه يرى أنها إبادة جماعية وكذا ترى مندوبة بلاده في الامم المتحدة سوزان رايس، فكيف يستقيم أن يناقض هو ذلك.. ولكن الرجل رد بأنه يرى أن هذا خلافا حول المصطلح، مشيرا إلى أن الدخول في جدل حول توصيف ما يحدث هو أمر غير مطلوب بل المطلوب والأهم من كل هذا هو العمل على إصلاح الوضع على الأرض مؤكداً: "هذه هي مهمتي التي انتدبني لها الرئيس والتي أكرس لها كل وقتي وجهدي...".
مضى غريشون في ركوب الدرب الصعب مؤكدا للسادة أعضاء مجلس الشيوخ بأنه لم يجد دليلا استخباريا واحدا يشير إلى أن السودان يدعم الإرهاب ذاكراً بجرأة يحسد عليها أن إبقاء السودان في القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب هو محض "قرار سياسي" لا تدعمه وقائع تعاون السودان في مكافحة الإرهاب أو الحقائق على الأرض.. وذهب إلى توضيح الآثار السالبة المترتبة على استمرار العقوبات المفروضة على السودان بموجب هذا التصنيف "السياسي" وكيف أنها تعيق تحقيق أهداف الولايات المتحدة الأخرى في تنمية الجنوب وتقديم المساعدات الإنسانية وتحقيق التنمية..
لقد دافع الجنرال غريشون بحزم عن سياسة التعاطي مع الحكومة السودانية موضحا أن واقع الحال يفرض هذا التعاطي وإلا كيف يتأتى لبلاده أن تحقق أهدافها الآنية في السودان دون التعاطي مع الحكومة السودانية.. لقد أوضح الرجل أنه لا يمكن استمرار العمل الانساني وسد فجوة طرد المنظمات الثلاثة عشر دون التعامل مع الحكومة السودانية، لا يمكن العمل على دفع تنفيذ اتفاق السلام الشامل دون الدخول في علاقة مع شريكي الاتفاق في الحكومة، لا يمكن إصلاح العلاقات السودانية التشادية- وهي جانب أساسي في حل قضية دارفور- دون العمل مع الحكومة السودانية. بشكل واقعي أوضح غريشون عملياً أن شعارات عدم التعاطي مع الحكومة السودانية التي تتبناها دوائر ناشطي دارفور تظل شعارات جوفاء لا تخدم أية مصلحة، بل هي- وكما أوضح- ضد مصالح الولايات المتحدة نفسها وضد مصالح السودانيين قبل ذلك..
أبواب الجحيم التي فتحها "ناشطو دارفور" على غريشون لم تكن فقط بسبب إفاداته في مجلس الشيوخ الأسبوع الماضي.. بل جاءت موجتها الأعنف في النصف الثاني من يوليو الماضي حينما أعلن غريشون في مؤتمر صحفي أن ما يحدث في دارفور الآن ليس إبادة جماعية بل وصف الوضع بأنه "بقايا الإبادة الجماعية" ودعا في ذات المؤتمر إلى تخفيف العقوبات الأمريكية على السودان.. هذه التصريحات حركت في "ناشطي دارفور" كل حراك وسعوا في جمع العرائض والتوقيعات للاحتجاج لدى البيت الأبيض، ومضوا إلى التشكيك في مقدرات غريشون متهمين إياه بعدم الخبرة والحنكة وعابوا عليه ما يراه المحايدون ميزة من أنه بدأ مهمته دون "أفكار مسبقة" عن دارفور.. وأكد بعضهم أن غريشون بهكذا تصريحات يؤكد "أنه الشخص الخطأ" لتولي المهمة!! وكأني بالمطلوب للمهمة شخص لا يحسن إلا الدعوة لإعلان الحرب على السودان.. وقد اضطر أوباما أمام هذا السيل الجارف من برقيات الاحتجاج التي انهالت على البيت الأبيض- بعد أن كثف ناشطو دارفور جهودهم لدفع القواعد الشعبية بارسالها، وهذا أمر يجيدونه تماما- اضطر إلى الرد موضحا أن إدارته مستمرة في العمل على "إنهاء الإبادة الجماعية"، وأنه ينسق مع الدول الأخرى لضمان "استمرار العقوبات القاسية" على الخرطوم..
واصل "ناشطو دارفور" حملتهم على غريشون عقب إفاداته في مجلس الشيوخ يتقدمهم كبارهم منتقدين ومشككين ومستنكرين عليه حديثه حول الإبادة والعقوبات وطفقوا يذكرونه بمواقف أوباما حينما كان سيناتورا في مجلس الشيوخ وأثناء حملته الانتخابية بتبني سياسة أكثر تشددا مع الحكومة.. جون برندرقاست نشر مقالا في ذات يوم الجلسة مقللا من مجمل رؤية غريشون تجاه خيارات السياسة الأمريكية تجاه السودان ومستسخفاً دعوة الأخير إلى تقديم حوافز للحكومة السودانية أو التعاطي الإيجابي معها، ولم ينس ان يقدم وصفته المعهودة كبديل لا يرى غيره مؤكداً كعادته ألا سبيل إلا فرض المزيد من الضغوط والتشدد مع الحكومة السودانية.. إريك ريفز صاحب الكتابات الماراثونية اليومية عن السودان هاجم غريشون هجوما عنيفاً في مقال له في صحيفة بوسطون قلوب الصادرة يوم السادس من أغسطس مستنكرا عليه تصريحاته وخيارات السياسة الأمريكية التي وضعها واصفا إياها بأنها ستكون خطأاً فادحاً لو تم تطبيقها.. رؤساء "شعب" تحالف "إنقاذ دارفور"في الولايات أدلوا للإعلام بدلوهم في ذات الاتجاهات أعلاه، وسودوا صفحات الانترنت باحتجاجاتهم وغضبهم.
إن أكثر ما أثار مجموعة ناشطي دارفور كان هو التصريح بأن الإبادة الجماعية "غير مستمرة الآن" في دارفور، ورغم أن هذا التصريح يحمل ضمنا الإشارة بأن المتحدث متفق مع الناشطين في زعمهم بوقوع الإبادة في الفترة الأولى، إلا أن ذلك أيضا لا يكفي ما لم يؤكد استمرارها الآن كذلك.. لقد صمم "ناشطو دارفور" حملتهم في الولايات المتحدة بعناية شديدة ليكون جوهرها ونقطة ارتكازها هو إن حكومة السودان قد ارتكبت إبادة جماعية وأن هذه الإبادة لا تزال مستمرة في دارفور.. إن من شأن أية حملة تصمم وفق تهمة كهذه أن تسهل بعد ذلك كل ما يتبع من توصيات حول السياسة التي يجب أن تتبع مع الحكومة السودانية بما في ذلك حتى إعلان الحرب مباشرة عليها ما دامت هي حكومة إبادية Genocidal Government كما يطلقون عليها، وهو تعبير مخيف لكل من يفكر مجرد التفكير في التعاطي مع الحكومة..
لقد سعت الدوائر التي تناصب الحكومة السودانية العداء في الولايات المتحدة، ومنذ أمد بعيد إلى إلصاق تهمة الإبادة الجماعية بها حتى يساعدها هذا التوصيف في تعبئة وتأليب الرأي العام الداخلي الأمريكي ضدها ومن ثم يسهل بعد ذلك التأثير على عملية صنع القرار تجاه السودان.. ويخطيء الكثيرون إذا ظنوا أن محاولات إلصاق تهمة ارتكاب الإبادة الجماعية بالحكومة السودانية في أمريكا بدأت مع بدايات النزاع في دارفور، بل الصحيح أنها بدأت قبل ذلك بكثير ولكنها لم تجد تجاوبا مشجعا لتنتشر بما فيه الكفاية.. لقد حاول روجر وينتر حينما كان مديرا لمنظمة "اللجنة الأمريكية للاجئين" Refugees United States Committee for [ أصبح فيما بعد نائبا لمدير وكالة التنمية الدولية الأمريكية إلى أن استقال عام 2006] أن يوصف الحرب في الجنوب حينها بأنها حرب إبادة جماعية فنشر تقريرا في عام 1998 بعنوان "تحديد حجم الإبادة الجماعية في جنوب السودان وجبال النوبة 1983-1998"" Quantifying Genocide in Southern Sudan and the Nuba Mountains: 1983-1998.". إلا أن التقرير ولخيبة أمل كاتبه لم يجد الرواج اللازم.. ثم هناك جيري فاولار الذي كان هو الآخر يسعى في اتجاه توصيف حرب الجنوب بالإبادة من خلال موقعه كمدير للجنة الضمير في متحف الهولوكوست في واشنطون وظل منذ عام 1998 يطلق من لجنته تلك ما دأب على تسميته ب"التنبيه إلى الإبادة الجماعية في السودان" Genocide Warning: Sudan ويجدد تنبيهه هذا بشكل منتظم عاما تلو عام.. ولتعلم عزيزي القاريء أن المدير التنفيذي الآن لتحالف "إنقاذ دارفور" في الولايات المتحدة هو السيد جيري فاولار نفسه ثم لن أسألك أن تصل النقاط ببعضها.
إندفاع الكونغرس الأمريكي في منتصف عام 2004 وتعجله بإطلاق صفة الإبادة الجماعية على الوضع في دارفور كان أمرا لافتاً في ضوء انشغالات الكونغرس بقضايا داخلية كبيرة في تلك الفترة، ولكنه الجهد المنظم والمحسوب وراء ذلك الدفع بواسطة ذات الذين كانوا يخططون منذ البدء لإلصاق التهمة بالسودان..
مع بدء تواتر الأنباء عن تصاعد النزاع في دارفور في مطلع العام 2004 بدأت هذه المجموعات تستخدم تعبير الإبادة الجماعية بكثافة في حديثها عن النزاع في دارفور.. وأصبح بعضهم يسجل زيارات سريعة للمنطقة [بعضهم زار دارفور مثل النائب فرانك وولف، السناتور سام براونباك، وبعضهم زار شرق تشاد مثل النائب كريستوفر إسميث، جون برندرقاست، الناشط اليهودي ومسئول متحف الهولوكوست جيري فاولار وغيرهم] ثم يعود مؤكداً بأنه "رأى" الإبادة الجماعية بأم عينه..
لقد لعب هؤلاء الدور الأساسي في دفع مشروع قرار الكونغرس الذي قدمه النائب دونالد بين في مايو من العام 2004 والذي يصف ما يحدث في دارفور بأنه إبادة جماعية ويدعو الإدارة الأمريكية لإطلاق تلك الصفة عليها.. اللوبي اليهودي الذي يسعى بكل السبل لإبقاء ذكرى المحرقة النازية حية في أذهان العامة والساسة وفي الإعلام انتهز السانحة وتبنى هذا التوصيف إذ ليس هناك أنسب من أن يروج لحدوث إبادة جماعية أخرى ليُبقي تلك الذكرى حية تمشي بين الناس وبالتالي تسجيل المزيد من النقاط لصالح كسب الدعم والتعاطف مع القضية الإسرائيلية، ويكفي أية حملة نجاحا في الولايات المتحدة أن يتبناها اللوبي الداعم لإسرائيل..
وجد مشروع القرار سندا غير مسبوق في وقت وجيز في ظل ما هو معروف من تأثير قوي للوبي الداعم لإسرائيل في الكونغرس الأمريكي، رغم أن تأكيد إثبات وفوع الإبادة الجماعية يفترض فيه توفير مستمسكات قانونية وسياسية محددة حسب القانون الدولي لما يترتب على هكذا تصنيف من وضعية غاية في الحساسية للدولة التي تتهم وتصنف بارتكابها الإبادة الجماعية.. إلا أن الكونغرس الأمريكي بغرفتيه [مجلس النواب ومجلس الشيوخ] مدفوعا بكل ذلك الزخم لم يلجأ إلى أية وسيلة علمية أو قانونية يحدد بموجبها إن كانت الإبادة قد ارتكبت أم لا.. وصدر قراران من مجلسي الكونغرس [الشيوخ والنواب] في توقيت واحد- بفارق يوم بينهما- في يوليو من العام 2004 يعلنان أن ما يحدث في دارفور إبادة جماعية ومطالبين الإدارة بإعلان نفس الأمر!!.. الإدارة الجمهورية حينئذ أسقط في يدها [الكونغرس كانت أغلبيته جمهورية في المجلسين] وظلت تراوغ في مسايرة الكونغرس فيما ذهب إليه مشيرة إلى أن خبراءها في المنطقة يعكفون على دراسة الوضع لتحديد ما إن كان إبادة أم لا..
في الواقع لم يكن هناك أي خبراء في تلك الفترة يدرسون الواقع على الأرض في دارفور ولكن لاحقا في سبتمبر مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وبعد أن رضخت الإدارة للكونغرس مدفوعة بحسابات السياسة وأعلنت أنها توصلت إلى أن ما يحدث في دارفور هو إبادة جماعية، قالت، على لسان وزير خارجيتها باول حينئذ أن خبراءها إنما كانوا يقومون بدراستهم تلك "في معسكرات اللاجئين في تشاد"!! واللافت أن كولن باول في بيانه ذاك أمام مجلس الشيوخ في سبتمبر 2004 وبعد أن قال أنهم خلصوا إلى وقوع الإبادة الجماعية في دارفور، قال في الفقرة التالية مباشرة وبالنص:" إننا، ولكيما نتمكن من تأكيد الطبيعة الحقيقية ومدى ومقدار الجرائم التي كشفت عنها أدلة خبرائنا، نعتقد أن تحقيقا شاملا ومتكاملا يجب أن يتم"! إذن إن لم يتم مثل هذا التحقيق سلفاً فكيف توصلت الإدارة بهذه القطعية وفي قضية خطيرة مثل هذه إلى وقوع الإبادة الجماعية؟.. لقد مضى السيد باول إلى دعوة الأمم المتحدة لإرسال لجنة تحقق وتقصي من ناحيتها حول الوضع في دارفور وكأنما هو غير مطمئن في نفسه إلى ما اضطر إلى إعلانه ذلك اليوم.. والغريب أن الأمم المتحدة فعلت بتوصيته وأجرت تحقيقها لاحقا بعد شهور قليلة من تاريخ ذلك الإعلان، ولكنها قالت بعدم وقوع إبادة!! لقد سبق السيف العزل داخل أمريكا، فلم يكترث أحد..
وضع الكونغرس والإدارة سقفا عاليا جدا لأنفسهم فيما يخص التعامل مع قضية دارفور بتصنيفها على إنها قضية إبادة جماعية.. الإدارة تحديدا عانت من هذا السقف بشكل عملي، ذلك أنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن الأمر ليس إبادة وإنما هو القرار السياسي الذي فرض ذلك، ولكن عليها في ذات الوقت أن تتعامل مع تعقيدات التصنيف السياسية والقانونية.. الأمم المتحدة حينما نفت وقوع الإبادة الجماعية رفعت عن الإدارة حرج التزامات ميثاق منع ومعاقبة الإبادة الجماعية..
تبقت إذن الحسابات السياسية الداخلية.. إن تعاملها مع حكومة متهمة بإرتكاب إبادة جماعية ظل يلقى تنديدا واستنكارا داخليا ًليس فقط من المجموعات التي سعت لدمغ الحكومة بتلك التهمة، ولكن من قطاع عريض من الرأي العام الذي تمت تعبئته وتأليبه على الحكومة السودانية بإقناعه بوقوع الإبادة.. وبالتالي ظلت الإدارة "إدارة بوش وقتها والآن إدارة أوباما" تحت سهام الانتقاد والترصد من دوائر ناشطي دارفور في أية خطوة عقلانية تخطوها تجاه الحكومة السودانية إذ أن أول ما تواجهه هو سؤال كيف يتسنى لها أن تفعل ذلك مع حكومة مصنفة على ذلك النحو؟؟.. لعل أبرز جوانب هذا التنافض وضوحا لدى الإدارة تظهر في حالة المبعوثين الخاصين الذين يعهد إليهم الرئيس بمعالجة قضية السودان إذ أنهم ما أن يبدأوا في تملك الحقائق على الأرض حتى يفاجأوا بأن كثيرا من الشعارات التي ظلوا يسمعونها داخل أمريكا عن الوضع في السودان إنما هي فعلا "شعارات" يجافيها الواقع الذي يلامسون حقيقته بأنفسهم الآن.. ولكن لا يمكن لأي سياسي أن يتجرأ ويقول أن إعلان الإبادة من أساسه كان خطأا أو أنه كان قرارا سياسياً ولكن أضعف الإيمان فليقل أن ما يحدث الآن ليس إبادة وليدعم ذلك بإحصاءات الأمم المتحدة وتقاريرها.. ولكن، ذلك أيضا لا يضمن له السلامة من سهام الناشطين واستهدافهم..
السفير ديفيد شِن قال لأعضاء الكونغرس أن عدد الذين ماتوا في كل عام 2008 بسبب العنف في دارفور حسب تقرير يوناميد UNAMID كان 1550 منهم 500 من المدنيين، 400 كانوا من المقاتلين و640 ماتوا في نزاعات بين القبائل بعضها البعض، فأين الإبادة الجماعية المستمرة؟
إن ما يواجهه غريشون اليوم يشابه إلى حد كبير ما واجهه السيد أندرو ناتسيوس مبعوث الرئيس الامريكي السابق بوش والذي كان إلى قبيل تعيينه مبعوثا خاصا للرئيس من أشرس المعادين للحكومة السودانية.. بيد أنه بعد تعيينه مبعوثا خاصا في سبتمبر من العام 2006 والأزمة آنئذ في أوجها بين السودان والأمم المتحدة في أعقاب رفض السودان قرار مجلس الأمن 1706 الداعي إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية إلى دارفور، وبعد أن بدأ يزور المنطقة بشكل مكثف ويتملك المعلومات من مصادرها عن حقيقة ما يحدث، صار حكمه على التطورات السياسية في السودان يبتعد شيئاً فشيئا عن شعارات "ناشطي دارفور" المحفوظة إلى أن بلغ حد رفض توصيف ما يحدث في دارفور بالإبادة الجماعية أيضاً.. وقد ثارت زوبعة شبيهة بالزوبعة الحالية تجاه غريشون حينما ذكر ناتسيوس في مطلع العام 2007 في محاضرة له في جامعة جورج تاون التي يعمل بها محاضرا "أن وصف ما يحدث في دارفور بالإبادة الجماعية هو في حقيقة الأمر مخالف لحقائق الوضع على الارض الآن".. وقد لاحقت ناتسيوس الإدانات واللعنات من مجموعة الناشطين، ولعل من أشهر ما تعرض له من محاصرات ما فعله معه السناتور مينينديز في جلسة استماع في أبريل 2007 حينما احتد معه في الحديث إلى حد كان لافتا.. أنظر معي إلى هذا الحوار الذي دار بين ناتسيوس والسناتور مينينديز في تلك الجلسة:
السناتور مينينديز: هل لك أن تخبر هذه اللجنة عن ما هو الوضع الآن في دارفور؟ هل هي إبادة جماعية؟
ناتسيوس: في دارفور حاليا أيها السناتور اقتتال ضئيل للغاية...
السناتور مينينديز [مقاطعاً]: هذا لا يعني أن الوضع هناك ليس إبادة جماعية...
ناتسيوس: هلا تركتني أكمل حديثي...
السناتور مينينديز: السؤال هو هل تعتبر....
ناتسيوس [محاولاً مواصلة حديثه]: أيها السناتور..
السناتور مينينديز [مصرا على المقاطعة]: أجب على سؤالي...
ناتسيوس: أنا أجيب الآن على سؤالك....
السناتور مينينديز: إن الوقت المتاح لي محدود أيها المبعوث.. وبالتالي أريد منك إجابة قاطعة على سؤالي...
ناتسيوس [مقاطعا]: أنا أجيب الآن على سؤالك...
السناتور مينينديز: مهلا.. لا يمكنك الإجابة على سؤالي إن لم تدعني أكمله لتسمعه.. هل تعتبر الوضع الماثل الآن في دارفور إبادة جماعية؟ أجبني بنعم أو لا..
ناتسيوس: أنت فقط...
السناتور مينينديز [مقاطعا]: نعم أم لا؟
ناتسيوس: أيها السناتور، فضلاً.. إن ما قرأته قبل قليل على اللجنة لم يحدث في دارفور بل في تشاد...
السناتور مينينديز [مقاطعا]: أنا لم أشر في سؤالي إلى ما قرأته قبل قليل.. أنا فقط أسألك هل الإجابة على سؤالي نعم أم لا؟
ناتسيوس: إن هناك عنفاً ضئيلا للغاية الآن في دارفور..
السناتور مينينديز [مقاطعا]: أيها السفير، ما هو الصعب في سؤالي هذا؟ ما الذي لا تفهمه في سؤالي؟
ناتسيوس: أيها السناتور لقد أجبت لتوي على سؤالك..
السناتور مينينديز: هل الوضع الحالي في دارفور هو إبادة جماعية مستمرة؟ أجبني بنعم أو لا؟
ناتسيوس: أيها السناتور، إن هناك اقتتالا ضئيلا للغاية يدور الآن بين الحكومة والمتمردين والضحايا المدنيون عددهم قليل جدا حالياً في دارفور.. لقد أجبت على سؤالك..
السناتور مينينديز: ايها السناتور أنا لم أسألك عن الاقتتال المتضائل، بل سؤالي عما إن كان الوضع في دارفور الآن هو إبادة جماعية... نعم أم لا؟..
ناتسيوس: إن الوضع في دارفور حاليا هش للغاية..
وهكذا استمر الحوار على هذا المنوال دون ان يرضخ ناتسيوس لهذه "الأجواء المكارثية" ويجب بنعم أو بلا..
إن ناتسيوس لا يزال يستدعي بمرارة كيف حوصر وكيف أعيقت مهمته من قبل الكونغرس والناشطين وهاهو يذكر ذلك مباشرة في ندوة عن دارفور قدمها في جامعة جورج تاون في نهايات مارس من هذا العام موضحاً أنه كمبعوث خاص وقتها كان قد توصل إلى اتفاق مع الحكومة السودانية ولكن أعضاء الكونغرس لم يسمحوا له أن يعقد أي اتفاق مع الحكومة السودانية.. وقال ناتسيوس بمرارة شديدة أنه يرجو الا يفعلوا ذات الامر مع غريشون.. ولعل من إفادات ناتسيوس اللافتة في تلك الندوة تأكيده بأن التعاطي مع الحكومة السودانية هو الذي يفضي إلى تحقيق نتائج حسب تجربته في هذا المضمار ذاكرا بأن " التعهدات التي قدمها لي البشير نفذها".. ولكنه طوال فترته كمبعوث لم يستطع أن ينطق مثل هذه العبارة..
إن مجموعة "ناشطي دارفور" في الولايات المتحدة أصبحت مجموعة راسخة البنيان وقوية الدعائم وموفورة التمويل.. وهي، كما هو معلوم، مدعومة من اللوبي الداعم لإسرائيل الذي تبنى القضية ورمى بثقله خلفها مما أكسبها ثقلا وبعدا سياسيا في دوائر اتخاذ القرار الأمريكي التي يتمتع فيها اللوبي الداعم لإسرائيل بنفوذ لا يقاوم.. ولقد نجحت المجموعة في تعبئة الرأي العام وشحنه بقوة ضد الحكومة السودانية بشكل يجعل أي عضو كونغرس يفكر مرتين قبل إظهار موقف مخالف خوفا على أصوات ناخبيه.. إنه أشبه بالإرهاب الفكري. منظمة "شبكة التدخل لمنع الإبادة الجماعية" Genocide Intervention Network تقوم برصد نشاط كل أعضاء الكونغرس في قضية دارفور ال535 بمنحهم تقييما كتقييم درجات الامتحان [A+, A, B+. B] والتقييم منشور على الانترنت على الموقع التالي: http://www.darfurscores.org/ حيث تحسب لكل منهم بيانات استنكاره وشجبه للحكومة، تبنيه لقرارات الكونغرس تجاه دارفور، مشاركته في مظاهرات تحالف دارفور وما إلى ذلك لإصدار التقييم الكلي حسب هذه الجهود.
وبالتالي فكلهم يسعون للحصول على التقييم الأعلى [A+]. أما إن كان التقييم ضعيفا فتدعو المنظمة ناخبي دائرته إلى إرسال عرائض له لتنبيهه إلى ضرورة "شد حيله" قليلا في قضية دارفور وتذكيره بأنهم يرصدون.. فتأمل أي إرهاب وأي ابتزاز يمارسون عليهم؟.
السناتور جون كيري في مستهل جلسة الاستماع بدأ المداولات بعبارة هامة صاغها بعناية وموازنات واضحة: "لقد عدت من السودان وأنا مقتنع بالحاجة إلى بناء إطار إستراتيجي أكبر يتجاوز بنا المواقف المبسطة مثل سياسة العصا والجزرة، أو النظر إلى الوضع في إاطار الجنوب والشمال مقابل دارفور.. بدلا عن ذلك نحتاج إلى استرايتجية شاملة للسودان ككل وذات أوجه متعددة ومتعددة هذه يجدها البعض مخيفة" [حسب تعبيره].. إذن فالرجل أيضا يريد أن يقول شيئا مختلفا ولكن بحذر..
تبقى الحقيقة أن مجموعة "ناشطي دارفور" لا ترغب في إيجاد أية حلول لقضية دارفور ذلك أنه طالما كانت هذه القضية حية ومستمرة، طالما استمرت من الجهة الأخرى أنشطتهم التي أصبحت صنعة لكثيرين منهم.. ولك أن تتعجب ماذا سيصنع هؤلاء لو تم حل القضية خصوصا وأن بعضهم ركب القضية لتلميع نفسه ليصبح من أعلام المجتمع الأمريكي. ولك أن تعلم عزيزي القاريء أنه تدفع لبعضهم مقابل تقديم ندوة واحدة عن دارفور أو المشاركة في مؤتمر ما الآلاف من الدولارات نظير تلك المشاركة فلم السعي أصلاً والتفكير بحل المشكلة وهي تبيض ذهباً.. هؤلاء في سعيهم المحموم للحفاظ على زخم قضية دارفور وإبقاء جذوتها الشعبية والإعلامية على النحو الذي وضعوه في مخيلة الشعب الأمريكي، لن يقبلوا بأي مسعى لتغيير أي جانب من جوانب هذه الصورة سواء كان من غريشون أو غيره، وسيستميتون في وأد مثل هذا السعي في مهده حتى لا تُهدد بضاعتهم الرائجة التي لا تجد من يجروء على منافستها وإن أراد أحد أن يفعل فليستعد لتقبل مصير ناتسيوس..
ترى إلى أي حد سيصمد غريشون أمام هؤلاء وماذا يدبرون له الآن والرجل لا يزال بعد في شهوره الأولى من مهمته الصعبة خاصة وأن قلوب بعض زملائه في الإدارة مع ناشطي دارفور وهؤلاء وأولئك بدون شك يراهنون ويخططون لفشل مهمته ويترصدون تلك اللحظة التي تفشل فيها مساعيه للدفع في اتجاه تبني السياسة التي يطمحون إليها؟..
إن شرخا، ولو رفيعا للغاية، قد بدأ يظهر على هذا الجدار الضخم الذي بناه الناشطون من خلال مراكمة أدبيات سالبة كثيرة عبر فترة طويلة.. وإن كان يمكن تشبيه مواقف ناتسيوس، ديفيد شِن، وغريشون بأنها "خربشات" على هذا الجدار، فإن بعض المواقف الأخرى مثل التي يقفها البروفيسور محمود مامداني ذو الاصل اليوغندي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا في تحديه لأصل الأطروحات التي يسوق لها "ناشطو دارفور" يراها البعض أكثر خطورة لأنها بمثابة السعي لضرب أساس الجدار.. وقصة صراع مامداني حاليا مع هؤلاء تستحق مقالا منفصلاً..
في محاضرته الأخيرة في جامعة جورج تاون في مارس 2009 قال ناتسيوس للحضور ما معناه أن أعضاء الكونغرس إنما يعارضون توقيع أي اتفاق مع الحكومة السودانية لأنهم يخشون ردة فعلكم "يقصد الناخبين".. وبالتالي فالدور عليكم أن تعدلوا مواقف الكونغرس.. ولكن حشد الرأي العام وتأليبه ضد أي انخراط أو تعاطي مع الحكومة السودانية كان نتيجة عمل منظم واسع تم فيه انفاق مئات الملايين من الدولارات وشاركت فيه المئات من المنظمات واللوبيات التي أشرنا إلى بعضها، ولن يتأتى بالتالي تغيير ذلك الاتجاه بالنوايا الحسنة فقط من جانب ناتسيوس أو ديفيد شِن وغريشون.. فهل من طريقة ليبصر الشعب الأمريكي من وراء الحجب التي يضعها على عينيه ناشطو دارفور؟.
*وزير مفوض- سفارة السودان بلندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.