أتانا من مصر، وعبرها، منذ فجر التاريخ، وحتى نهايات القرن العشرين، الغُزاة، والأديان، واللغات، والأفكار، والمخترعات القديمة والحديثة، والمهارات، وأساليب الطهي، والمنتجات الصناعية والثقافية، وفنون العمارة، والمهن الحديثة، والتقاليع والبدع، وما رشح من آثار حملة نابليون وما تبعها من آثار وتأثيرات أوروبية. أتانا فراعنة الممالك القديمة والحديثة، والإغريق، والرومان، والبطالسة، والعرب المسلمون (بقيادة عبد الله بن أبي السرح الذي صدّه النوبة السودانيون "رماة الحدق" وانتهى السجال إلى "مصفوفة" أسموها اتفاقية البقط)، والأتراك المماليك المصريون (في عام 1821 بقيادة اسماعيل باشا ابن محمد علي الكبير الذي أحرقه المك نمر، "ملك" شندي، في أرض الجعليين شمال الخرطوم مما قاد إلى ما يشبه التطهير العرقي على يد صهره الدفتردار انتقاما لمقتل ابن الباشا)، ثم الإنجليز(تحت عباءة الخديوي أولا، ثم في عام 1899 ثأرا لمقتل غردون باشا في قصره على ضفاف النيل الأزرق على يد أتباع المهدي الذين أسموهم "الدراويش"). ثم لبث الإنجليز يحكمون السودان فعلا، حتى خرجوا باستقلال السودان في عام 1956، بينما واصل المصريون، شركاؤهم في الحكم على الورق، إلى نهاية الملكية في 1952 تسمية فاروق "ملك مصر والسودان"، وتعاظم أثرهم إلى نهايات القرن العشرين. ترك الإنجليز وراءهم نظاما إداريا وتعليميا، ولغتهم، بينما استمرت مصر نافذة للسودان المستقل على العالم، تتحدث عن "العلاقات الأزلية" وتعني بها "حقّها" التاريخي في السودان، وتنظر جنوبا فلا ترى إلا مياه النيل، وتُدير السودان بعقلية أمنية لا صلة لها بمصالح مصر الحيوية ولا بالحديث العاطفي عن وحدة شعبي وادي النيل. أتانا فراعنة مصر بأديانهم (عبادة آمون رع وآتون)، وهيروغليفيتهم، وأطماعهم في ثروات الجنوب، وحصونهم لصد هجمات النوبة الذين أفلحوا في حكم مصر لأكثر من قرن تحت الأسرة الخامسة والعشرين؛ ثم أتانا من مصر البطالسة بكنيستهم الأورذودكسية فأحالوا السودان بلدا مسيحيا حتى القرن الخامس عشر حتى سقطت الممالك المسيحية في شمال ووسط السودان، وفر القساوسة بأناجيلهم المكتوبة باللغة الإغريقية إلى الحبشة، أختهم في الكنيسة الأورذودكسية وكرسي الاسكندرية والنوبة والحبشة؛ واتانا العرب بالإسلام دون غزو، وباللغة العربية التي أفقدت وسط السودان لغاته القديمة وإن لم تُفلح في تغيير لغات الأطراف الشمالية والشرقية والغربية - والجنوبية، بالطبع. ثم قامت على أنقاض الممالك المسيحية سلطنة سنار الإسلامية بتحالف "العرب" والفونج، وحكمت السودان حتى أطاح بها بعد ثلاثة قرون جيش محمد على باشا الباحث عن "المال/ الذهب" لبناء دولنه الحديثة، و"الرجال/الرقيق" لبناء جيشه الحديث، ولو عن طريق غزو بلد مجاور مسلم. ثم أتانا الإنجليز في نهاية القرن التاسع عشر بعد فترة حكم الدولة المهدية القصير المضطرب، ينظرون إلى السودان الشاسع من منظور الجغرافيا السياسية ومصالحهم الاستراتيجية في مصر، وتنافسهم مع فرنسا حول تقاسم أفريقيا الإستوائية بما فيها منابع النيل. ورغم إحكام القبضة البريطانية على السودان، وانفرادهم بحكمه دون المصريين، تزايد الأثر المصري الثقافي والديني والاجتماعي (والسياسي بعد الاستقلال)، حتى بزغ فجر تكنولوجيا المعلومات والاتصال الذي فتح النوافذ كلها على العالم بأكمله. وخلال معظم القرن العشرين أتتنا الكتب والمجلات والصحف من مصر( المنفلوطي والمازني وهيكل الكبير وطه حسين والعقاد والحكيم والسباعي ويوسف ادريس واحسان وغيرهم، وشوقي وحافظ وابوحديد)؛ وأتتنا عبرها التراجم "لشوامخ الأدب العالمي" في الأدب الروسي والفرنسي والانجليزي والألماني؛ وأتتنا الأفلام والبرامج الإذاعية والتلفزيونية، ونجوم ونجمات السينما بداية من علي الكسّار (بربري مصر الأول) إلى اللمبي؛ وعاد السودانيون الذين يدرسون في مصر قديما بالأفكار والأيديولوجيات الشائعة في مصر: الشيوعية والإسلاموية والعروبية والتي نمت وترعرعت في السودان، (ومعظمها محاولات لحلول مشاكل مصرية لا علاقة لها بواقع السودان). وأتانا منها "الاتحاد الاشتراكي" وهيمنة الجيش والقوات النظامية على الاقتصاد والادارة؛ وأتتنا منها الطبقية وحب المظاهر و"الفشخرة"، والتقاليع والبدع وكراسي "لويس الرابع عشر" المُذهبة والثريات المُزغللة- وإعلانات التعازي من شاكلة "ويخصون بالشكر السيد رئيس الجمهورية..." العلاقات السودانية المصرية مزيج عجيب من المفارقات؛ علاقة من طرف واحد. يعرف معظم السودانيين (خاصة من جيلنا) مصر معرفة جيدة، ويجهل معظم المصريين السودان جهلا تاما. لم يستطع معظمهم التخلص من صورة السودان المنفَى حين حكموا السودان في القرن التاسع عشر، بقبائله "المتوحشة" آكلة لحوم البشر، وتماسيحه وأسوده التي تمرح فى شوارع الخرطوم. ينظر السودانيون (زمان) إلى مصر فيرون ما يأتي منها: العلم والثقافة والإستنارة، والعالم ما وراء "بحر الروم"؛ وينظر المصريون جنوبا فلا يرون إلا "برابرة" وامتدادا حيويا يشقه النيل واهب حياتها. ملاحظتان جديرتان بالإهتمام في العلاقات السودانية المصرية (نعود لهما لاحقا)، أولهما تقفى السودان خطوات مصر وتجاربها (حتى بعد ثبوت أخطائها وفشلها) – الإتحاد الاشتراكي، وقرارات التأميم؛ وثانيهما تحول العواصم السودانية تدريجيا نحو الجنوب بعيدا عن المطامع المصرية: كرمة في الشمال، ثم نيتة (نوري) عند منحنى النيل، ثم مروي شمال الخرطوم، ثم سنار في أقصي جنوب الجزيرة؛ ولم ينعكس هذا التحول إلا بعد الغزو المصري/التركي في القرن التاسع عشر الذي أقام عاصمة البلاد في الخرطوم. من هذه النافذة الضيقة (ضيق مجرى النيل الخالية تقريبا من السكان) أتانا كل ذلك بينما الأبواب مشرعة غربا عبر السهل الأفريقي (حتى السنغال وموريتانيا)، وشرقا نحو القرن الفريقي (حتى الحبشة والصومال)؛ مجال السودان الحيوي (المُهمل) وامتداد قبائله وثقافاته ومصالحه الحقيقية. "يتبع" (إيلاف والراية القطرية 2013.4.16)