الجيش الكويتي: الصواريخ الباليستية العابرة فوق البلاد في نطاقات جوية مرتفعة جداً ولا تشكل أي تهديد    إدارة مكافحة المخدرات بولاية البحر الأحمر تفكك شبكة إجرامية تهرب مخدر القات    المريخ فِي نَواكْشوط (يَبْقَى لحِينَ السَّدَاد)    اردول: افتتاح مكتب ولاية الخرطوم بضاحية شرق النيل    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط ضحكات المتابعين.. ناشط سوداني يوثق فشل نقل تجربة "الشربوت" السوداني للمواطن المصري    (يمكن نتلاقى ويمكن لا)    المريخ يكرم القائم بالأعمال و شخصيات ومؤسسات موريتانية تقديرًا لحسن الضيافة    خطوة مثيرة لمصابي ميليشيا الدعم السريع    عناوين الصحف الرياضية السودانية الصادرة اليوم الأثنين 16 يونيو 2025    برمجة دوري ربك بعد الفصل في الشكاوي    سمير العركي يكتب: رسالة خبيثة من إسرائيل إلى تركيا    مجلس إدارة جديد لنادي الرابطة كوستي    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالفيديو.. الجامعة الأوروبية بجورجيا تختار الفنانة هدي عربي لتمثل السودان في حفل جماهيري ضخم للجاليات العربية    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تخطف الأضواء بإطلالة مميزة مع والدتها    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    شاهد بالصورة.. السلطانة هدى عربي تخطف الأضواء بإطلالة مميزة مع والدتها    شاهد بالفيديو.. كشف عن معاناته وطلب المساعدة.. شاب سوداني بالقاهرة يعيش في الشارع بعد أن قامت زوجته بطرده من المنزل وحظر رقم هاتفه بسبب عدم مقدرته على دفع إيجار الشقة    رباعية نظيفة .. باريس يهين أتلتيكو مدريد في مونديال الأندية    بالصورة.."أتمنى لها حياة سعيدة".. الفنان مأمون سوار الدهب يفاجئ الجميع ويعلن إنفصاله رسمياً عن زوجته الحسناء ويكشف الحقائق كاملة: (زي ما كل الناس عارفه الطلاق ما بقع على"الحامل")    المباحث الجنائية المركزية بولايةنهر النيل تنجح في فك طلاسم بلاغ قتيل حي الطراوة    على طريقة البليهي.. "مشادة قوية" بين ياسر إبراهيم وميسي    المدير العام للشركة السودانية للموارد المعدنية يؤكد أهمية مضاعفة الإنتاج    من حق إيران وأي دولة أخري أن تحصل علي قنبلة نووية    وصول 335 من المبعدين لدنقلا جراء أحداث منطقة المثلث الحدودية    ترامب يبلغ نتنياهو باحتمال انضمام أمريكا إلى العملية العسكرية ضد إيران    أول دولة عربية تقرر إجلاء رعاياها من إيران    كيف أدخلت إسرائيل المسيرات إلى قلب إيران؟    خلال ساعات.. مهمة منتظرة لمدرب المريخ    السودان..خطوة جديدة بشأن السفر    تنفيذ حكم إعدام في السعودية يثير جدلاً واسعًا    3 آلاف و820 شخصا"..حريق في مبنى بدبي والسلطات توضّح    ضربة إيرانية مباشرة في ريشون ليتسيون تثير صدمة في إسرائيل    معركة جديدة بين ليفربول وبايرن بسبب صلاح    بالصور.. زوجة الميرغني تقضي إجازتها الصيفية مع ابنتها وسط الحيوانات    معلومات جديدة عن الناجي الوحيد من طائرة الهند المنكوبة.. مكان مقعده ينقذه من الموت    بعد حالات تسمّم مخيفة..إغلاق مطعم مصري شهير وتوقيف مالكه    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    رئيس مجلس الوزراء يؤكد أهمية الكهرباء في نهضة وإعادة اعمار البلاد    إنهاء معاناة حي شهير في أمدرمان    وزارة الصحة وبالتعاون مع صحة الخرطوم تعلن تنفيذ حملة الاستجابة لوباء الكوليرا    فجرًا.. السلطات في السودان تلقيّ القبض على34 متّهمًا بينهم نظاميين    رئيس مجلس الوزراء يقدم تهاني عيد الاضحي المبارك لشرطة ولاية البحر الاحمر    وفاة حاجة من ولاية البحر الأحمر بمكة    اكتشاف مثير في صحراء بالسودان    رؤيا الحكيم غير ملزمة للجيش والشعب السوداني    مسؤول سوداني يطلق دعوة للتجار بشأن الأضحية    محمد دفع الله.. (صُورة) تَتَحَدّث كُلّ اللُّغات    في سابقة تعد الأولى من نوعها.. دولة عربية تلغي شعيرة ذبح الأضاحي هذا العام لهذا السبب (….) وتحذيرات للسودانيين المقيمين فيها    شاهد بالفيديو.. داعية سوداني شهير يثير ضجة إسفيرية غير مسبوقة: (رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام وأوصاني بدعوة الجيش والدعم السريع للتفاوض)    تراجع وفيات الكوليرا في الخرطوم    أثار محمد هاشم الحكيم عاصفة لم يكن بحاجة إلي آثارها الإرتدادية علي مصداقيته الكلامية والوجدانية    وزير المالية السوداني: المسيرات التي تضرب الكهرباء ومستودعات الوقود "إماراتية"    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    علامات خفية لنقص المغنيسيوم.. لا تتجاهلها    ما هي محظورات الحج للنساء؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عواقب تراجع فرص "الحوار الوطني" .. بقلم: خالد التيجاني النور
نشر في سودانيل يوم 12 - 04 - 2013

اللهم أكفنا مجازر سوريا, ومغامرة الكابتن امادو, وزحف سيليكا
[email protected]
لم يكن حتى أكثر الناس تشاؤماً, بمن في ذلك غلاة خصوم النظام الذين يرفضون الحوار معه ولا يرون لإسقاطه بديلاً وإن طال السفر, يتوقعون أن تذوى رويداً رويداً الامال التي ارتفعت أخيراً بالدخول إلى مرحلة جديدة من الحوار الوطني الجامع بهذه السرعة المفاجئة بمثل ما جاءت الدعوة له مفاجئة وبلا إرهاصات. ولكن هل يمكن الجزم بأن هذه المبادرة ذوت فعلاً, أم أنها لا تزال على الطاولة تكافح من أجل الصمود في مواجهة الفراغ ومآلاته المخيفة؟.
ففي أيام قليلة تحول المناخ السياسي في البلاد من النقيض إلى النقيض, فماذا حدث, وما هي الوقائع والخلفيات, وما هي المآلات, ولماذا وكيف تجري محاولة وأد هذه السانحة النادرة ل"حلحلة" الأزمة السودانية وتفكيك تعقيداتها المتشابكة, وما هي السيناريوهات الأكثر احتمالاً في ضوء هذه التطورات والمواقف المتناقضة؟ أسئلة تترى لا بد من الإجابة عليها لمعرفة إلى تساق البلاد, ولكن ذلك غير ممكن بغير قراءة دقيقة لطبيعة النظام الحاكم الراهن وما يجري في كواليسه, وتوازنات وحسابات الفاعلين فيه.
لم يكن أكثر السودانيين يصدقون أنفسهم وهم يستمعون بعد انتظار طال لكلام عاقل, إلى المسؤول الإنقاذي الرفيع الشأن, وهو يتحدث بلغة الواقع المعاش بكل تعقيداته ومخاطره الماثلة على وجود ما تبقى من الدولة السودانية, وقد تجاوز لأول مرة التصريحات الوردية لدهاقنة الطبقة الحاكمة يتحدثون عن حال بلد سعيد لا يوجد إلا في مخيلتهم, ولا يبدو أن هناك أحداً غيرهم يعرفه. بل ويقدم كذلك لأول مرة على محاولة رسم ملامح خريطة طريق ممن الممكن أن تشكل بوادر مخارج من المأزق التاريخي الذي يعيشه السودان ويكاد يذهب بريح ما تبقى منه بعد "تناقص أوتاده وتكاثر زعازعه" في وصف جامع مانع للدكتور منصور خالد.
كان أغلب ظن التوقعات بين يدي المؤتمر الصحافي للنائب الأول للرئيس علي عثمان محمد طه أنه لن يذهب أبعد من إخراج نفسه من حرج إقحامه في "معركة الخلافة" المحتدم أوارها في دوائر "المؤتمر الوطني" المنقسم على نفسه والتي تجددت عقب إعلان الرئيس عمر البشير عزوفه عن السلطة بنهاية ولايته الحالية., والتوقع الآخر أن طه سيحاول التقليل من المضمون السياسي للقاء النادر الذي جمعه بالدكتور علي الحاج, الذي طغى على دوافع البعد الاجتماعي المعلن لاجتماع برلين, أيضاً بسبب ضغط حسابات توازن القوى داخل المؤتمر الوطني.
وكانت المفاجأة أن طه ذهب أبعد من ذلك بكثير, ولئن كان متوقعاً أنه سينأى بنفسه عن الدخول في متاهة "الخلافة" الملغومة معتبراً خروج البشير من الملعب غير وارد في هذه المرحلة. فقد خالف التوقعات وهو يقدم دعماً غير متحفظ ل"مبادرة بون" التي خرج بها الدكتور علي الحاج مسارعاً إلى إعلانها من طرف واحد بعد لقائهما, مؤكداً اشتراكه في الاتفاق مع علي الحاج حول ما من شأنه أن يعزز الحوار بصدق النيات وطرح المبادرات, وتأكيد الاحتكام للشعب في نهاية المطاف, وأن الأمر بات يتعلق بكيفية الحوار حول تنفيذ مجمل هذه الاتفاقات, مشيرا إلى أن هذه التفاهمات بينه وعلي الحاج مطروحة للنظر في جانب الحكومة أو المعارضة باعتبارها رؤوس أقلام ومادة للحوار السياسي.
بيد أن ما أطلق موجة من الارتياح العام إقدام طه على الذهاب بعيداً بتوجيه رسائل مباشرة بأهمية الحاجة للولوج إلى حوار وطني شامل إلى جميع أطراف الساحة السياسية في المعارضة بشقيها المدني والمسلح, وللمفارقة أن رسائله كانت من طرف خفي موجهة أيضاً إلى حزبه "المؤتمر الوطني". صحيح أن تلك البادرة السياسية اللطيفة وجدت ترحيباً متحفظاً من أغلب المعنيين بها, وقدموا جملة مطلوبات يستلزم الحكم الوفاء بها من بين يدي قبولهم بعرضها, وهو أمر مفهوم في ظل حالة انعدام الثقة الكامل في وفاء السلطة بتعهداتها مما خبرته أكثر الأطراف السياسية المعارضة التي تعاطت مع النظام في أوقات سابقة.
لم يكن متوقعاً أن يقدم طه حلولاً مثالية من طرف واحد للأزمة, وإلا لما كان هناك داع اصلاً للحوار, إلا أنه يجب الاعتراف أنه قدم مقترحاً أكثر وضوحاً لما ينبغي أن تمضي عليه الأمور بإتجاه التسوية السلمية الشاملة, سواء من ناحية المواقف من قضايا أساسية أو الإجراءات المطلوبة لتعزيز مناخ الثقة, بالطبع كان الوقت مبكراً لطرح آليات محددة لتفعيل المبادرة وهي مسألة تالية للوصول إلى قاعدة أساسية مقبولة للتفاهم بين الأطراف السياسية على إطلاق المرحلة الجديدة.
ثمة أمور أساسية تضمنتها مقترحات طه تشكل ما يمكن أن نعتبره مدخلاً جديداً مختلفاً عما هو معهود حكومياً في شأن مقاربة الأزمة السودانية الوطنية المتطاولة, أولها الاعتراف بأن البلاد تواجه مخاطر جدية تهدد وجودها مما يستدعي جهداً استثنائياً عبر الحوار الشامل لتجنب الإنزلاق إلى هاوية التشرذم والتفتت, وليس مهماً وقت الحريق البحث عمن يتحمل مسؤولية إشعاله بقدر أهمية التعاون على إطفائه أولاً, وأهمية الوصول إلى هذه الحقيقة البدهية المعلومة للجميع, وهي ليست اكتشافاً, أنها ظلت محل إنكار في أوساط الطبقة الحاكمة, وهذه قضية بالغة الأهمية لأنه بدون وعي وإدراك وإحساس حقيقي في أوساط السلطة بالمخاطر الوشيكة غلى لن تكون هناك قاعدة جدية للحوار ابتداءً.
الأمر الثاني الذي أسس له طرح طه تأكيده أنه لم يعد هناك من سبيل للاستمرار في الحلول المجتزأة, وأن الوقت حان لحل سلمي شامل جامع لا يستثني أحداً, وهذه هي القاعدة الذهبية لأية تسوية سلمية شاملة أو لنقل الفريضة الغائبة في الحوارات السودانية, وما من نظام حكم تفنن في الدخول في مفاوضات ثنائية وعقد صفقات جزئية لا حصر ولا حدود لها مثلما فعل نظام الإنقاذ, ومع مظهرها الخارجي الدال على البحث الحثيث عن السلام, إلا أنها في الواقع أسست لحالة تشرذم وتفتت سياسي غير مسبوقة في السودان يفعل الولع الشديد للحكم بإبرام صفقات ثنائية بغرض بعثرة صفوف المعارضين والتكسب من سياسة فرق تسد.
وقد فعلت إذ مكنت النظام من البقاء في السلطة لربع قرن, ولكن بثمن كارثي باهظ تعريض وحدة الوطن للتشرذم.ومع ذلك لن تحقق له الخلود في السلطة. ولذلك فإن مغادرة محطة الحلول الجزئية والمفاوضات الثنائية لا مناص منها قبل الحديث عن أن أية حلول جدية تكتسب صفة الشمول والقدرة على مخاطبة واقع التحديات الخطيرة الراهنة.
الأمر الثالث يتعلق بلغة الخطاب تجاه المعارضة لا سيما المسلحة وبصفة أخص ما يمكن وصفه بقوى "الهامش" الصاعدة, بتثبيت أنها تملك حقاً أصيلاً في تقرير مستقبل السودان الموحد بطرح رؤاها والإسهام والمشاركة في تشكيله ضمن الجماعة الوطنية في حوار جامع, وهي مسالة بالغة الأهمية الإقرار بألا طرف واحد يملك حقاً حصرياً في تحديد مستقبل السودان ووجهته وتقرير مصيره في غياب الآخرين من شركاء الوطن.
وما من شئ أضر بالوحدة الوطنية السودانية من عقلية الإلحاق السائدة منذ بواكير التشكل السوداني الحديث, واحتكار نخبة المركز التمثيل والتعبير عن السودانيين بمعزل عن الأطراف الوطنية كافة إدى إلى هذا الفشل بامتياز في تشكيل جماعة وطنية تتوفر لها أسباب توحيد الأمة السودانية, وخطاب طه الموجه لهذه المجموعة على وجه الخصوص يمثل توجهاً جديداً مهماً وضرورياً في كسر جمود الصراع على ثنائية المركز والهامش والانتقال إلى حوار شامل يشارك فيه الجميع على قدم المساواة لرسم خريطة طريقة لسودان موحد في سلام واستقرار مع نفسه ومع الآخرين.
واللافت في خطاب طه القبول ب"وثيقة الفجر الجديد" الموقعة في كمبالا من جماعات معارضة مدنية وسياسية باعتبارها تمثل وجهة نظر لجماعة سودانية وطنية مطروحة للحوار في إطار المدافعة لتشكيل مستقبل السودان, وهو تحول مهم على خلفية الموقف الإنقاذي الحاد من الوثيقة ومن موقعيها وتصنيفها في خانة المؤامرة وحتى الخروج على الدين, وتعيدها إلى سياقها بحسبانها عملاً سياسياً يمثل وجهة نظر طائفة معتبرة من السودانيين, يملكون الحق في طرحها وتسويقها سياسياً.
ومسألة رابعة تشكل قاعدة مهمة في مقترح طه أن من يملك الحق الوحيد في نهاية المطاف لتقرير مصير السودان هم مواطنوه بالإحتكام إلى الشعب لتحديد توجهاته ومستقبله السياسي, وهي مسألة بديهية, ولكن المهم هنا أن الشعب لن يكون بوسعه القيام بهذا الحق الأصيل بدون توفر شروط موضوعية لازمة أولها توفر الحرية بلا استثناءات, والإرادة الحرة للتعبير عن موقفه في عملية شفافة ونزيهة.
تلك هي أهم الأركان المؤسسة للمقترحات السياسية التي طرحها طه من وحي تفاهماته مع علي الحاج في برلين, وهي في مضمونها العام تشكل قاعدة جيدة للحوار الوطني الشامل, لكنها تبقى بالطبع مجرد تمنيات ما لم يتوفر لها المناخ الملائم لتنفيذها وفي مقدمة ذلك توفر إرادة سياسية موحدة عند الطرف الحاكم تتجلى في توفر بيئة حرية يكفلها إصلاح قانوني لا يجعلها عرضة لحسابات الفريق الحاكم, ولذلك لم تكن استدراكات المتحفظين او الرافضين تتعدى اختبار صدقية وجدية ما طرحه طه, والقدرة على تنفيذه في أرض الواقع.
كان واضحاً من البداية أن التحدي الحقيقي امام مقترح التسوية الشاملة في عرض طه سيأتي, وللمفارقة, من داخل "النظام الحاكم" ومعادلاته, وليس من قبل المعارضة بشقيها المدني والمسلح, والمهم في هذه الحالة هو فعل من بيده السلطة, وليست ردة فعل المعارضة المتوجسة اصلاً بحكم رصيد عريض وتجربة طويلة من الوعود المجهضة, أو الممارسة المخالفة للتعهدات المعلنة من قبل الحكم.
جاء أول اختبار لجدية التوجه الحكومي نحو حوار وطني شامل ما تضمنه خطاب الرئيس عمر البشير أمام البرلمان الأسبوع الماضي, والقراءة الفاحصة لما وراء ظواهر الأمور تشير إلى أن الخطاب شكل اول بوادر تراجع عن المدى التي يمكن أن تذهب إليه الطبقة الحاكمة في قبول مقترحات طه طه حول مسألة الحوار الوطني, صحيح جاء فيه الإعلان عن إطلاق سراح سبعة من المعتقلين على ذمة "وثيقة الفجر الجديد" وهي خطوة جيدة في حد ذاتها إلا أنها لا تعدو أن تكون إجراء لتصحيح وضع خاطئ أكثر من كونها عربون تأكيد لعهد جديد من الحرية.
لقد خلف إطلاق سراحهم علامة استفهام كبير حول الدوافع والحسابات التي يدير بها الفريق الحاكم السلطة, ومن يسترجع تلك الحملة المضرية التي قادها الحكم ضد الوثيقة وضد هؤلاء المعتقلين قبل اسابيع قليلة لما وجد رابطاً بين ذلك الموقف البالغ التطرف, وبين إخلاء سبيلهم بهذه الأريحية, وهي خطوة على أية حال تشكل إحراجاً للنظام أكثر من كونها باعثة على التقدير. إذ أنها تزيد أيضاً من التشكيك في سلامة الإدارة الحكومية للامور السياسية, وإلا فما الذي تغير في غضون أسابيع قليلة فالمخاطر الجمة التي تحيط بالبلاد لم تبرز بالأمس فجأة, فالحاجة الملحة لحوار وطني شامل كانت دائمة حاضرة.
غير ان الملاحظة الجديرة بالاهتمام في الخطاب الرئاسي أمام المجلس الوطني أن قضية الحوار الوطني طرحت بطريقة شديدة العمومية وبدا أنها مجرد إبداء نيات وقد تفادت بشكل واضح الدخول في تفاصيل محددة من المفترض أن تخاطب مطلوبات تهيئة مناخ الحوار الوطني وتحديد آلياته, بصراحة جاء سقف الخطاب أدني بكثير مما التوقعات الكبيرة التي رفعت الآمال في مقترح طه.
لقد كان واضحاً إن إطلاق سراح المعتقلين السبعة شكل دخاناً كثيفاً حجب الرؤية عن موقف كان منتظراً ان يأتي بخطوات أكثر تقدماً على طريق دفع عجلة الحوار الوطني للدوران والوفاء بمتطلباته العملية, وتحديد خريطة طريق لها, وإطلاق آليات معلومة لتنفيذها, لقد كان الاكتفاء بالعموميات المكررة في خطابات رسالة واضحة أن ثمة "فيتو" في دوائر البيت الحاكم ضد إطلاق عملية حوار وطني بمواصفات حقيقية وجدية.
وما حدث أنه بدلاً من أن ينصرف اهتمام قيادة الطبقة الحاكمة إلى توفير مستحقات إطلاق مرحلة الحوار الوطني بكل جدية وبالسرعة المطلوبة, خاصة في ظل تجاوب معقول وتحفظات موضوعية من المعارضة تتعلق بالإجراءات السياسية والقانونية لتهيئة المناخ, إذ سرعان ما انقلبت الأمور بإتجاه "معركة كسر عظم" للسيطرة على مقاليد الامور داخل البيت الحاكم وبدا الصراع المكتوم بين الأطراف المتنافسة داخل "المؤتمر الوطني" يأخذ شكل تصفية حسابات تارة باسم خلافة البشير, وتارة بإسم محاربة الفساد في توظيف صراعي واضح, وتارة باسم توحيد التعبير الإعلامي عن مواقف الحزب في حين أن المشكلة ليست هي تعدد الألسن المتحدثة باسمه والتي كشفت عن تناقضات صارخة ولكنها تعبير صريح عن عدم وجود وحدة موقف أصلاً في ظل غياب رؤية أو مشروع وطني للطبقة الحاكمة مع انعدام فاعلية حقيقة لمؤسسات الحزب في صناعة مواقفه, ولذلك يلجأ الجميع للإعلام للتعبير عن مواقف لا تجد متنفساً مؤسسياً لطرحها وإدارة نقاش موضوعي حولها للخروج بموقف يعبر عن ممارسة ديمقراطية حقيقية.
ويقود هذا في الواقع إلى بيت القصيد في شأن قواعد لعبة السلطة في العهد الإنقاذي برمته, فهذه الصراعات ظلت سمتاً ملازماً لتجربة الإسلاميين في السلطة تظل متفاعلة مكتومة وراء الكواليس لفترة من الزمن تحت غبار إنكار لوجودها ثم ما تلبث حتى تنفجر, وهو ما حدث مراراً في اوائل التسعينيات حين بدأت تتشكل قواعد قوة النظام الجديد, فقد كان قيادة الحركة الإسلامية مطمئنة إلى أن العسكريين "الإسلاميين الملتزمين" سيعيدون بحسبانهم"مؤتمين مؤقتاً" على سلطة الإنقلاب العهدة إلى التنظيم ليعهد بها إلى "المدنيين االملتزمين" لتنفيذ "خطته في الحكم", ربما لم يكن يدور بخلد العسكريين في أول عهدهم بالسلطة أن تغييراً جذرياً سيطرأ على حساباتهم ستقلب حسابات قيادة الحركة راساً على عقب, خاصة وأن تدبير الإنقلاب وتصنيعه كان عملاً يقوده مدنيون بالكامل بينما شكل العسكريون قيادة واجهة التنفيذ.
ثلاثة تطورات غيرت نظرية قواعد اللعبة التي وضعتها قيادة الحركة, أولها أن الممارسة الفعلية للسلطة خلقت حضوراً سياسياً وشعبياً مستقلاً لشخصيات النظام الجديد العسكرية مكنتهم من تحقيق "شرعية" أمر واقع بحكم انتماءهم للمؤسسة العسكرية وليس "للتنظيم" الذي كان يختفي وراءهم.
الأمر الثاني الذي عزز من ثقة العسكريين في أنفسهم أنهم كان يعتقدون أن التنظيم الذي كان يعد نفسه جاهزاً بخططه لإدارة شؤون الحكم والدولة تبين أنه لا يملك منها شروى نقير, وانه يحاول التعلم مثلهم من الأساس وسبقوه بأنهم كان في واجهة التصدي لإدارة مشاكل الحكم أكسبتهم خبرة ذاتية كان قادة الحركة يظنون أنهم يحتكرونها.
أما التطور الثالث فقد اكتشف العسكريون مبكراً الانقسام الداخلي بين المدنيين مع بدايات الصراع الخفي بين قادة الحركة على النفوذ في السلطة الجديدة وأن طرفاً يحاول ان يتحالف معهم في مواجهة الطرف الآخر.
في تلك اللحظة تحديداً بدأ "مكر التاريخ أو سخريته" في مقولة هيغل تفعل فعلتها ليحدث في العام 1993 الانقلاب العسكري الحقيقي على الإنقلاب المدني "المستتر" في العام 1989, حين رفض العسكريون ليس إعادة السلطة لل"الحركة" التي لم تعد موجودة بعد حلها في إطار محاولة قيادتها بناء تحالفات جديدة, بل رفضوا طلب اقل شأناً أن يواصلوا ممارسة السلطة كمدنيين على أن يخلعوا بذاتهم العسكرية, وكان لسان حالهم "تلقوها عند الغافل"فقد كان يدركون جيداً أن قاعدة نفوذهم الحقيقية هي "المؤسسة العسكرية" التي ليس بوسعهم التخلي عن بزاتها وليس "الحركة الإسلامية" التي لم يعد يعرف لها صرفاً ولا عدلاً.
قد يتساءل البعض عن أهمية التفصيل فيما يبدو حدثاً تاريخياً وعن علاقة ذلك بتطورات الأوضاع الراهنة, في الواقع ان ما حدث حينها ذي صلة وثيقة بمجريات الأمور في الوقت الراهن ومآلاتها, ولأنها تجيب على الاسئلة المهمة عن طبيعة النظام الحقيقية, وأين هو مركز قوته, وما هي حساباته وخياراته.
لقد تغيرت في تلك اللحظة نهائياً المعادلة الحاكمة فبعدما كانت قيادة الحركة الإسلامية تطمع في توظيف العسكريين كغطاء للوصول إلى السلطة ولتعزيز نفوذها, انقلب السحر على الساحر حيث سارع العسكريون إلى بسط سيطرتهم الكاملة على اللعبة ونجحوا في تبديل قواعدها بتوظيف "مدنيي" الحركة الإسلامية كغطاء مدني لخدمة نظام حكم عسكري يستمد قاعدته قوته من قوة المؤسسة العسكرية, الحزب الغالب في اللعبة السياسية السودانية طوالي سني الاستقلال.
وما ساعد على تعزيز نفوذ العسكريين استغلال ضعف المدنيين الإسلاميين تجاه السلطة والثروة وإزكاء الصراع بينهم في سبيل الحصول على نصيب منها, ولذلك كان هناك دائماً فريق من المدنيين مستعد للتحالف مع العسكريين ضد رفاقهم, وتكررت هذا اللعبة في الصراع بين الترابي وتلاميذه, ثم في صراع المدنيين في "عصر نيفاشا", ثم صراع الانداد الراهن في عصر ما بعد تقسيم السودان.
لقد كان العسكريون دائماً الكاسب الاكبر من هذا الصراع, وتحول المؤتمر الوطني إلى مجرد محلل "مدني" لحكم عسكري كامل الدسم, ولم يقف الأمر عند هذا الحد فقد زًفت ما تبقت من قوة معنوية "للحركة الإسلامية" في مؤتمرها الأخيرة إلى العسكريين في صفقة تبقيها أسماً عوضاً عن حلها, لتكتمل فصول مأساة الحركة الإسلامية التي بادرت بدواع واهية إلى عسكرة مشروعها السياسي استعجالاً للوثوب على السلطة, على الرغم من أنها كانت الجواد الأسود في حقبة الديمقراطية الثالثة, لينتهي بها الأمر إلى العسكرة الكاملة لما تبقى من التنظيم.
صفوة القول إن طبيعة النظام العسكرية المستمدة من قاعده نفوذه في القوات المسلحة تجعل التنافس المحتدم بين المدنيين حول خلافة البشير معركة عبثية بامتياز في غير معترك, وصراع مفتعل حول مسألة هم ليسوا معنيين بها أصلاً, ذلك أن بعض المدنيين أخطأوا الفهم حين تصوروا أن تصريح البشير باعتزامه عدم الترشح رسالة موجهة لهم, في الواقع لم يكن مدنيي "المؤتمر الوطني" معنيون بأية حال بهذه الرسالة كما أنهم لا يملكون القدرة في التقرير بشأن ترشحه, وإلا فقد كان المنطق السياسي يقتضي أن الأولي بالرئيس البشير أن يطرح موقفه داخل مؤسسات حزبه لتتخذ بشأنه قراراً ومن ثم يعلن للرأي العام في الوقت المناسب, أما ذهابه لإعلان ذلك في الصحف السيارة فذلك يؤشر أن المقصود بالرسالة جهات آخرى ذات تأثير في رسم مستقبل الأوضاع السياسية في السودان. وما ثار من جدل وتصريحات متناقضة بين أقطاب "المؤتمر الوطني" جعلته مثار سخرية وقد انكشف حاله على الملأ, وكشفت حالة الغيبوبة السياسية التي يعيشونها بعيداً عن الاجندة الوطنية الملحة..
ولذلك فإن بقاء النظام نفسه, وخيارات دخوله في حوار وطني للبحث عن تسوية شاملة, مرتبطة بحسابات "العسكريين" ورؤيتهم لمآلات الأمور وليس لحسابات "المدنيين" بأي حال, الذين لا سبيل أمام أي منهم لوارثة الحكم في ظل طبيعة تركيبته الخاضعة للنفوذ العسكري, ومن غير الوارد أن يبقى النظام بلا رأس عسكري حتى لو لم يكن البشير لأي سبب من الأسباب, وإن كان الأرجح بحكم معادلات وتبعات وتداعيات ربع قرن في السلطة القول إن النظام الحاكم لا مستقبل له في غياب البشير.
تلك صورة أقرب للواقعية في شأن معادلات القوة والنفوذ في النظام الحاكم, فكيف تؤثر وتنعكس على مستقبل الأوضاع في البلاد, في ضوء مقترح طه الذي فصلناه آنفاً, من الواضع أن السودان لم يعد يملك الكثير من الخيارات وأمامه واحدة من ثلاثة سيناريوهات, وهي بالطبع ليس العامل الوحيد فيها النظام, بل ستؤثر فيها بلا شك فاعلية الأطراف الأخرى في مسار الأحداث الشعب, القوات المسلحة, القوى المعارضة المدنية والمسلحة, والمجتمع الدولي:
الأول, وهو السيناريو الأكثر عقلانية وأقل كلفة, أن تقبل قيادة الحكم مقترحات طه للخروج من الأزمة الوطنية بالانخراط الفوري الجاد في مسار حوار وطني شامل تهيأ له كل الأجواء الموضوعية ليفضي إلى تسوية حقيقية نهائية وليس مجرد هدنة محاربين. وهو سيناريو حتى في حالة اتفاق الأطراف عليه أمامه طريق طويل معقد وشائك ولكنه مع ذلك سيكون الخيار الوحيد الذي يضمن تحولاً سلمياً.
الثاني: سيناريو استمرار حالة الاحتقان الحالي بدفع أطراف متشددة داخل النظام ترفض رؤية المخاطر المحدقة بالبلاد, وتصر على استخدام الأساليب القديمة نفسها عسى أن تطيل عمر بقاءها في السلطة, وسيكون ذلك أسرع وسيلة لتمهيد الأجواء لإعادة إنتاج السيناريو السوري في السودان مع الأخذ في الاعتبار ان السودان لا يملك مؤهلات "الصمود" السوري بكل تقاطعاته وتعقيدات حساباته الإقليمية والدولية. أو قد ينتج مثل انقلاب الكابتن أمادو سانوقو في مالي الذي جر عليها تدخلا دولياً عسكرياً, أو زحف سيليكا الذي أطاح الجنرال بوزيزيه في إفريقيا الوسطى.
الثالث: استمرار حالة توازن الضعف بين أطراف المعادلة السودانية وهو ما يقود بالضرورة إلى سيادة سيناريو تآكل وتفتت بطئ لوحدة البلاد ومخاطر ذلك على حسابات القوى الإقليمية والدولية قد يفضي إلى تدخل خارجي يفرض تصوراته لتسوية الازمة السودانية. وليس سراً أن القوى الغربية على وجه الخصوص فيما تتناقله الأوساط الديبلوماسية في الخرطوم تراهن على أن البشير لن يترشح بالفعل وأن ما يبحث عنه ضمان تسوية لملف الحكمة الجنائية الدولية مما يفتح الطريقة لنضوج "طبخة ما" تعد لها أكثر من عاصمة.
ونسال الله أن يكفينا سيناريوهات مجازر سوريا, ومغامرة الكابتن أمادو سانقو المالي الذي حدثتكم عنه في مقال سابق العام الماضي, وزحف سيلكيا الأفرو-وسطى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.