انتصرت الثورة المصرية فى يوليو 1952 فتبدلت موازين القوى فى المنطقة العربية، خاصة فيما يتعلق بالعلاقة بين مصر والسودان. وهنالك مأثرة كبيرة نحفظها لشعب مصر وللضباط الأحرار, لأنهم قطعوا الطريق على مناورات بريطانيا من جهة، وملك مصر من جهة ثانية، والأحزاب السودانية من جهة ثالثة. وكان اللواء محمد نجيب وأعضاء مجلسه اشد اهتماماً باستكمال تحرير مصر التى أغفلتها أحزاب البرجوازية والاقطاع المصرى. وكانوا بنفس القدر من التصميم على وضع مستقبل علاقات مصر والسودان فى إطارها السليم بوضع مسألة تقريرالمصير لشعب السودان فى أيدى أبنائه. ولهذا بادلهم السودانيون حباً بحب. وتنادوا للوقوف جنباً إلى جنب مع الشعب المصرى فى معركته لتحرير قناة السويس وفى صد العدوان الثلاثى فى عام 1956. وابتعث الحزب الشيوعى السودانى آنذاك من بين قادته الشفيع أحمد الشيخ، وعبدالرحمن الوسيلة والتيجانى الطيب واحمد سليمان ومامون محمد الامين ضمن افواج المتطوعين. وعندما وقف السودان على مشارف الاستقلال ناشد الشيوعيون السودانيون الرئيس جمال عبدالناصرلكى تبادر مصر بالاعتراف باستقلال السودان – كامل السيادة – وقد عبر عن هذه الروح سكرتير الجبهة المعادية للاستعمار عبدالرحمن عبدالرحيم الوسيلة فى رسالة لى عبدالناصر. "إن على شعبنا فى المستقبل توثيق روابط الكفاح المشترك مع شعب مصر وبناء علاقات صداقة دائمة. فذلك هو الطريق الأكيد لحماية استقلالهما وسيادتهما ولتأسيس مراكز لمساعدة جميع الشعوب الافريقية على التحرر من الاستعمار." وكان عبدالناصر كعادته شديد العناية بأمر الصداقة مع الشعب السودانى. وكتب فى رده "تأثرت غاية الأثر ببيرقيتكم الرفيعة لما تضمنته من روح الاخوة ومشاعر الصداقة، وليس هذا بمستغرب بين قطرين وشعبين شقيقين يعيشان فى واد واحد ويرتويان من نيل واحد.." لقد ظل عبدالخالق محجوب على وفائه للثورة المصرية، فقد تعرف على أبرز قادتها خلال سنى دراسته هناك. وتذكر بعض المراجع أن الدكتور فؤاد حسن وهو طبيب ومن أبرز الشيوعيين المصريين قد إستصحب معه عبدالخالق محجوب لمقابلة الرفيق ‘موريس‘ وهو من كوادر تنظيمهم داخل القوات المسلحة المصرية. وموريس هذا هو الاسم ‘الحركى‘ آنذاك للبكباشى جمال عبدالناصر. وبالرغم من شح المصادر الموثوقة عن مآلات تلك الصلة بين عبدالناصروعبدالخالق إلا أن هنالك شواهد عديدة على متانة الرابطة التى جمعت بينهما فى المستقبل. وقد لعب عبدالخالق دوراً مقدراً فى ترميم جسور الصلة بين عبدالناصر والحزب الشيوعى المصرى. وفى مناسبات أخرى سعى عبدالخالق لتذليل بعض العوائق قى العلاقة بين حكم عبدالناصر والاتحاد السوفيتى وأحزاب شيوعية عربية ناصبتهاالعداء، ووصمته بأنه جزء من استراتيجية المخابرات المركزية فى المنطقة العربية. وعبدالناصر من جانبه ظل على وفائه وتقديره لمكانة عبدالخالق محجوب والحزب الشيوعى السودانى. وسوف نعود لهذه الخاطرة فى سياق آخر. وبقدر ما تثنى للشيوعيين مد حبال الصلة مع قادة الثورة المصرية، لم يتأت لهم ذلك مع قادة الأحزاب الطائفية فى السودان. فالحزبان الرئيسيان لم يقدرا ضرورة بناء جبهة وطنية عريضة لاجتياز فترة الحكم الذاتى، والاعداد المبكر لإحداث تغيرات ملموسة فى حياة المواطنين حتى يقفوا على الفرق بين الحكم الاستعمارى والحكم الوطنى. والحزب الوطنى الاتحادى انغمس فى حالة من التشتت قبل أن يتحقق له قدر من التماسك الداخلى. ففى غضون ثلاث سنوات اقدم رئيس الحزب اسماعيل لازهرى على فصل اعضاء مؤثرين فى حزبه شرعوا بدورهم فى تأسيس حزب الاستقلال الجمهورى، ثم فصل نائب رئيس الحزب وبعض محررى الصحيفة الناطقة باسمه. ووضح أن الحزب الوطنى الاتحادى الذى تأسس فى عام 1952 باتحاد مجموعات متعددة من الاتحاديين لم يتمكن من تحقيق التماسك الداخلى الشىء الذى لم يوليه الزعيم الأزهرى عناية تامة. وبقدر ما اتحدت جهود الشيوعيين مع جماهير الحزب الوطنى الاتحادى فى معارك الاستقلال، إلا أن فترة الحكم الذاتى شهدت تصاعد العداء الذى أبداه قادة الحزب الوطنى الاتحادى نحو الشيوعيين وسعوا لابعادهم عن التمثل فى حكومة قومية تقود البلاد الى بر المان خلال فترة الحكم الذاتى المحفوفة بالمخاطر. فخلال هذه الفترة واجه السودانيون مهمة تعديل الدستور، وتكوين مجلس السيادة، وجذب ممثلى الجنوب الى الصف الوطنى، وتخفيف حدة التنافس والمكايدة بين الوطنى الاتحادى وحزب الأمة. وكانت حوادث أول مارس 1954 نذير شؤم والبلاد تتقدم بخطى حثيثة نحو الاستقلال. وفى أغسطس 1955 تفجرت حوادث التمرد التى قام بها أفراد قوة دفاع جنوب السودان فى حامية توريت. وظل الخطر ماثل بأن يقدم الحاكم العام على استخدام صلاحيته بنص قانون الحكم الذاتى ويبطل الخطوات المؤدية للاستقلال. وفى أجواء الفتنة والتآمر السائدة نشرت صحيفة بتاريخ 3/اكتوبر/ 1954 خبراً مفاده أن منشورات قد وزعت فى على نطاق واسع فى العاصمة تهاجم الدين الاسلامى، وتنادى بحياة الشيوعية. وكتب المحرر بأن عددا من الذين تلقوا هذا المنشور وصفوه بأنه (مقلب) سىء الاعداد والاخراج. ونشرت نفس الصحيفة بعد بضعة أيام ان الامام عبدالرحمن المهدى وهو يهم بمغادرة المسجد عقب أداء صلاة الجمعة استمع الى شخص من رجال الدين المسكونين بلوثة العداء للشيوعيين "خاض فى حديث الافك. وأعاد على المصلين منشور شيخ العلماء. وحرض الناس وأثار الخواطر ودعا للفتنة بصورة عمياء." وكان فى عداد المصلين عدد هائل من الانصار من العاصمة ووفود من دارفور. وبسبب هذه الاثارة هاج الناس وماجوا وأصبحوا فى حالة تنذر باخطار لايعلم مداها إلا الله. وكان الامام عبدالرحمن كعادته حاضراً وحكيماً وسديد الرأى فى المواقف الصعبة. فما أن رأى التحفز البادى على جموع الانصار حتى هب واقفا وخطب فى الناس بعبرات جلية ومحذرة، بأنه "حسب مايعلم فان المصدر الحقيقى للمنشور المشار اليه تحيطه الشكوك والريب. ولم يثبت أنه من عمل الشيوعيين. وأضاف الى ذلك أنه قرأ فى الصحف أن أحد الشيوعيين قد نفى أنهم يحاربون الدين. وهذا يكفينا كمسلمين. وفوق هذا فان الاسلام لايأخذ الناس بالشبهات." وذكر الامام بأنه سعى للتثب من أمر ذلك المنشورالمريب، وأجرى اتصالات مع عدد من الطوائف الدينية من بينها الطائفة الاسماعيلية فتأكد له بأن البيان قد قصدت به جماعات بعينها. وحذر أتباعه مراراَ من الانسياق وراء تلك الفتنة فيصبحون صيحة فى مسألة لا تخصهم ولا ناقة لهم فيها ولاجمل. قال بأنه "لا توجد سلطات للمسلمين فى هذا البلد اليوم وليس من حق أحد أن يهدر دماء الناس." رحم الله الامام عبدالرحمن المهدى فقد أبانت هذه الحادثة جانباً من عنايته وأثره العظيم. وكان الامام قد اطلع على مقالة بقلم عبدالخالق محجوب، سعى من خلالها الى درء ً الفتنة التى أطلت برأسها ووضع النقاط فوق الحروف فى أمر العلاقة بين الحزب الشيوعى السودانى والديانة الاسلامية السامية. هذه المقالة نشرتها صحيفة الأيام فى عددها بتاريخ 5 اكتوبر 1954 بعنوان "الشيوعية فى السودان لاتحارب الدين الاسلامى: الرجل الشريف يحارب الفكرة بالفكرة" سوف نتطرق اليها فى عدد قادم.