صديقنا عز العرب حمد النيل شاعر مجيد وأديب نحرير وخطيب مفوه ذكي الفؤاد غيبته عنا شواغل الحياة وشواردها ، إلتقينا ذات مرة إثر هروعنا المتسامح وطنياً وسياسياً إلي فتي كفيف من شباب (الإتحاديين) قد سقط من الدور الثالث وكان طريح الفراش بالعناية المركزة ، بعد إطمئناننا علي أحول الفتي مازحني الصديق عز العرب مداعباً (طيب يا خالد إنت ما كويس) كان يدرك الحيف الذي شملني بوجه شخصي من لؤم الشمولية ورحابة اليسار الذي يؤويني . عز العرب حمد النيل بعيداً عن سياقه الشعري الذي يضيف رصيداً بائناً لكونه من أصحاب النهج اليراعي علي سنان أقلام أثلمها التدجين والمجانية . تعارفنا منذ تسعينيات القرن المنصرم (بنزل الغرباء) كما أحب أسميه ذاك النزل الكائن بالفتيحاب محطة السراج رغم تواضع الجالوص الفحل والزبالة المائزة التي شيدت بنيته الهزيلة مظهراً والصلبة العود كينونة ، إلا أنه كان قبلة أهل الفكر ومنتجع (وسيم) يؤمه كثير من أهل النهي وقطنه الكثير من أصدقائنا المودعين أوضار المنافي منهم صديقنا الناقد الحصيف والمدقق عبد المنعم عجب الفيا رد الله غربته . في ذاك النزل إلتقيت وأنا يافعاً بمحمد إسماعيل الأزهري عليه شآبيب الرحمة وأظن كان يزوره محمد محمد خير ، كنا حينها زغب يفع إنسللنا للتو من حنتوب الثانوية بعد تصفيتها بلؤم شمولي وجرد حساب سياسي من قبل حكومة الحزب الواحد لندخل حوش مدني الثانوية لنشعلها حراكاً بعد تغييرنا للإتحاد بمدرسة حنتوب الذي تربع علي سدته الإسلامويون منذ تقلدهم مقاليد السلطة ولعله لم يعجبهم الأمر فاغلقوا ابواب حنتوب الثانوية . فأجيء من مدني لأنزل بنزل الغرباء وذاك لمتابعة فعالية ثقافية أو ندوة شعرية نستجير بها من رمضاء زخم الأكاديميات لرحابة الحرف الذي يصادف هوي في أنفسنا لا فكاك من الهوي لزغب ينشدون المعرفة لم يفي بها وطن ظنوه مأوي وسقفاً طلاقة في الفكر ورحابة في الرأي . في إحدي زياراتي الراتبة لنزل الغرباء دعاني الصديق الناقد عبد المنعم عجب الفيا منتصف التسعينيات لندوة السيد أبو حراز بداره العامرة بالملازمين التي يؤمها أساطين الفكر والسياسة فكان صديقنا عجب الفيا يقدم الورقة الرئيسة في تلك الأمسية إلتقيت بالصديق ضياء الدين بلال ولم يكن وقتها ذائع الصيت كحاله هذه الأيام لكني لمحت فيه مستقبلاً واعداً فلم يخذل رؤيتي . أذكر عندما كتبت رداً علي صديقنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم بجريدة الصحافة جاء ردي تحت عنوان (ما بين جيل الصدي وجيل الدردرة) والشيء بالشيء يذكر حمل المقال صديقنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم بنفسه وأشرف علي نشره وتلك رحابة في الفكر وديمقراطية في السلوك وتتطابق للشعار والممارسة ، هاتفني ضياء إثر ذاك المقال قائلاً لي (لولا أنك طبيب أقصي أماني أن تكتب معنا في الرأي العام) ضياء يدرك مهنة الكبد هذه من تجربة شخصية لأنه رأي أخاه الطبيب كيف يكابد وجه الحياة الصلدة وإقحاح الرهق في هذا الحقل الشاق . ملأني الأمر غبطة وحبور وزادني ثقة علي ثقة وكنت أتهيب التجريب وزج نفسي في أمور تستصغر الشأن ولي قصص مع هذا الأمر كنت أتعمد إرسال نصوصي الشعرية ومقالاتي لمحرري الصفحات الثقافية خشية ان يعرج بهم الأمر إلي صغر سني عمري وأنا الذي بدأت الكتابة في سن باكرة من العمر فهداني الأمر من بعد صداقات راسخة وقوية يحفها التقدير والإعجاب لا الملق والمداهنة . يحضرني في هذا المقام القاص الأمريكي (بوب) الذي وضع حداً لحياته منتحراً لا لشيء سوي الإيمان . الإيمان بمعناه المسوغ لتقديم عمل جدير بالإحترام إذ قال : (إن أول من آمن بي في بواكير تجربتي الكتابية هي أمي ، كانت تدعمني وتحفزني وتشد من أزري في طريق شاق ووعر) من هذا المقام أطلق التحية خالصة لصديقنا كمال الجزولي الأكثر إيماناً برؤي الأجيال المجايلة والأكثر يقيناً أن في القرارة فسحة لنصوص تؤازرها التجربة لدماء جديدة وطازجة والتحية للدكتور حيدر إبراهيم علي وحيدر حالة خاصة ، حين قابلته لأول مرة تشكل عندي إنطباعاً حسناً لازمني لبقية سنين معرفتي به وما زالت . رجل في الخمسين وقور وبادي الذكاء حاضر البديهة متقد العينين وقاد النهي ذي حضور آسر لا تلبث أن تجد فيه رحابة الصديق وحميمية الإخاء ، لم أجد كثير عناء حتي تتوطد عري الصداقة بيننا لقد سعي إلي وسعيت إليه وأنا الذي كنت مأخوذاً بكتابه أزمة الإسلام السياسي فأقبلت علي قراءته بنهم وتدقيق ثم أعدت تلخيصه وقراءته كتابة علي صفحات جريدة الصحافة في فأخبرني المشرف علي الملحق السياسي وقتها أن الرجل يبحث عني فذهبت إليه بلا تردد في مركز الدراسات السودانية قابلني الدكتور حيدر بحفاوة بالغة وكرم فياض ، أهداني كتبه الصادرة حينها وأمهرها بإهداء يصلح لإرساء دعائم القيم وترصيف لبنات المعرفة والإخاء ، لا غرو فحيدر إبراهيم علي قدمني إلي الناس ، كان وما زال يدافع وينافح عني سراً وعلانية أفرد لي مساحات واسعة علي صفحات مجلة كتابات سودانية وشرفني بتقديم ورقة في تلك الندوة (الوحدة والتنوع) التي أقامها المركز علي شرف ترجمة أعمال د. فرانسيس دينق التي قدمت فيها أطروحتي (الإنسانوية) في نقد أطروحات الهوية ، كنت أصغر متحدث بالندوة إلي جانب الشاعر كمال الجزولي ونفيسة المليك والحاج وراق ومحمد إبراهيم كبج وآخرون . حيدر إبراهيم رجل يحترم العقل رهانه دوماً علي قوة الطرح ومبدئية الفكرة يفسح المجال لكل صاحب قلم غير داجٍن وكل صاحب نفس أبية تواقة لحصب الرؤي والسجال بحصي المنهج وشفافية الطرح . تناقشنا وتفاكرنا وتآخينا كثيراً ظل حيدر معجب بنصوصي الشعرية يجادل بها كبار الشعراء وكان يقول لهم : (هذا الولد الصغير تفوق عليكم ويعضد قوله بنص شعري) كتب لي تقريظاً علي غلاف احدي كتبى المؤمل ان يصدر قريبا فتجلت أمانة الكلمة وصدق المقصد فلا جاء يوم شكرك يا حيدر . وهذا باب أجترح فيه شكر الناس أحياءاً ولا تثريب ونحن أمة أدمنت وبرعت في تبجيل الأموات . KHALID OBIED [[email protected]]