التغيرات السياسية والاقتصادية التي حدثت مؤخراً مع بداية التسعينات جرفت معها منظومة القيم الاخلاقية والاجتماعية والتفكك الأسري واكتسحت معها آمال وأحلام الملايين من البشر وكانت وبالاً مدمراً وعبئاً لا يطاق، وأيضاً تحتمل أن يطلق عليها عنصرا الغرابة والادهاش. وفوق هذا كله أصبحت الثروات في أيدي فئة قليلة لكنها غاشمة ومتجبرة استطالت علينا نحن عباد الله المساكين في البنيان والعربات المظللة والمكاتب الوثيرة. وهي (أي الثروات) من المفترض أن توزع كما يتوزع نور الشمس وكما ينتشر الهواء في ليل خريفي جميل. ولكن الجشع وحب التملك سوف تظل أقبح الصفات لدى بنو البشر وخصوصاً حينما تكون متدثرة بعباءة الدين. فالتغيرات الاقتصادية عملت على تغيير المواقع الاجتماعية وتغيرت القناعات والمواقف السياسية وانتكست أو لنقل سقطت راية الثبات على المبادئ والقبض على جمر القضية، وصار الساسة في بلادي يبدلون أحزابهم السياسية كما يبدل الواحد منا فردة حذائه، وبكل وقاحة يعلنون أنهم تخلوا عن حزبهم لعدم وجود المؤسسية. وكأن الحزب الحاكم أصبح بقدرة قادر (الحزب الديمقراطي الأمريكي)، ولكن من المعلوم للقاصي والداني أن الحزب الذي تحولوا إليه (أي المؤتمر الوطني) موائده مخضرة، وملئ بجميع أصناف الطعام وما لذ وطاب، والمال يتحدث وفي بعض الأحيان يمشي على قدمين كما يقول الفرنجة. كان لا بد من هذه المقدمة لكي نُبين الآثار التي يتركها الفقر والدمار الذي يمكن أن يحدثه. حقائق وأرقام: ذكر موقع قضايا عالمية (www.globalissues) الأرقام والحقائق الآتية عن الجوع والفقر الذي يضرب بكلتا يديه كل العالم وخصوصاً الدول الفقيرة: هنالك أكثر من تسعة ملايين من البشر حول العالم يموتون بسبب الجوع وسوء التغذية سنوياً، خمسة ملايين منهم أطفال. في المملكة المتحدة أكثر من 70-40% من الطعام لا يتم استهلاكه. اليونيسيف أشارت إلى أن هنالك 25,000 يموتون يومياً بسبب الفقر، ويلقون حتفهم في القرى الأكثر فقراً على كوكب الأرض. أيضاً يقول تقرير نشرته منظمة بريطانية تعمل في مجال السياسات الغذائية يبين أنه في العقد الأخير بلغ حجم الطعام الذي يلقي به البريطانيون في صندوق القمامة 15%. ما يقارب الألف مليون من البشر دخلوا القرن الواحد وعشرين وليس في مقدورهم قراءة كتاب ولا امضاء أسمائهم. أقل من 1% مما يصرفه العالم على الأسلحة سنوياً يإمكانه أن يُدخل أي طفل على سطح البسيطة المدرسة بحلول عام 2000، وهو الشئ الذي لم يحدث حتى الآن ..! هنالك 350-500 مليون حالة إصابة بمرض الملاريا .. وأفريقيا تشكل 90% من حالات الموت بالملاريا. كيف يفسر خبراء قضايا دولية هذه الحالة؟ يؤكد موقع قضايا دولية أن الفساد هو العامل الأساسي وراء استشراء الفقر وتمدده وأنه يحدث في كل مستويات الحكم، الحكم المحلي، الحكومة القومية، المجتمع المدني. ومن الجدير بالملاحظة أن الدول التي تغيب عنها نسمة الحرية والديمقراطية والثقافية هي الأكثر فساداً. أيضاً يؤكد بروفيسور/ روبرت بيلد من جامعة كامبريدج في مقال له بعنوان (الوجه المظلم للتطور الاجتماعي)، أن الدول الكبرى والغنية ووكالاتها كانت جزءأ من الفساد الذي يحدث في الدول النامية وأيضاً أثر الحرب الباردة كان لها أثر كبير في استشراء الفساد ودعم الديكتاتوريات والمساهمة في عدم استقرار الديمقرايات الوليدة من خلال دعم المعارضة والقوى المناوئة للأفكار الديمقراطية. وأكثر أنواع الفساد خطورة وفتكاً بالبنى الاجتماعية والاقتصادية للدول ذات البنى الهشة هو الفساد التي تقوم به المؤسسات الكبرى في الدول الغنية والتي تقوم بتقديم رشاوى للحكام والمسئولين في الدول النامية من أجل الحصول على الامتيازات، خصوصاً تلك التي تتم في مجالات تجارة الأسلحة وانشاء الطرق وامتيازات البترول. وفوق هذا كله، مناخ الحرب الباردة ساهم في تخريب اقتصاديات الدول النامية وذلك من خلال عدد من العمليات العسكرية الغربية كان دافعها الأساس الحصول على النفط والموارد الطبيعية، ولكي يتم الحصول عليها تم تضخيم الخطر الشيوعي. لذلك استخدمت الدول الغربية الوسائل المعلنة مثل الدبلوماسية وأيضاً الأساليب المضمرة ... وفي الأثناء استخدمت الشركات الغربية الكبرى أسلوب الرشاوى للحصول على امتيازات النفط والمعادن، فكانت الرشاوى والهدايا للمسئولين من أجل الحصول على الامتيازات ... والجدير بالذكر أنه حينما لا يتم الإعلان عن العقودات بشكل شفاف (في مزاد عام) وإنما يوجد نوع من السرية والتكتم، مما يؤدي إلى احتكار شركة واحدة لمعظم الامتيازات كما يحدث في سلعة البترول ولذا تصبح تلكم الشركات مدعومة من قبل الدولة التي تنتمي إليها، وغالباً ما تكون الدولة التي تمتلك تلك الموارد محتاجة إلى الدولة القوية التي تنتمي إليها الشركة الى دعمها في المنابر الدولية ومجلس حقوق الإنسان والأمم المتحدة، وخصوصاً إذا كانت تمتلك حق الفيتو وأيضاً دعمها بالأسلحة والمرتزقة (arms and mercenaries) (انظر إلى علاقة الصين والسودان). وأخيراً غياب الديمقراطية والشفافية والمحاسبة في كل أجهزة الدولة يؤدي إلى استشراء الفساد مما يؤدي إلى تمدد الفقر وتمكنه من الفقراء. أيضاً عدم قيام الدولة بمهامها في الصرف على التعليم والصحة يؤدي إلى إفقار المواطن؛ والتعليم خصوصاً حينما يكون ذو رداءة عالية وكمي وليس نوعي يؤدي إلى إفقار الأسرة على المدى الطويل. ففي سودان اليوم الفقراء يزدادون فقراً والأغنياء يزدادون غنىً وهذا يؤدي إلى الشرور الاجتماعية والجريمة بكافة أنواعها والعنف ويدمر النسيج الاجتماعي، فمعظم صحف الخرطوم تنضح بإعلانات الطلاق بسبب الإعسار. وتفكك وخراب المشاريع الزراعية في القطاعين التقليدي والحديث أدى إلى إفقار المواطنين ونزوحهم الى المدن التي تعاني من تقص الخدمات والازدحام، فكان مصير النازحين هو العمل في مهن هامشية لا تسد رمقهم، وبالرغم من (تفاهة) المهن التي يمتهونها إلا أن بوليس (الكشة) كان لهم بالمرصاد، وفي أثناء القبض عليهم يدخلون في العمارات الغير مكتملة مما يؤدي إلى سقوطهم وموتهم، وهم سقطوا حينما لم يتمكنوا من الصعود إلى أعلى السلم الاجتماعي والاقتصادي عن طريق التعليم الجيد، وأيضاً سقطوا حينما عبث رأس المال الطفيلي والمتمكنين والأثرياء الجدد بالاقتصاد السوداني!! ففي ظل دولة الأصولية الاسلامية أصبح المواطن سلعة تجارية تُباع وتُشترى ... وقديماً قال فيلسوف التنوير الأكبر إيمانويل كانط: ممنوع استخدام الإنسان مجرد وسيلة لتحقيق هدف ما، أو (كأجر كرسي) وإنما ينبغي النظر إليه دائماً كغاية بحد ذاته، ككرامة إنسانية لا يمكن المتاجرة بها أو احتقارها بأي شكل من الأشكال، فالاقتصاد خلق من أجل الانسان وليس تراكم الرساميل حتى التخمة. اذكر جيداً في بداية حكم الدولة الرسالية، حينما يسأل المواطن عن غياب أي نوع من الخدمات، يكون رد المسئول وبكل وقاحة أن الإخوة يقاتلون في الجنوب وأنتم تسألون عن خدمات ومرتبات!! ففي ظل تلك الأنظمة الاصطفائية المتعصبة فالأفكار الاصطفائية فوق الانسان وذلك ببساطة لأنها خالية من أي نزعة إنسانية. فسودان اليوم مختل التوازن، فهنالك الغنى الفاحش من جهة والفقر الفاحش من جهة أخرى وهذا بدوره أدى إلى انهيار منظومة القيم الأخلاقية وكل الشرور الأخرى ... جاء في الأثر أن الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري الذي عندما اختلت المساواة في حقوق المسلمين، في عهد عثمان بن عفان وصار بيت مال المسلمين (ملكية خاصة) للسلطة الحاكمة باسم الله، توزع منه على من تشاء، أطلق صيحته الشهيرة: (عجبت لمن لا يجد قوتاً في بيته، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه). وأيضاً ذهب علي بن أبي طالب: (إذا ذهب الفقر إلى مكان قال له الكفر خذني معك). God bless Sudan!