عبور المسافة من مرحلة العشائرية إلى مرحلة القومية ليس هو بالأمر السهل مثلما يتصور المتحمسون في أنشطة الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، والمستقلون بذاتهم اجتماعيا وسياسيا، وغيرهم. ولكن دلت التجربة الإنسانية أن عبور هذه المسافة مرهون بقدرة المكونات الاجتماعية على مواجهة تابوهات الاستبداد الديني، والسياسي، والثقافي، وهلمجرا. نحن في السودان الآن في مواجهة نظام سياسي يحاول غصبا عنا تكريس معاني الاستبداد الديني بأدواته المعروفة. وفي الوقت نفسه تجدنا أمام مستبدين يحاولون بأدوات أنتجها النضال الإنساني من أجل الحرية إسكات المفكرين، والكتاب، والصحافيين حتى في الخارج، ذلك كي تبقى المسافة بين ذينك المرحلتين عصية العبور. سلطة الإنقاذ وأنصارها يحاولون جبرنا ألا نقول تقريريا مجرد إن النظام القائم مستبد بالتجربة، والحجة، والنتيجة الماثلة، بل وبشهادة الذين كانوا أصيلين في التخطيط له وقيادته. ففي الداخل هيمن النظام على كل الأدوات الإعلامية الرسمية حتى لا يعبر الناس عن آرائهم العامة، وشكاواهم الخاصة، وتطلعاتهم إلى مستقبل أفضل. بل إن النظام حدد للشعب ما يجب أن يلبسه، ويقرأه، ويشاهده، في عصر الحرية. أما الإعلام الخاص فقد فُرض عليه أن يحرر ما يحلو له من مواد إعلامية بشرط ألا تفيد فعلا في تغيير حيوات الناس الكئيبة في ساحات الاعتقاد، والرزق، والإبداع. وحتى في الوقت الذي يدعو فيه البشير، ونائبه، إلى الحوار الوطني أوقفت سلطات الأمن، لا مجلس الصحافة والمطبوعات، زميلنا النور أحمد النور عن مزاولة مسؤوليته عن رئاسة تحرير جريدة الصحافة. أما زميلنا المسلمي الكباشي مراسل "الجزيرة" فقد أوقف عن عمله لأيام كونه أخبر المحطة أن كل المعتقلين المعنيين لم يطلق سراحهم. والجدير ذكره أن الأستاذين المذكورين لا يمكن تصنيفهما ضمن إعلاميي المعارضة بل إنهما جزء من منظومة الإسلام السياسي. وقبل ذلك تمت ملاحقة كتاب وصحافيين أمنيا وقضائيا، وبعضهم عذب ومنع عن العمل والكتابة، منهم الزملاء مرتضى الغالي، فيصل محمد صالح، محمد الإسباط، رشا عوض، صلاح عووضة، سمية هندوسة، لبنى حسين، حيدر المكاشفي، قرشي عوض، زهير السراج، أبوذر الأمين، خالد فضل، أشرف عبد العزيز، أمل هباني، عثمان شبونة، الطاهر أبو جوهرة، عصام جعفر، وهناك كثر. بخلاف ذلك عادت الرقابة الصارمة على الصحف لمنعها عن تناول الكثير من قضايا الوطن الجوهرية. وهناك العديد من الحيل السلطوية المتعددة التي وظفها النظام حتى تموت الصحف الناقدة أكلينكيا مثلما ماتت قناة هارموني التي حاولت أن تقدم مادة غير مؤدلجة إسلامويا. فالإعلانات الحكومية والخاصة لا تمنح إلا للصحيفة التي يدرك رئيس تحريرها أصول اللعبة الإسلاموية. وإزاء هذا الوضع ما على "أيام" أستاذنا محجوب محمد صالح إلا أن تتوقف بينما تجد صحيفة يرأس تحريرها من هو في عمر أحفاد مؤسس صحيفة الأيام سوقا رائجة، وإعلانات منتظمة. أما بالنسبة لبقية القنوات الفكرية، والثقافية، فقد استنكرنا من قبل أمر إغلاق مركز الدراسات السودانية، ومركز الخاتم عدلان، ومركز الخرطوم، ومواقع أخرى للناشطين في الداخل. وشجبنا أمر معاكسة مركز عبد الكريم ميرغني، والذي سرقت "زين" فكرته النبيلة لتكريم الطيب صالح، وهي الشركة التي وصفها، على الملأ، أحد مدراء شركات الإتصال المنافسة من الإسلاميين بأنها دمرت الاقتصاد السوداني. ولكن لا بأس في زمن الجدب من أن يصير راعي ترحيل الفلاشا راعيا لحقول الأدب التي تطرح قيما أخلاقية وإنسانية تتعلق بحق الشعوب في العيش حرة أبية داخل أراضيها. ما من شك أن هذه السياسات التي أفقرت أرض السودان وحرمته من التجديد السياسي، والفكري، والثقافي، والإعلامي، والفني، هي مسؤولية الرئيس عمر البشير شخصيا ضمن مسؤولياته الكثيرة عن هدر دماء آلاف السودانيين الذين اعترف بمسؤوليته عن ضياع أرواحهم، ودون أن يقدم فردا للمحاكمة. ومع كل ذلك يتوقع الدكتور الواثق كمير ضرورة منح البشير وسام البطولة إن هو أوقف نزيف الدم في البلاد، وقاد الفرقاء السودانيين إلى وضع انتقالي يعيد للبلاد عقلها الذي يستجيب إلى الاستقرار السياسي. إن للدكتور المحترم أسهمه في النضال من أجل سودان مستقر، ومتقدم، وثقتنا في حبه لوطنه لا تحدها حدود. ولا يعبر خطابه للرأي العام، والذي حظي بمدح هنا وقدح هناك، إلا عن حسن نية للقفز النبيل فوق تلك المسافة للوصول إلى مرحلة دولة القانون ومن ثم إعادة البناء القومي. ولكن بادرة النية الحسنة تجاه البشير، وجماعته، لا تسعف حقا في تجاوز تضاريس المسافة بين الدولة العشائرية والدولة القومية. ولعل "الحلم الدافق" لأستاذنا الواثق الذي حرمه من وضع تناقضات النظام في مجهر سياسي دقيق حجم خلاصة كتابه من التعقل البديع. وإن كان قد فعل ذاكرته العارفة بالإسلام السياسي أكثر لانتهت ورقته إلى رؤية سديدة تساعد على إنهاء حالة الاحتقان التي أخافت قلبه الودود من تبعثر حبات العقد السوداني. فالدكتور الذي يفوقنا تجربة في دهاليز السياسة، وتأهيلا أكاديميا مرموقا، كان أحرى به أن يتفحص حقيقة المشهد السوداني، لا اعتمادا على قدرات البشير الفاشلة، أو أخلاقيته المجربة، وإنما انطلاقا من معرفة أكاديمية مفترضة بتيار الإسلام السياسي. فالتيار اللولبي هذا هو قدر مقدر لفشل تاريخي مجتمعي في تفكير المجال الحضاري الذي نتبعه حذو النعل بالنعل، وكذلك هو تيار يمتلك قدرات بشرية، وتنظيمية محلية، ودولية متكاملة للسيطرة على الدولة القطرية. وهذا يعني أن البشير ليس سوى موظف صغير لصالح التيار المركب، وإن بدا رئيسا بعد المفاصلة، في شراكة عابرة للقارات، ضخمة، ومعقدة بمآرب الاقتصاد الطفيلي. فضلا عن أنها شراكة مطامع فردية رخيصة لمنظومة الأصولية، وسخائم جهويتها، وتنازعاتها الجيلية، وامتداداتها الإقليمية، والقارية، والدولية. هذا هو تيار الإسلام السياسي الذي أوكل للرئيس البشير "المفعول به" ليحقق هيمنته على كامل المشهد السوداني بما احتوى من زى علماني، وكجور، ومحايات، ودفوف، وسحر، ومريسة، وجرتق، ورقيص عروس، وتمسح على أعتاب قبور صوفية وطائفية، إلخ. تلك هي جزيئات من التراث السوداني التي قال هذا التيار الإله بحاجتها إلى الأسلمة القسرية، وحقق عمليا بعض برامج لإعادة صياغة هذا التراث حتف أنف. والتيار الإسلامي يا أستاذ جامعة الخرطوم السابق منظومة متسقة من عزائم قوية التطرف والمكر إن غاب مرشدها، أو شيخها، فهي قادرة على تجديد دينامية بقائها الحربائي. وبهذا المستوى من النظر يظل هذا التيار الصمدي قائما سواء بوجود الترابي، أو البشير، أو خلافهما، أو حتى بغيابهما معا. وكذلك يبقى هذا التيار حجر عثرة أمام دعاة دولة القانون بما نال من مكاسب، وتحالفات، واغتيالات، لا يفت عضدها إلا التغيير الراديكالي الذي شاهدناه في الحادي والعشرين من أكتوبر والسادس من أبريل. في الواقع كان يمكن لخطاب الدكتور الواثق أن يكتسب بعضا من عمقه المعرفي بالمشهد السوداني الحاضر لو أن فكرته المركزية نحت إلى مخاطبة المؤتمر الوطني كبنية سياسية متماسكة حتى ترائي الله فينا. فعلى الأقل لو أن الواثق كان قد نصح أفراد القوم جميعهم لجعلنا واثقين وفخورين أن المقدمات التي انطلق منها كانت صحيحة. على الأقل النصح من خلفية "نصحتهم بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد." ولأنه عجز عن الوصول إلى نتيجة منطقية كان مصير خطاب الواثق هو مصير المئات من خطابات حلول للأزمة السودانية والتي حررها كثير من أبناء السودان الحالمين بتسوية سلمية لأزمة البلاد. فبشير المؤتمر الوطني وهو في رئاسته عاصر انبثاق عشرات المساعي الوطنية لحمله وتنظيمه على حل مشاكل حزبه والبلاد بالحوار السلمي الجاد. وهناك عشرات المواثيق التي وقع عليها حزبه مع المعارضتين السلمية والعسكرية، والمجتمعين الإقليمي والدولي، إلا أنها ذهبت أدراج الريح. ويتذكر الدكتور المبجل أن هناك عشرات المبادرات من شخصيات وطنية وإقليمية ودولية محبة للسودان إلا أنها تكسرت أمام مكر التيار الإسلامي. والأكثر أسفا أنه ضاعت آلاف النداءات التي حررها غيورون على البلاد عبر الصحافة، والإنترنت، والندوات، والجلسات الخاصة، وذلك بهدف التنادي إلى كلمة سواء لحل مشاكل البلد. ولكن كان المحبون لخير السودان يقدرون حسن النية مثل الدكتور الواثق فيما يقدر قادة المؤتمر الوطني تقديرا ضيقا لصالح استدامة سيطرة التيار الإسلامي، ولو على حساب ضياع الوطن كله. وأخيرا شاهدنا بالتجربة محاولات الدكتور غازي، ومن سموا أنفسهم بالسائحين، والعساكر الإسلاميين، لحمل البشير على تحقيق الإصلاح بمرجعية إسلاموية. غير أن الذي حدث هو أن زميلهم تجاهل مذكرة الإصلاح والسائحين بل هدد بمعاقبة كل من يعمل خارج القنوات الرسمية لحزبه، وزج بعسكره المخلصين الذين عاصروا كل مراحل الفساد المتنوع. وكذا هدد نائبه أنه سيحاكم العسكر وفقا للقرآن الكريم مثلما أعملوا سيفهم في رقاب ضباط وجنود الجيش في شهر رمضان المعظم. أما بالنسبة لغازي فقد قطعوا أمامه الطريق للإصلاح عبر الحركة الإسلامية، ولم يكتفوا بذلك وإنما عاقبوا معاليه بإقالته من رئاسة الهيئة البرلمانية لحزبه. وبصرف النظر عن إغفال الورقة الكثير من القضايا المتعلقة بالمحاسبة فإن الأحداث الجارية أثبتت أن البشير ليس هو الشخص القادر على الاستجابة لتطلعات الواثق وغيره من الآملين في تعقله وكثير نعمائه. فإن صح عزمه على التقاعد فإن الفترة المتبقية لن تسعف البشير على لملمة أطراف البلاد، هذا إذا لم يحدث تغيير جوهري بين الآن وفترة انتخابات المؤتمر الوطني المقبلة، والمضمونة النتائج. ويكفي أن القوى السياسية جميعها شككت في دعوة البشير وأركان حزبه للحوار الوطني، ورفضت الاستجابة إلى ما وصفتها بتمثيليات المؤتمر الوطني التي شاهدتها مرارا وتكرارا من موقع الفرجة والإعداد.. بل إن الدكتور عبد الوهاب الأفندي وهو الأكثر معرفة بزملائه السابقين سخر من الدكتور غازي صلاح الدين الذي أعرب هو الآخر عن أمله الوارف في من أقاله بلا "شورى". بموضوعية فائقة أعمل الدكتور الواثق كمير ذهنه في بعض من تفاصيل اللوحة ولكنه لم ير إطارها. وعلى كل حال شكرا له، ولنصه، الذي أتاح لنا وللآخرين شيئا من القول بأهمية تحري الدقة في النظر إلى الشؤون الوطنية. salah shuaib [[email protected]]