عوووووك يا ناس الابيض " امانة ما انكسر مرق" فجعت كما فجع الالاف من زملاء واصدقاء ومعارف برحيل المناضل ميرغنى شايب ( ميرغنى عبد الله مالك) .وبرحليه فقدت مدينة الابيض احدى هاماتها السامقة وواحد من انبل ابنائها. اشتهر بالعطاء المتواصل ونكران الذات ومحبة الاخرين وبرحيله الفاجع فقد اليسار السوداني مناضلا جسورا انتمى للحزب الشيوعي السوداني في سن مبكرة و تميزت عضويته بالاخلاص والجسارة مما اهله ليتبوأ عدة مسئوليات قيادية وتقديمه للجماهير كنموذج للمناضل الشيوعي، لا يتنكر لقضية شعبه مهما كان ثمن ذلك من تضحيات. وفقدت قضية الاستنارة شخصا مهموما ومشتغلا بها ومساهما في كل قضايا الثقافة. عرفانا لميرغنى ، الذى عرفته منذ طفولتنا بمدينة الابيض، واعتزارا بشخص تشرفت بصداقته ، وتقديرا حقيقيا وامينا لما قدمه لشعبه وحزبه ولمعارفه، اكتب هذه الكلمات التي لن تفي بدينه في عنقنا ولن تعكس كل ما تعلمناه منه ولا تملك الابانة او القدرة لتوضيح كل جوانب حياته ولكنها محاولة لاخراج بعض مكنونات الصدر. انها كلمات تهدف لابراز بعض جوانب حياة ميرغنى الشاب، غير المعروفة، ولاضافة بعض المعلومات البسيطة لما كتب عنه وايضا هى محاولة لتصحيح بعض ما كتب عنه. تعرفت على ميرغني، لاول مرة، عند حضوره المتكرر لمكتب حاج الطاهر المحامى والذى كان يستأجر منزلا لجدي ويستخدمه لمزاولة اعماله كمحام متميز ، عرفته ساحات المحاكم والسجون بالشجاعة والجراة. وللتأريخ اذكر ونحن صغار تلك القصة البطولية عن حاج الطاهر عندما ذهب لمكتب الزين حسن الحاكم العسكري لمديرية كردفان ، خلال الحكم العسكري الاول، وواجه الحاكم المشهور بالغلظة، في فعلته الشنيعة ضد حسنين حسن ( حسنين حسن هو احد قادة الحزب الشيوعى بمدينة الابيض قام الزين حسن بنفخه نعم اكرر نفخه بعد اعتقاله). تحمل احد العساكر الشجعان مهمة توصيل رسالة من حسنين لمكتب حاج الطاهر. توجه حاج الطاهر فور تلقيه الرسالة الى مكتب الحاكم العسكري بالقيادة الوسطى ، حيث تم التعذيب الذى كان الحاكم يعمل جاهدا ليظل سرا، وهاجمه بشجاعة منقطعة النظير و التى صارت احدى قصص الفلكلور السياسي الشعبي لمدينة الابيض. حضور ميرغني لذلك المكتب كان بسبب علاقة اخيه معتصم عبدالله مالك المحامى بحاج الطاهر وعملهما المشترك. ومن الطبيعي ان يتاثر ميرغني الشايب بتلك المواقف القوية التى بدرت من حاج الطاهر وان تلعب دورها في تحبيب مهنة القانون له كمهنة تعنى بالدفاع عن الحريات والحقوق الاساسية للانسان. كان ميرغني احد ابرز ابناء جيلنا بمدرسة الابيض الاهلية الوسطى ( وهي احدى انجازات مؤتمر الخريجين في برنامجه الهادف لنشر التعليم خلال العهد الاستعماري). وتميز عزيزنا الراحل، منذ ذلك الوقت المبكر، بسعة الاطلاع وموسوعية المعرفة وشغف حقيقي بقضايا الثقافة. وكان ذلك طبيعا لانه كان الاخ الاصغر للمرحوم معتصم عبد الله مالك، احد ابرز القانونيين اليساريين في فترة ستينيات القرن الماضى. واذكر اننا رافقنا ميرغنى لمطار الابيض لاستقبال جثمان معتصم والذى رافقه من الخرطوم عبد الخالق محجوب وعابدين اسماعيل ( النقيب الاسبق لنقابة المحامين). كما كان منزل الاسرة موقعا لقوى التقدم والتغيير بمدينة الابيض. وقد شهدنا فيه ، ضمن ما شهدنا، ندوة جماهيرية حاشدة للمرحوم عمر مصطفى المكى ( احد نواب دوائر الخريجين بعد ثورة اكتوبر ورئيس تحرير جريدة الميدان الاسبق ). والتقينا مرة اخرى بمدرسة الابيض الثانوية في معمعمة النشاط السياسى ، حيث تميز ميرغني على اقرانه بثقافته الواسعة وقدرته الفائقة على المحاورة والخطابة بصورته الجهورى ولغته الرصينة السلسلة. وكنا نعمل سويا في الجبهة الديمقراطية بالمدرسة . وكما تزاملنا فى اتحاد طلبة المدرسة حيث كان سكرتيرا ثقافيا للاتحاد وكنت نائبا له.وقد قام ذلك الاتحاد بالكثير من الانشطة العامة كان لميرغني الدور الاساسى في انجاحها. وكان من اهم اعمالنا ، في الاجازة الصيفية، قيامنا برصف شارع كامل بمدينة الابيض وهو شارع الناظر صبر ( الذي يبدأ من زريبة الصمغ شرقا ويمتد غربا حتى زاوية التجانية بالقرب من دار الثقافة الاسلامية) وقمنا بكل الاعمال الضرورية لاكمال رصف ذلك الشارع بعد ان وفرت البلدية المواد الاولية ومعلم لارشادنا حول كيفية اداء العمل. كما قمنا بنظافة العديد من الشوارع واذكر اننا اكتشفنا شارع مرصوف ولكنه مطمور تماما بالرمال مما حفز مهندس البلدية لمضاعفة وجبة الفطور لنا. وقرر محافظ المديرية ان يكرمنا ، بعد انتهاء البرنامج الصيفى، باقامة حفل بفرقة فنون كردفان ووزع علينا جوائز حسب الاداء والانتظام واذكر ان ميرغني كان الثاني على كل المجموعة ونال قميص دادا الصينى ( موضة تلك الايام). وقمنا ايضا بانشاء اتحاد طلاب كردفان وهو يشمل مناديب اتحادات مدارس الابيض الثانوية ( بنين و بنات والنهضة المصرية و الصناعية والمعهد العلمي) بالاضافة لخورطقت. وتركز نشاط ذلك الاتحاد على الجوانب الثقافية والسياسية. وتحول الاتحاد لموقع للصراع الفكرى العقلانى البعيد عن العنف البدنى او اللفظى مما يعكس النضوج الفكرى لابناء ذلك الجيل. ومثال واحد من صراعاتنا والذى يعكس الاجواء الفكرية في تلك الفترة كما يعكس التفتح المبكر لذلك الجيل. كنا نصيغ بيانا في ذكرى هزيمة يونيو 1967 ( الحرب الاسرائيلية العربية التى ادت لاحتلال غزة والجولان السورية والضفة الغربية).قضينا معظم النهار نتداول حول صيغة البيان ، الذى سيصدر باسم الاتحاد ويوزع جماهيريا، وقد وقفنا طويلا امام عدة نقاط ومنها نقطتين تمحور النقاش حولهما وتحول لسجال فكرى. النقطة الاولى هل نكتب نكسة يونيو ام هزيمة يونيو والنقطة الثانية هل نكتب الشعب العربى ام الشعوب العربية؟ كان يقود الرأي الاول اسماعيل عبد الله مالك ( الذي اصبح لاحقا احد القيادات البارزة في حزب البعث العربي الاشتراكي) وكان يقول بانها نكسة فقط وان الشعب العربى شعب واحد ذو رسالة خالدة.اما الرأي الاخر فكان يقوده ميرغنى والذى يصف ما حدث بانه هزيمة لانظمة البرجوازية الصغيرة العربية ( ناصرية وبعثية) واننا شعوب عربية تتفاوت في تطورها الافتصادي والاجتماعي والسياسي والذي تم في اطار الدولة القومية ( القطرية). قد لا يثير هذا النقاش اهتمام الجيل الحالي ولكنه انذاك كان انعكاسا لتطورات وصراعات ايدولوجية فى العالم العربي وعلى مستوى العالم. فقد كان ذلك الجيل يتابع التيارات الفكرية والسياسية على مستوى العالم. فالماركسية بمدارسها المختلفة والوجودية والليبرالية و كذلك التيارات الثقافية والتشكيلية. يعود بعض الفضل فى ذلك الزخم المعرفي لمصر الناصرية وانجازاتها الثقافية مثل مشروع المليون كتاب والسلاسل الثقافية والتراجم والمجلات ( كل ذلك كان باسعار زهيدة في متناول الجماهير الشعبية وهو درس حقيقي لكل من يود او يحلم بانجاز الثورة التقافية في بلادنا). وانذاك تردد كثيرا بان القاهرة هي عاصمة التاليف والخرطوم عاصمة القراءة ( على المستوى العربى). وكما تأثرت تلك المناقشات ( لطلاب في المرحلة الثانوية) باطروحات نايف حواتمة ( الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين) وجورج حبش ( الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين) المتركزة حول نقدهما للفكر القومي العربي وتبينيهما الكامل للماركسية. ولم تكن رياح الثورة والتغيير تهب من العالم العربى فقط، فقد شهد العالم ثورات الشباب في 1968 والتى هزت ساكن الحياة في فرنسا ( حيث كادت مظاهرات الطلاب واضرابات العمال ان تسقط نظام ديجول). وكما هز ربيع براغ الجمود والتحجر فى المعسكر الاشتراكي السابق وتحول الماركسية لعقيدة صماء. ولم تنحصر تلك الثورات في اوربا فقد واكبتها انتصارات حركات التحرر الوطنى في فيتنام ولاوس وكمبوديا وانجولا وموزنبيق وغينيا بساو ودعوات نكروما ونيريري للاشتراكية الافريقية. استوعب ذلك الجيل كل تلك التغييرات وترجمها لمواقف عملية في النضال من اجل التغيير في السودان. وكان ميرغني احد المتاثرين بذلك الزخم الثورى واحد الفاعلين في صنع الاحداث، فقد قاد مظاهرة حاشدة من مدرسة الابيض الثانوية دعما لمطالب العمال ( اعلن اتحاد العمال بقيادة الشفيع احمد الشيخ اضرابا عاما فى 1968، شاركت فيه اكثر من ماية نقابة، رفضا لمقترحات كادر العمال التى قدمها وزير المالية الشريف الهندى وكانت لا تلبي التضخم الذى حدث لتكاليف المعيشة ومطالبات اتحاد العمال المستمرة لتحسين اجور العاملين). وكانت تلك المظاهرة ، التى قادها، ميرغني تجسيدا للعلاقة التاريخية الراسخة بين الحركة الطلابية والحركة العمالية السودانية وهي امتداد طبيعى لمواقف اتحاد العمال الداعمة للطلاب واهمها موقف اتحاد العمال الشهير ضد السلطة الاستعمارية وتهديده بالاضراب العام عندما فصلت المئات من طلاب خورطقت الثانوية كعقاب للطلاب لقيامهم باضراب. ما قمنا به من عمل تطوعى وثقافى اعطى اتحادات الطلاب موقعا مميزا فى المدينة وفي انشطتها العامة. واذكر انه تم تكوين لجنة قومية بمدينة الابيض تشمل كل منظمات المجتمع المدنى للتفاكر حول قضايا المدينة وكيفية تطويرها. وكنا ، ميرغني وشخصي الضعيف، من مناديب اتحاد طلاب مدرسة الابيض الثانوية في ذلك الاجتماع. بهر ميرغني الحضور بلغته الرصينة وارائه النيرة. ولا يزال يرن في اذني تعليق احد الشيوخ الذين حضروا ذلك الاجتماع وهو يعلق على مساهمة ميرغني: " كلي ثقة على مستقبل البلد ما دام لنا شباب بهذا المستوى من الوعي والدراية". صدق ذلك الشيخ في التنبؤ بالدور المستقبلى لميرغني ولكن وللاسف لم تصدق توقعاته حول مستقبل البلد ( والله يجازى الكان السبب). بعد نجاح ميرغني في الالتحاق بجامعة الخرطوم وبروزه في النشاط العام جاء للابيض في اول اجازة. وتصادف زيارته للابيض مع قرار سلطة مايو باقامة الاحتفالات القومية في عواصم الاقاليم . وكانت ضربة البداية اقامة احتفالات عيد الاستقلال بمدينة الابيض في الفاتح من يناير 1971. وتقرر حضور كل الطاقم الحاكم واعضاء السلك الدبلوماسي لذلك الاحتفال وقد خصص قطارا كاملا للضيوف. وكان الصراع بين الحزب الشيوعي وسلطة مايو في اوجه خاصة بعد هزيمة التيار المتحالف مع السلطة ، ما عرف بجناح معاوية، في المؤتمر الاستثنائي الذي انعقد في اغسطس 1970 وانقسام قادة ذلك الجناح من الحزب. صعدت السلطة من العداء للحزب واصدر نميري قرارات 16 نوفمبر 1970 والتى عزلت بابكر النور وفاروق حمدالله وهاشم العطا عن مجلس قيادة الثورة.قررت قيادة الحزب ان تواجه النظام من داخل الاحتفال. اعد المركز بيانا جماهيريا وأعد فرع الحزب بالابيض بيانا اخرا، كما تقرر خروج موكب بلافتات وشعارات. كتبنا العديد من لافتات الجباه الديمقراطية بمدارس الابيض وكانت كلها تحوي الشعارات المعادية للسلطة. اقيم الاحتفال بميدان تيتو وخرجنا بلافتاتنا وهتافاتنا وكان ميرغني احد قادة تلك المظاهرة. وقد توقف موكبنا طويلا امام المنصة الرئيسية التى كان يقف عليها نميرى ، مرددا الهتافات بقوة واصرار وقد سمع من تابع الاحتفال المذاع على الهواء مباشرة هتافاتنا التى شقت عنان السماء. تم اعتقالنا من داخل الموكب. هز الموقف نميري وقرر الغاء برنامجه المسائى والعودة فورا للخرطوم.تم اقتيادنا لمركز البوليس ( حيث مكتب الامن). وبعد مغيب الشمس بقليل تم اقتيادنا لمكتب حكمدار البوليس لمقابلة وزير الداخلية (ابوالقاسم محمد ابراهيم). في الطريق وقبل دخولنا لمكان ما سمى بالاجتماع اتفقنا ان يمثلنا ميرغني ويقدم دفاعا سياسيا لانه كان اكثرنا اطلاعا ومتابعة للوضع السياسي وافصحنا لسانا واكثرنا شجاعة فقام بمهمته خير قيام ( الدفاع السياسي في عرف الشيوعيين هو تحويل المحاكمة لمحكمة للسلطة ومن يمثلها ومن اشهر ذلك دفاع عبد الخالق محجوب اما محكمة نظام عبود ودفاع التجانى الطيب امام محكمة سلطة نميري). كنا 11 معتقلا تم ادخالنا للحجرة ثم حضر ابوالقاسم وخلفه عبد الباسط سبدرات. ولن انسى ما حييت اضطراب ابو القاسم امام قوة حجة ميرغنى واسلوبه الخطابي المتميز وشجاعته في المواجهة وعدم التردد في مواجهة ابو القاسم الذى اشتهر بالصلف. شعر ابو القاسم بضعف موقفه امام قوة حجة ميرغنى فلجأ للمهاترة حيث قال : " الشيوعيين ماكان عندهم مكانة فى البلد وانحنا عملنا لهم مكانة وهاهو الشيوعي سبدرات سكرتيرا لوزير الداخلية" ثم وقف ليخرج من الحجرة و عند الباب التف الينا قائلا " سأعطي المحافظ امرا بان يصرف لكم ماكينات رونيو علشان تسقطوا مايو ومايو لن تسقط بالمنشورات". المهم قضينا ليلة ليلاء بمركز البوليس، حيث وضعنا في حوش داخلي يقع خلف زنارين المحبوسين ولم نكن نملك غير ملابسنا التى في اجسادنا. ولم يقدم لنا اي شئ وهكذا قضينا الليلة نلتحف السماء ونفترش الرمال وما ادراك ما رمال الابيض في زمهرير يناير. وتقرر ‘ عند ظهيرة اليوم التالي، ارسالنا لسجن الابيض العمومي. قررت سلطات السجن ان نحبس في قسم يسمى بعنبر الاحداث وهو قسم شبه معزول عن بقية السجن، كما وافقت ان يحضر لنا اهلنا مراتب واكل بصورة يومية. قام اهلنا باحضار المراتب واذكر ان المرحومة والدة ميرغني احضرت له مرتبة وفوقها غطاء مصبوغ بلون برتقالي لمعرفتها باننا ننام ارضا. وخلال اسابيع قليلة اتسخت مراتبنا ( نحن مستجدي السجون). كما قاد ميرغني حملة وسطنا لاقناع اهلنا بعدم احضار أي اكل من البيوت وكان يكرر بان اطعامنا هو مسئولية من اعتقلنا ولا يمكن ان نكلف اسرنا بتكاليف اعتقالنا. وكان ذلك( المراتب والاكل) احد الدروس التي تعلمناها من اسرة عبد الله مالك العريقة في النضال ضد الانظمة العسكرية منذ ايام عبود. وهنا ( كما ذكرت) باننى استمعت ولاول مرة للخطيب المفوه عمر مصطفى المكى ( احد نواب دوائر الخريجين بالجمعية التاسيسية بعد ثورة اكتوبر 1964 ورئيس تحرير جريدة الميدان) فى ندوة جماهيرية حاشدة، اقيمت بحوش منزل عبد الله مالك بالابيض وهذا قليل من كثير مما قدمته هذه الاسرة المتميزة. وكانت اقامتنا الجبرية بذلك العنبر ( منعنا حتى من الخروج للرياضة فى ميدان داخل السجن) مليئة بالاطلاع والنقاش والسمر والقفشات المضحكة. واذكر ان عمنا محمد مصطفى كنين كان صاحب قفشات وسخرية مميزة يقولها بطريقة تجبرك على الضحك. ومنها اننا صحونا باكرا، بعد اول ليلة قضيناها بالسجن، فاخرج راسه من تحت البطانية وقال لنا ان جرس الطابور لم يضرب والحصة الاولى لم تحن بعد وعلينا العودة لمرتبنا يا فارات ( الفارات في لغة السجون هى المستجدين فى السجون الذين لا يفقهون النظام الداخلى غير المكتوب للسجون). وعندما اشترينا كتشينة من المساجين (كنا ممنوعين من كافة اشكال المكيفات وادوات التسلية وتزجية الوقت) وسأل احدنا الفورة كم؟ رد كنين بان الفورة مليون وردد ساخرا دا سجن يا بشر. خلال تلك الفترة قدم ميرغني عدة دراسات لمجموعتنا وكان يحدثنا كثيرا عن الجامعة وعن الانشطة المتنوعة التى تمور بها جامعة الخرطوم وكان كثير الحديث عن الجوانب الثقافية وخاصة المسرح الجامعى. ولا يزال يرن في اذني صوت ميرغني الجهوري المحبب وهو يردد مقاطع من مسرحية قدمها المسرح الجامعي وشارك فيها ميرغني: مارا مارا مارا مارا ماذا حدث لثورتنا يا مارا مازلنا فقراء يا مارا اليوم نريد التغييرات الموعودة اليوم نريد التغييرات الموعودة وهنا اذكر تاثير احاديث ميرغني عن الجامعة علينا فقد صارت قلوبنا تتعلق بتلك المؤسسة العريقة المتميزة كقلعة للمعرفة وللنضال في ان واحد. وقد تم اعتفالى وانا فى الصف النهائى للمرحلة الثانوية ، فقررت قيادة الحزب بالابيض ان توفر لي بعثة دراسية بالدول الاشتراكية وكان ردي هو انني افضل الدراسة بجامعة الخرطوم والبقاء بالسودان. واعتقد اننى تعلمت الكثير من دراستي بجامعة الخرطوم وهذا واحد من افضال فقيدنا العزيز على وهى كثيرة لا استطيع تفصيلها هنا. وهنا اود تصحيح بعض ما ورد في المقال المعبر الذى كتبه الاستاذ محمد موسى جبارة عن فقيدنا ميرغني، فقد ورد فيه: " غير ان الطالب لم يكتف بالتظاهر والاحتجاج بل تعداهما لشتم احد اركان النظام بعبارات مست وتر حساس في طفولته ذلك القيادي غير البرئية... استقبلنا ابوالقاسم واستمع الى طلبنا ( سكرتارية الجباه التقدمية) وكعادته تحدث اكثر من ثلاثتنا نافيا عن نفسه صفة الرجعية، مؤكدا انتماءه للديمقراطيين الثوريين وعدم اختلافه عن ثوريتنا... الا انه اضاف بان ذلك الطالب قد تلفظ بكلمات لم يشأ ان يذكرها لنا، بل طلب منا ان نسأل عنها عبد الباسط سبدرات...سبدرات اكد لنا صحة الحادثة بل ردد ذات العبارة التى اطلقها الطالب في وجه ابو القاسم محمد ابراهيم... وقد كانت عبارة قوية وصادحة لا تأتي الا من شخص يتمتع بذلك القدر من الجرأة والشجاعة....... استطعنا استخلاص وعد من وزير الداخلية باطلاق سراح الطالب ميرغني". وهنا اشعر بالغضب يغلي في عروقي والحزن يعصر قلبي ( في ان واحد) للدرك السحيق والمستنقع الاسن الذى يسقط في وحله بعض سياسينا وقادتنا ( في الماضي والحاضر) بقدرتهم على الكذب الصريح بدون ان تغمض لهم عين. فما ذكره ابوالقاسم لوفد سكرتارية الجباه التقدمية هو من نمط ذلك السلوك. فانا كنت مشاركا فى تلك المظاهرة وحاضرا لذلك الاجتماع والذى لم يتفوه فيه ميرغني بأي كلمة بذئية او لفظ جارح. واكرر بانه وطيلة فترة معرفتي بميرغني لم اسمعه يردد مثل تلك الكلمات بل كان هاشا باشا. واذكر هنا اننا كنا نغيط ميرغني بمشاغبة طفولية عندما نجح في امتحان الدخول للوسطى بان النتيجة ليست نتيجته في الامتحان بل نتيجة اسماعيل الولي ( لان والدته كانت تحمل قلمه وتغمسه في داخل قبة اسماعيل الولى قبل الامتحان. وكان يردد ضاحكا (المهم النتيجة) ورغم تكرارنا لذلك الشغب لم اسمعه يغلظ القول معنا. وقد كذب ابو القاسم مرتين الاولى عندما اتهم ميرغنى ، زورا وبهتانا، بالتلفظ بالفاظ نابية والثانية عندما وعد الوفد باطلاق سراح ميرغنى والذى لم يتم بل قدم ميرغني لمحكمة عسكرية ( كما ساعرض بعد قليل). والمثال الثانى لكذب سياسينا ما قاله (قائدنا الملهم) نميرى في لقاء حاشد بميدان سباق الخيل فى 10 فبراير 1971 حيث هاجم الحزب الشيوعي وعدد معاداته للثورة ثم عرج على قضيتنا وقال بالحرف الواحد وبدون ادنى احساس بالخجل: " وفي احتفال البلاد القومى بعيد الاستقلال بمدينة الابيض هتف بعض الصبية ولولا ان بسطت عليهم جناح رحمتى لفتكت بهم جماهير الثورة". والقائمة معروفة ومليئة بالكذب الوقح لبعض سياسينا وقادتنا واللهم لا اعتراض على حكمك. الكذبة الثانية لابو القاسم هو بقاء ميرغني في السجن بل وتقديمه لمحكمة عسكرية ، داخل القيادة الوسطى بالابيض بقيادة المقدم فيصل محمد عبدالله. كنا ثلاثة متهمين في تلك المحكمة: المتهم الاول كان ميرغني وكنت المتهم الثاني وكان المتهم الثالث الزميل ادم عيسى ( ثلاثتنا طلاب). انتدب مركز الحزب الاستاذ الرشيد نايل للدفاع عنا وهي مهمة قام بها خير قيام ولكن المحكمة اصدرت حكما بالادانة والسجن حيث نال ميرغني 9 شهور سجن ونلت 6 شهور ونال ادم 6 شهور. بعد المحاكمة تم ارجاعنا للسجن لنعامل كمساجين درجة ثالثة ( لمن لا يعرف السجون هذه درجة معاملة المجرمين المدانين). المهم اخذت ملابسنا وسلمنا بردلوبة السجن المصنوعة من الدمورية ومعها برش للنوم عليه وبطانية وكورة من الحديد المصفح للاكل وشراب الشاي. كان للمساجين في تلك الكورة المصفحة مارب اخرى، حيث انها تحدث صوتا عاليا يمكن ان تسمعه من بعد ميل عندما تحرك بقوة في سيخ ابواب الزنازين ، وهي تستعمل للاحتجاج على الظلم ولاسماع مكتب السجن شكوى المسجون القابع في الزنازين. وشاركنا المساجين عنبرهم وحياتهم واكلهم ( حيث منع عنا العيش وكنا ناكل الجراية المصنوعة من اردا وارخص انواع الفتريتة الحمراء). وكان هذا وعد ابو القاسم باطلاق سراح ميرغني. وعندما قرر قادة انقلاب 19 يوليو اطلاق سراح المعتقلين وفعلا اطلقت سلطات السجن المعتقلين ( الذين لم يحاكموا) وبقينا نحن باعتبارنا مساجين. ورغم حزننا على استمرار حبسنا رغم سقوط السلطة التى اعتقلتنا وحاكمتنا الا ان ميرغني كان اكثرنا صمودا وتماسكا. ومضت الايام الثلاث ورجع نميرى وتم ارجاع زملائنا السابقين واضيف لهم قرابة الالف معتقل من كل مدن كردفان. المسألة الاخرى التى اود تصحيحها هي ما ذكره الدكتور صدقي كبلو في مقاله عن ميرغنى حيث كتب: "لم احضر انقلاب يونيو 1989والذى شرد ميرغني واجبره على الهجرة للسعودية". وهذه معلومة غير صحيحة. فقد فصل ميرغني من ديوان النائب العام كرد على موقف شهير له اثناء انتدابه كمستشار قانوني بمصلحة الجمارك بمطار الخرطوم، حيث حاول بعض ضباط الامن استغلال سلطاتهم بطريقة غير قانونية.وعندما اوقفهم ميرغنى عند حدهم رجعوا بعد ايام بامر من اللواء عمر محمد الطيب رئيس جهاز الامن فرفض ميرغني في اباء الانصياع لذلك قائلا لهم انه لا يتلقى اوامره من رئيس جهاز الامن. تم فصله وسافر للعمل بالسعودية. ونشرت الميدان السرية ذلك الموقف الشجاع. وهنا اسال نفسى بحسرة: كم من قضاة ومستشاري هذا الزمان يستطيع ان يقف مثل هذا الموقف البطولي؟ وكم من موظفي الخدمة المدنية يلتزم ويحترم قوانين العمل بمثل هذه الصرامة ويوقف كلٍ عند حده؟ هذه لمحات بسيطة من حياة فقيدنا ميرغنى الحافلة بكل ما هو جاد وجميل. حاولت فيها استعراض بعض الجوانب غير المعروفة وهي بعض من دين ميرغني على جيلنا لعلنا نتعلم منه في مماته كما تعلمنا منه في حياته. هل اعطيت ميرغني حقه الذى يستحقه وبجدارة....لا اظن. اللهم ارحم ميرغني بقدر ما قدم واغفر له وانزله منزلة الصديقين والشهداء. [email protected]