لقد فارقت "البلد" منذ ثلاثة عقود أو أكثر وأنا أحمل في جيناتي عشق فن الستينيات، ولأنني من النوع "الولوف"، فإنني لم أستطع حتى الآن أن أتحرّر من إسار أغنيات "وردي" .. و"الكابلي" وغيرهم من أساطين الطرب القديم، وهذا بالطبع عيبٌ في شخصي، وليس قدحاً في مطربي هذا الجيل.. وأخص بالدرجة الأولى الفنان المتفرّد " محمود عبدالعزيز" صاحب "الحنجرة الذهبية" التي لن تتكرّر .. "أيقونة الغناء السوداني" .. "الجان" .. "الأسطورة" .. "الحوت" الذي ابتلع في جوفه من عاصره من مطربي اليوم. أقول قولي هذا ليس لأحمي نفسي من غضبة "الحوّاتة" المُضرية، وقد طالعت نموذجاً مصغّراً لتلك الغضبة المُضرية في خبرٍ صغيرٍ أوردته صحيفة "الراكوبة" الإلكترونية عن ذلك الفنان تعيس الحظ الذي "سوّلت" له نفسه – في حفل زواج – أن يبتدر وصلته الغنائية بأغنية للفنان الراحل .. عندها سمع صاحب الحفل همهمة وسط جمهور الحضور تُنذر بما لا تُحمَد عقباه .. ولعل صاحب الحفل وقتها قد طافت بذهنه صور حفلات الأعراس في الحواري المصرية التي ما تفتأ الأفلام المصرية تُقحمها بسبب وبدون سبب، عندما يتحوّل الحفل – ولأوهى الأسباب- إلى ساحة معارك تتطاير فيها الكراسي في الهواء وتُتبادَل فيها اللكمات والركلات بين "المعازيم". وحسبما ورد في الخبر، فإن صاحب الحفل قد تدارك الأمر فهمس في أذن الفنان بأنه قد تجاوز الخطوط الحمراء، وعليه أن يختار أي أغنية أخرى ليغنيها. مما لا شك فيه أن ذلك العدد غير المسبوق من المقالات التي حررّها الكُتّاب على اختلاف مشاربهم وأطيافهم السياسية وفئاتهم العمرية، ومكانتهم الاجتماعية في رثاء الفنان الراحل تؤكِّد على تميّز ذلك الفنان الشاب .. ذلك التميّز هو نفسه الذي دفع بمعجبيه إلى تطويقه بتلك الألقاب "الفولاذية". أما وقد أضحى أتباع "الحوت" رقماً لا يُستهان به في الساحة السياسية والاجتماعية، خاصةً بعد أن أثبتوا "تماسكهم وترابطهم" في ذلك الهجوم "الاقتحامي" لقاعة المطار ومنها إلى مهبط الطائرات حيث الطائرة التي تحمل جثمان الراحل العزيز.. تلك اللحظات الهستيرية الحافلة بالصراخ والعويل والتي غاب فيها العقل والمنطق ليفسحا المجال للعاطفة بكل عنفوانها وجنونها لتُعمِل في الممتلكات العامة تكسيراً وتحطيماً وتهشيماً. ولعل السلطات الرسمية قد ارتأت تحسباً وحيطةً وحذراً أنه من الحكمة أن تكف عن نفسها خطر ذلك الشباب "الثائر" بأن تشاركه أحزانه، سيما وقد استطاع رصفاءٌ لهم من قبل في دولٍ مجاورةٍ قلب الطاولة على رؤوس حكامهم بفضل "تماسكهم وتعاضدهم". وهكذا تمّ تسخير القنوات التلفزيونية الرسمية في تعديد مناقب الفقيد، ما أتاح للمذيعات فرصةً للتعبير عن حزنهن من غير حجْرٍ أو رقابةٍ فتهدّجت الأصوات .. وترقرقت الدمعات .. وبكى المشاهدون. ومن جهةٍ أخرى، فإن المعارضة بدورها قد رحبّت بتلك الهجمة "الحوتية" التي ضخّت الدماء في عروقها بعد أن يبِست من طول "القُعاد" فراودها الأمل أن تُغيّر مسار تلك "الهجمة" لصالحها. وأما من تجرأ وانتقد شيئاً من مظاهر الغُلو والمبالغة التي صاحبت تشييع الفقيد فقد نالته سهام الشتائم والتجريح، حتى أصبح الحديث في ذلك الموضوع بمثابة منطقة محرّمة، مسوّرة بالأسلاك الشائكة، يُمنع الاقتراب منها أو التصوير أو النقد مهما كان درجة موضوعيته. إن ما قام به أولئك الشباب من تخريب أياً كانت تبريراته ودوافعه لهو أمرٌ مُستَهجَن لا يُبشّر بصلاح حال المجتمع. وإذا كان أولئك الشباب يتباهون بأنهم يمثلون جيل "محمود عبدالعزيز"، فمن الأحرى بهم أن يأخذوا النواحي الإيجابية في شخصه. فقد كان الفتى – كما وصفه معاصروه - وديعاً خيّراً مسالماً، نقي السريرة، مُرهف الحِس، فلم تطأ أديم وجهه أقدام الشر والقسوة والعبوس، وكان نصيراً للضعفاء والمساكين، يمد لهم يد العون، ويواسيهم بماله ومشاعره. وبالتالي فإن من كان يتمتع بكل تلك الصفات الإنسانية النبيلة، لا أظنه سيوافق على ما يجري باسمه من العنف والمغالاة في التعصب والتقديس للأشخاص، بما يخالف الشرع والموروث الأخلاقي للشعب السوداني.