سعر الجنيه المصري مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار في السودان اليوم الإثنين 20 مايو 2024 .. السوق الموازي    البرهان ينعي وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته ومرافقيه إثر تحطم مروحية    والى ولاية الجزيرة يتفقد قسم شرطة الكريمت    علي باقري يتولى مهام وزير الخارجية في إيران    موعد تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    الحقيقة تُحزن    شاهد بالفيديو هدف الزمالك المصري "بطل الكونفدرالية" في مرمى نهضة بركان المغربي    هنيدي يبدأ تصوير الإسترليني بعد عيد الأضحى.. والأحداث أكشن كوميدي    مانشستر سيتي يدخل التاريخ بإحرازه لقب البريميرليغ للمرة الرابعة تواليا    إنطلاق العام الدراسي بغرب كردفان وإلتزام الوالي بدفع إستحقاقات المعلمين    رشان أوشي: تحدياً مطروحاً.. و حقائق مرعبة!    (باي .. باي… ياترجاوية والاهلي بطل متوج)    الجنرال في ورطة    الإمام الطيب: الأزهر متضامن مع طهران.. وأدعو الله أن يحيط الرئيس الإيراني ومرافقيه بحفظه    محمد صديق، عشت رجلا وأقبلت على الشهادة بطلا    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    نائب رئيس مجلس السيادة يطّلع على خطة وزارة التربية والتعليم ويؤمن على قيام الإمتحانات في موعدها    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أعطني قطعة سُكر! ... بقلم: فتحي الضَّو
نشر في سودانيل يوم 23 - 08 - 2009

سيتزامن صدور هذا المقال مع اليوم الثاني لشهر رمضان الفضيل. ودعونا نهتبل هذه المناسبة العظيمة لنزجي فيها التهاني القلبية لكل القراء الكرام ممن يدينون بالدين الاسلامي، ونبتهل للمولى تبارك وتعالى أن يعينهم على قضاء هذا الشهر صياماً وقياماً، وأن يترفق بهم، وبكافة عباده الذين يتبعون دياناته السماوية الأخري، ونسأله كذلك أن تشمل رحمته اصحاب كريم المعتقدات الروحية. وسواء هؤلاء أو اولئك من أهل السودان، فأنت تعلم يا مولاي أن من بينهم من ظلَّ صائماً الدهر كله، بل فيهم من جاء لهذه الدنيا وغادرها دون أن يحس به أحد، تماماً كالظل عندما يسقط على الجُدر الصماء. كلهم عبادك يا رب وأنت وحدك المعبود والقادر على رفع من تشاء وذل من تشاء. ولأن الفقر ظلَّ ضيفاً مقيماً بينهم ما أقامت جبال راسيات في بلادهم، فأنت تعلم يا الله إنهم ليسوا في حاجة للصوم لكي يشعروا بحال المستضعفين في الأرض، ولكنهم يصومون خضوعاً لمشيئتك وامتثالاً لإرادتك وتقرباً لك بركن خصيت به ذاتك العليَّة دون سائر أركان الاسلام (كل عمل إبن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا اجزي به) اللهم يا مثبت الإيمان في الصدور، ويا جامع الخلق يوم النشور، إن كان بيننا من تلاعب بعقيدتك السمحاء، أرنا آياتك في أنفسهم وفي الآفاق، اللهم يا واهب الأرزاق ويا باسط العدل، إن كان وسطنا من عاث في أرضك فساداً وتفانى في اكتناز الذهب والفضة من دماء المعدمين، فأكوى بها جباههم في الدنيا قبل الآخرة بمثلما بشرتهم في كتابك الكريم، اللهم يا خالق الثقلان ويا رافع السماء بلا عمد، إن دينك دين رحمة وقد عبث به العابثون، ودينك دين مودة وقد عصف بها المرابون، ودينك دين تسامح وقد أضر به المكابرون، وتعلم اللهم يا حنَّان ويا منَّان إننا دعوناهم بما أمرتنا، وجادلناهم بما ذكَّرتنا، وخالفناهم وفق ما علمتنا، لكنهم إزدادوا تجبراً وتكبراً وعتوا عتواً كبيراً.
أما بعد...فالمسلمون يصومون لرؤيته ويفطرون لرؤيته، ولكن عباد الله المذكورين ظلوا يصومون لرؤية نجوم عز الظهر، ولا يفطرون إلا عندما يعود القمر كالعرجون القديم. المسلمون في فجاج الأرض يمسكون عن الطعام عندما يتبينوا الخيط الأبيض من الأسود من الفجر، ولكن عباد الله المذكورين يواصلون صيام الليل بالنهار حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. المسلمون يبسطون أمامهم الموائد العامرة بلحم طير مما يشتهون وبفاكهة مما يتخيرون، ولكن عباد الله المذكورين تكاد روحهم تصعد إلى بارئها وهو يمنون النفس بالعثور على قطعة سكر. هل قلت قطعة سكر؟ نعم، وهل هناك غيرنا في هذا الكون ممن يعطي السكر حق قدره، يغني له مغنونا وينظم شعراؤنا فيه القصيد الذين يذكرون به محاسن حبيباتهم، وكذلك نهدد به اطفالنا حتى ينامون، وكدلالة على حسن تقديرنا له أقمنا له بدل المصنع خمس مصانع، كبيرها لا يوجد له مثيل في العالمين العربي والأفريقي، ومن فرط ولهنا به لم تخل الصفحة الأولي في أي صحيفة من (تحلية) موادها بخبر عن السكر منذ ما يناهز الشهر. ولكن أين هذا السكر المزعوم؟ أخالكم أيها الصيَّام القيَّام وقد قضيتم سحابة يومكم وأنتم تتحدثون عن السكر الخفي وطلاسمه، ولا شك أن فيكم من نبتت لهم قرون في رؤوسهم بعد أن عجزوا عن الوصول لحل لتلك الطلاسم في ظل تصريحات متناقضة يأخذ بعضها برقاب بعض. ولا شك أنكم مثلي طالعتم ذاك الخبر الذي عُمم بصيغة واحدة على الصحف، نقتبس ما جاء على صفحات (الرأي العام 17/8/2009) أو (خزام) الصحف إن شئت الدقة، وأرجو ألا تكدرني يا عزيزي القاريء وتقول لي لماذا الرأي العام؟
المهم إن قالت لكم قولاً كهذا فصدقوها «أعلنت الإدارة العامة للجمارك عن وصول كميات كبيرة من السكر المستورد للأسواق بسعر (104) جنيهات للجوال. وكشف اللواء سيف الدين عمر سليمان مدير الإدارة العامة للجمارك عن فتح باب استيراد السكر بدون أية زيادة في جمارك السكر. وكشف سيف أنّ الجمارك وضعت جملة من التدابير والمعالجات لحل مشكلة ارتفاع أسعار السكر، وأكد سيف أنه ليست هناك أية زيادة في الرسوم الجمركية لسلعة السكر» وحتى يوقر حديث مدير الجمارك هذا في العقول، ألحقته الصحيفة نفسها بإضافة قالت فيها «وفي هذا السياق أعلنت وزارة الصناعة عن توافر سلعة السكر وبكميات كبيرة تكفي استهلاك البلاد حتى موسم الانتاج المقبل» ولمزيد من (الفهلوة الصحافية) جاءت برواية أخرى «وقال المهندس علي أحمد عثمان وزير الدولة بوزارة الصناعة في تصريحات صحفية أمس عقب اجتماعه مع المسؤولين بشرطتي سكر كنانة وشركة السكر السودانية، إن الكميات الموجودة والمتوفرة تبلغ (280) ألف طن سكر، وأشار إلى أن استهلاك البلاد من سلعة السكر في شهر رمضان تبلغ (60) ألف طن، وحمّل الزيادة التي طرأت على السلعة أخيراً للتجار، الذين قال إنهم هدفوا منها الى تحقيق أرباح طائلة، وأكد التزام شركتي سكر كنانة والسكر السودانية بتوفير حصة التجار من السكر» أنا مثلك يا عزيزي القاريء داهمتني استفهامات من النوع الصاعق، فإذا كان السكر متوفراً وبكميات كبيرة تكفى استهلاك البلاد حتى موسم الانتاج المقبل كما قال وزير الدولة، فلماذا يفتح مدير الجمارك الاستيراد؟ وإذا كان الكميات المتوفرة تلك تبلغ 280 ألف طن كما ذكر، فلماذا نحتفظ بها في مخازن مدسوسة في حين أن المواطنين سيستهلكون أقل من ربعها في رمضان أي 60 ألف طن كما أشار؟ أما أم الاسئلة والتي لن تفوت على فطنتك وحصافتك سؤال فيها يقول: أليست فاتورة السكر هذه قد مُزقت وأكلها النمل؟
من حسنات هذا الشهر المُعظم إنه لا يمنحك القدرة العقلية على اكتشاف الأكاذيب فحسب، وإنما يمنحك القدرة أيضاً على التامل في أحوال بلد كاد شعبها من كثرة أدمان هذه الظاهرة أن يصدر أرتالاً من الفلاسفة. من هذه الزاوية - أعلم يا عزيزي القاريء - أن تفكيري هداني إلى تفسير لا يخلو من غرض في البحث عن السكر وظاهرة انعدامه أو شحه أو اختفائه أو دلاله وتمنعه عن الظهور، ويقول أن المغرضين مثلي يفترون على العصبة ذوي البأس كذباً، لأن السكر بالفعل متوفر وإنه ليس كما يشيع البعض ارتفعت اثمانه وعزَّ ظهوره، فالاحتياطي الموجود من السكر الأبيض الذي أشار له وزير الدولة هو مجرد تحسباً لليوم الأسود، وأن الذين يقولون أن سعره أكثر من سعره في بلدان مجاورة ليست فيها زرع ولا ضرع هو مجرد إفتراء، لأن ذاك هو سكرنا نفسه وحكومتنا أعزها الله ونصرها على مروجي الفتن شملت مظلة رعايتها جيرانها. كل الرواية التي داخل الرواية تقول أن الحكومة الرشيدة من فرط اهتمامها بصحة مواطنيها فهي تحرص كل الحرص ألا يفرطوا في تناول السكر، بعد أن ثبت علمياً من خلال الدراسات المكثفة إنه ضار بالصحة. ولأن الكثير من مواطنيها لا يريدون تصديق ذلك فقد تردد أن الحكومة الرضِيَّة لجأت إلى فقهاء الضرورة الذين إستلوا لها من بين الكتب الصفراء احاديث لأقوال مأثورة، ولم يجدوا في أنفسهم حرجاً لنسبها للصحابي الجليل (حمال الأسية) سيدنا ابو هريرة رضى الله عنه، فقولوه قولاً يقول: أحذروا الأبيضين، أي الملح والسكر!
لكن الطابور الخامس لا يدع مثل تلك الدعاوي تمر مرور الكرام، قالوا إن أحاديث الكواليس تقول إن الحكومة البهية والمهجوس فيها السيد كمال عبد اللطيف بفكرة الحكومة الالكترونية، والتي بشر بها عباد الله الصابرين، وقال أن تباشيرها بدأت تهطل بالفعل على الوزارات كمبيوترات ورسفيرات ووعداً وتمنى. المهم في الأمر، أنها أي الحكومة الواقعية استعانت بالحكومة الالكترونية، وهالها ما اكتشفته من احصائيات تقول أن شعوب السودان صارت صاحبة أكبر معدل لمرضى السكر، وتقول الاحصائيات أن تلك الأعداد المهولة تضاعفت وتكاثرت ونمت في العقدين الماضيين، فوضعت الحكومة هذه المعلومة كواحدة من أسرار الدولة العليا، وإلحاقاً للظاهرة إكتشفت أن فاتورة استيراد أدوية وعقاقير داء السكر تعادل من العملات الصعبة نفس عملات صادر مصانع السكر، ولهذا فالحكومة الحريصة على اموال مواطنيها تخشى أن تتسرب هذه المعلومات لأعداء الله والوطن، لأنهم حتماً سيستغلونها أسوأ استغلال، فلا مناص من أنهم سيقولون: طالما أن فاتورة استيراد أدوية السكر تساوت مع فاتورة تصدير السكر، فلماذا لا تغير الأخيرة إلى مصانع أدوية داء السكر. وهذه ستكون أحسن حالاً من معلومة أخرى إن راجت فستكون وبالاً عليها، وهي تلك التي ستربط بين زيادة معدلات المصابين بداء السكر في العقدين الأخيرين وصلتها بالأمر! هذا شعب يصعب حكمه إن وفرت له ما يريد تذمر، وإن حرمته من ما يريد تأفف، وإن لم تفعل لا هذه ولا تلك نظر إليك شذراً وقال لك كأنه تنسم نفحة من نسائم الجنة...ساكت ليه ما تعمل حاجة؟
لذا فقد اتضح أن الروايات سيل لا ينقطع، فالمغرضون في المدينة تأهبوا لرد حجة الحكومة على عقبيها، وقالوا لا هذا ولا ذاك...المعروف علمياً أن سكرنا هذا أو السكروز أحد انواع السكريات الثنائية المشكلة من ترابط سكريين أوليين هما الجلكوز والفركتوز (سكر الفواكة) وهو الذي ينتج الكربوهيدرات للجسم والتي لها عدة وظائف منها أنها تعد مصدراً سريعاً للطاقة، ولهذا فإن هذه المحصلة لن تسعد الحكومة الرشيدة، ولا يظن عاقل أنها تمني النفس بمواطن يتمتع بالنشاط والحركة الدؤوبة، فذلك - كما تعرفون - سيفتح لها ابواباً من جهنم لا قٍبل لها بها. ويقولون أن من فوائد الكربوهيدرات أن الدماغ وبقية الجهاز العصبي المركزي لابد له من توفير الجلكوز لأنه مصدر الطاقة الرئيسي لهذا الجهاز الهام، وإن نقص الجلكوز في الدم يؤدي إلى ضعف عمليات التفكير والتركيز الذهني وبالتالي تكثر الأخطاء في المواقف التي تحتاج إلى سرعة التفكير وحسن التصرف. وعليه لن يعتقد عاقل أيضاً أن الحكومة البهية حريصة على مواطن ذكي يتمتع بذهن وقاد وعقل لماح، وعوضاً عن ذلك فإنها تبحث عن مواطنين مشوشين، إن إنقطعت الكهرباء أطل عليهم أحد جنودها المجهولين وحدثهم عن فوائد الظلام، وإن تكاثر البعوض جاءهم من أقصى الحكومة رجل يسعى وذكرهم بنظرية البعوض الضار والبعوض النافع كالباكتيريا تماماً أو كما قال. وعندما تستخرج البترول ولا يرى له اثراً لا في حياته ولا معيشته ولا عرباته يطلون عليه ويحدثونه عن كيف أن الصحابة الكرام كانوا يتقشفون ويعيشون الدهر كله على شق تمره. وعندما تنعدم المياه وتصبح العاصمة عيساً عطشى في بيداء تحمل الماء على ظهورها، يجيؤك فقهاء السلطان ليحدثونك عن التيمم لأنه ابرك للجسم وأوفر للماء، يريدون شعباً إن طلب منهم تحسين (صينية) الطعام قدموا له (صينية) الحركة...يريدون شعباً إن حدثهم عن التعدد الحزبي جاوبوه بتعدد الأزواج!
ولعل القول الأخير هذا فتح باب الاجتهادات مجدداً في أمر ظنناه انتهى، إذ تدافعت الآراء مرة أخرى بحثاً عن اجابة لشئون وشجون السكر، ولأنه ما زال هناك من يحسن الظن في هذه الحكومة السنية، فقد تمسكت بقولها الذي أكدت فيه أنها لا تعمل في دنياها هذه إلا من أجل صحة ورفاهية المواطن، ولهذا فإنها ومنذ فترة طويلة عملت على تشجيع المنتوج المحلي، ووضعت خطة عشرية تهدف إلى إحلال التمور مكان السكر وهي ظاهرة لا تحتاج لإثبات، لعل الجميع ظلوا وما أنفكوا يرون صحون التمور بأم أعينهم وهي تكاد تسد عين الشمس، بدءا من اجتماعات مجلس الوزراء، مروراً باجتماعات الولاة وحكوماتهم، وانتهاءاً باجتماعات الخلفاء الراشدين، وإلحاقاً بالتابعين غير الراشدين، وكل ذلك لحكمة هبطت عليها من خبراء التغذية، تقول أنه ثبت علمياً احتواء التمور على الأنواع الغزيرة للمعادن كالفسفور والأملاح والفايتمينات، ومنهم من تبارى في ذكر فوائدها تلك بزيادة فوائد أخرى يمكن أن تجعل من شجرة النخيل (صديقاً وقت الضيق) لكثير من الناس، وربما حرضت البعض على ان يعقد معها حلفاً أبديا، المهم أن اهتمام الحكومة الفريدة بالتمور يدل على اهتمامها بصحة ورفاهية مواطنيها، لأن خبراء التغذية يقولون أن المعادن والأملاح المذكورة تؤثر على عمل الدماغ، وتسد ما ينقص الجسم من عناصر غذائية، ولذلك فإن تناول التمور وبشكل يومي يؤثر على الحالة النفسية، وتلقائياً يؤدي إلى مزيد من الاستقرار النفسي، وهو غاية الحكومة في حكم هذا الشعب الفضل!
لكن المتربصون في المدينة، لا يجعلون ذلك يمر مرور الكرام، وقالوا تلك كلمة حق أريد بها باطل، ذلك لأن خبراء التغذية اكتشفوا أيضاً أن استعمال شراب التمور يمكن أن يستخدم لعلاج القلوب الضعيفة، كما يمكن استعماله للضعف الجنسي، وإذا مزج التمر مع الحليب والعسل فسوف يشكل شراباً فعالاً لعلاج الاضطرابات الجنسية لدى الجنسين، وفي الطب النبوي قيل إنه يزيد الباءة، ويمكن أن يتناوله المسنون أيضاً لتحسين قوتهم وتخليصهم من السموم المتراكمة في خلاياهم طوال سنوات عمرهم. وثمة من قال إنه اكتشف ضمن التعداد الأخير أن للحكومة اجندة خفية تهدف إلى زيادة تعداد الشعب السوداني تحت شعار (تكاثروا تناسلوا فإني مباهٍ بكم الأمم) وآخرون قالوا إنها تضع ضمن خطة الاستراتيجية ربع القرنية احتمال ظهور المهدي المنتظر لمواصلة تصدير المشروع، وذلك يحتاج لجنود معلومين. الحقيقة أن هذا التكاثر بدأ لنا قولاً أقرب للواقع وكدت أن اصيح (وجدتها) كما صاح أرخميدس ذات يوم، وذلك بعد ان توارد إلى ذهني ربط خفي بين التمور وإزدياد ظاهرة الزواج الخفي في المجتمع خلال العقدين الماضيين مثل الزواج العرفي ووزواج المسيار والفشار والبوبار (هاتان الأخيرتان مني ولا تندهش إن وجدت من يتبناهما غداً) ولا أدري لماذا كلما رأيت احدهم يمضع في التمور بشراهة دونما اكتراث للكاميرا المسلطة على وجهه يتوارد إلى ذهني مباشرة إلى أنه أحد المتلبسين بتلك الظاهرة الخفية، وعليه نقدم نصيحة لوجه الله للمنظمات المعنية بحقوق المرأة والمجتمع والتي تنادي بضرورة القضاء على تلك الظواهر الشاذة، ونقول إن شئتم لها انقراضاً فلتبدأوا حملة ضارية ضد صحون التمور المبثوثة في كل مكان وبخاصة تلك المصورة تلفزيونياً!
أنا اعلم أن هذا المقال معني به السواد الأعظم من السودانيين، والذين تراوح مستوى الفقر بينهم وفقاً لتقرير المجلس القومي للسكان الذي نشر مؤخراً (الرأي العام 18/8/2009) إلى نسبة (55%- 95%) والحقيقة أن هذه النسبة سبق وأن قالها الدكتور الترابي يوم كان الآمر الناهي، ومع ذلك لم تحرك ساكناً في نفس أحد. لكن الفارق الآن هو أن تقرير الصندوق المشار إليه قال إن النفط لم ينعكس على تحسين الظروف المعيشية للمواطنين، وما لم يقله إنها إنعكست بالفعل على بقية النسبة البالغة 5% وللأسف لن تقرأ هذا المقال لأنها ليست معنية به، وذلك يعني بالضرورة أن لا علاقة لها بالسكر موضع حديثنا، ومن البدهي أن تكون مشغولة حينئذٍ ب (موائد الرحمن) إما داعية أو مدعوة، وحينها ستنعم بحدائق وأعنابا وتين وزيتون ورمان وكل طعام بُشَّر به أهل الجنة، فلا حاجة لها بطعام الفقراء، أي الكثرة الغالبة الذين يكدحون كدحاً إلى ربهم حتى يلاقوه معصوبي البطون، ولكنهم بيض السرائر، طهر القلوب، أنقياء الألسن. أذكر في حوار طريف جمع بين الفلسفة والواقعية وأشياء أخر يصعب البوح بها، مع أنه جرى بين اثنين بسيطين يعدان من غمار الناس، كان ذلك في بداية تسعينيات القرن الماضي، ذات يوم من أيام رمضان في القاهرة، قصدت سيدة مسنة في العقد السابع تقريباً وأسمها (أم حسن) اعتدت أن اشترى منها حاجاتي من الخضروات في سوق صغير خلف العمارة التي أسكن فيها. وجدت بجانبها رجل مسن أيضاً، وما أن رآها تأكل في شيء حتى صاح كالمذعور، إنت فاطرة يا حاجة؟ يا سبحان الله مع إنو صحتك زي البمب أهي ولا مش كده يا بيه؟ برميه العبارة الأخيرة هذه فهمت إنه قصد إشراكي عنوة في الموضوع، ولكنني تبسمت ولذت بالصمت، فقالت له بهدوء شديد كأنها تلقى عليه وعظاً: بص يا حاج هو ربنا عمل رمضان عشان أيه؟ فقال لها بشيء من التهكم مش عارف. لم تكثرث لرده وقالت له بشيء من الثقة المفرطة، أنا حأقولك بقى، ربنا عمل رمضان علشان الناس اللي بتصوم تشعر بفقر الناس المساكين والغلابة اللزينا كده، طيب أنا لما أصوم عشان أشعر بأيه بقى؟ رأيت الرجل وقد جحظت عيناه كمن حوصر بشيء يصعب الافلات منه، ولكنه كشأن سائر المصريين في خفة دمهم المعهودة قال لها ساخراً: بتسأليني أنا ليه هو في حد قال ليك ولا مؤاخذة أنا الشيخ متولي الشعراوي!
يبدو أن للسكر قدر معنا لا فكاك منه، فحتى الشاعر الفلسطيني توفيق زياد (1929-1994) استدعاه في ديوانه المسمى (أمدرمان المنجل والسيف والنغم) وهو عبارة عن قصيدة طويلة اهداها لرفاقه من الشيوعيين السودانيين الذي أغتيلوا غدراً وغيلة في العام 1971
أعطني قطعة سكر
منذ عامين وفي حلقي مرارة
ومن العار الذي ذقت
شراييني حجارة!!
قيل أن احد العصبة ذوي البأس ممن ظلوا يشنفون آذاننا ببديع اللغة وسحر البيان، ويحسنون الحفاظ على التراث في خطبهم من شاكلة الكوع والبوع والجوع الكافر، قرأ له أحد مجالسيه ذات يوم مقطع قصيدة زياد أعلاه، فقال له الرجل بأوداج منتفخة مُعقِباً عليه: قول ليه يسمَّك فيها!
فقال له الآخر: لكن يا سعادتك ده ما مات زمان...!
حتى لو مات زمان والله الزيه ده في الجنة ما يضوقها!!
عن صحيفة (الأحداث) 23/8/2009


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.