[email protected] قل للذين يوزعون الظلم باسم الله في الطرقات إن الله في نار الدموع وفي صفوف الخبز والعربات والأسواق والغرف الدمار البحر يا صوت النساء الأمهات القحط يا صمت الرجال الأمهات الله حي لا يموت الصادق الرضي كان صباحا ككل الصباحات نتحايل كالعادة على قتل وقته الذي يجرجر قدميه متثاقلا لزجا رتيبا معجونا بالرطوبة وزخم المعاناة وبطيئا بثقله وخوائه في هذه المدينة الساحلية وكنا ثلاثة في مكتب الدكتور طاهر محمد موسى في مستشفى (سودان لاين) بالسوق الكبير ببورتسودان حينما قطع حديثنا رجل شاحب الوجه ..رث الثياب كان يسعل بحدة يهتز على أثرها جسده المعتل المنهك .. وبدأ يحكي لزميلنا الطبيب معاناته مع المرض وكيف انه يتعاطى من حين لآخر أقراصا من العلاج لم تأتي بنتيجة .. ويقول إن السعال أيضا اصطاد ابنه الذي كان يقف بجانبه ثم سرعان ما جلس على أرضية المكتب بعد أن خارت قواه وعجزت قدماه عن حمله.. وقبل أن يستكمل الرجل حديثه ويشخص الدكتور علته طار عقلي رعبا فقد عرفته .. انه ذلك المرض اللعين الذي تمدد وانتشر كالنار في هشيم السودان نتيجة لتفشي الفقر وسوء التغذية ولأن الغرفة ضيقة وأنفاس الرجل كانت تتلاحق صعودا وهبوطا فقد سيطر علي شعور عارم بضرورة الهروب بجلدي خوفا من المرض المعدي الذي لم ينجو من أنيابه حتى احد الأطباء الاستشاريين بكلية الطب في جامعة لها شنة ورنة نتيجة مخالطته للمرضى كما تقول إحدى طالباته .. الدكتور (الإنسان) طاهر محمد موسى دس في روشتة العلاج المجانية مبلغا من المال من جيبه الخاص و لو كنت مسئولا في هذا البلد العجيب لفرشت أمامه كل الوظائف التي تحمل الطابع الإنساني واللصيقة بخدمة الناس لله في لله ليختار منها ما يشاء..هذا طبعا إذا كان الفيصل والمعيار في الاختيار هو البذل والعطاء والكفاءة والأمانة وقيم أخرى كثيرة اندثرت وأضحت أثرا بعد عين.. بعد خروج الرجل وهو يجر ورائه ابنه ( لافتة متحركة عنوانها الطريق إلى المقبرة ) تذكرت وقتها خطاب الرئيس الذي بشر المواطنين قبلها بيومين بنجاح الحكومة في القضاء نهائيا على مرض الدرن في شرق السودان .. تساءلت ترى أي عذاب ينتظر ذلك الرجل المعدم (قبل أن يلقى الله) وهو يواجه وحيدا عاري الصدر مستلزمات الغذاء والعلاج المكثف في زمن الخصخصة وجنون الأسعار..سرحت بعقلي بعيدا و الحكومة لم تكتفي برفع يدها عن التعليم والعلاج والمعيشة تنفيذا لسياسات (حمدى) فحسب بل تتفنن في تضيق الخناق على منظمات الإغاثة أتساءل عن مصير هؤلاء البدو الذين جار عليهم الزمان وقست عليهم الطبيعة و في المخيلة صور لازالت متقدة وشما في الذاكرة حينما كان السودان سودانا وكان جنيهنا وقتها ينطح الدولار والإسترليني ليس مسنودا بالذهب ولا النفط ولكن بحصيلة صادرات بعضها من كد الإنسان وعرقه كالقطن والسمسم و أخرى جادت بها الطبيعة في الأرض الخلاء كالسنمكة والصمغ العربي ..تذكرت ويا حليل زمن الجهل بل يا حليل زمن البريد همهمات عمال الشحن والتفريغ داخل بواخر (سودان لاين) أثناء ساعات الدوام ..تراءت أمامي الأجساد الأبنوسية المفتولة العضلات والقامات السامقة للرجال تعتلي ضحكاتهم وهم يتقافزون إلى أعلى فرحين جزلين في لعبة (البيبوب) حول مكتب العمل في الميدان الذي كان يتوسط الناحية الشرقية لديم العرب ريثما يتم صرف مستحقاتهم ويتجهوا إلى مطاعم لحم (السلاة). صحيح إن الشيء الأكثر قسوة هنا أن تحمل في تلافيف الذاكرة حنينا لشيء لم يعد له وجود.ولكن ماذا نقول وكيف ننفك عن هذا الواقع ماضيه وحاضره ؟ إذا افترضتا جدلا إن الحكومة (التي فيها ما يكفيها ) عاجزة عن تلبية حاجيات مثل هؤلاء المواطنين حتى في الحدود الدنيا فسوف تظل دوما علامة الاستفهام الحائرة دون إجابة محلقة فوق الرؤوس لماذا تنشط إذن في قطع أيدي الآخرين الممدودة عونا وإغاثة ؟ قبل سنوات ومع فوران المشروع الحضاري زار احد المسئولين مدينة سنكات وسنكات هذه ارض بلقع بعد أن ضربها الجفاف والتصحر سنين عددا ولم يتركها إلا قاعا صفصفا..لمح ذلك المسئول احد سيارات منظمة نرويجية كانت تعمل في حفر الآبار وتساءل مستنكرا (الناس ديل لسع قاعدين؟) هذا الرجل لم يكن يملك بالطبع بدائل لحل معاناة هؤلاء المواطنين المعدمين مع الماء في هذه المنطقة الصحراوية القاسية فليست هذه مشكلته ولكنه قال ما جادت به قريحته ضمن ركوب موجة شعارات تلك الحقبة التي انتهت بإدخال الناس المساجد والتسلل من النافذة لأسواق (البيزنس) والصفقات.. مثل هذه النماذج هنا كثيرة ومحزنة..هناك دائما حالة شك وتوجس واتهامات وظلال من المؤامرات في أذهان المسئولين عن أنشطة هذه المنظمات وهناك دائما (الحكم) المتوتر الجاهز بالكروت الصفراء والحمراء ولكن الذي يدفع دائما الثمن الغالي والنفيس في هذا (الدافوري القميء) هو (اللاعب) المواطن البسيط المنكوب والمغلوب على أمره والأمثلة المفجعة هنا على قفا من يشيل فقد تم إيقاف منظمة الطفولة السويدية وكانت تقدم خدمات التغذية والرعاية الصحية لأطفال مستشفى حي التقدم (أحد الإحياء البائسة) في بورتسودان كما تم إيقاف منظمة أطباء بلا حدود وكانت تقدم خدمات جليلة للمواطنين في المجالات الصحية وتم إيقاف منظمة اوكسفام وكانت ناشطة في مجال التعليم والصحة وتأمين الكتب وحفر الآبار علما بأن معظم أنشطتها كانت تتركز في الريف..كما تم منع منظمة ايطالية أبدت استعدادها لتشييد مستشفيات تقدم خدمات علاج مجانية في شرق السودان ضمن برنامج خيري حفيت وراء تأمين موافقتها أقدام ثلاثة من الزملاء الأطباء في بريطانيا هم الدكاترة أبو آمنة والراحلين المقيمين الحسن مصطفى ومحمد شريف ... كلما أتذكر قرارات الإيقاف والمنع هذه الظالمة الجائرة التي ترتقي إلى جريمة متكاملة الإطراف أتذكر ذلك الحديث الشريف الذي يتحدث عن المرأة التي دخلت النار في هرة لم تطعمها ولن تتركها تأكل من خشاش الأرض فما بالك بالإنسان الذي كرمه الله؟ و تحتار في فهم أسباب الإيقاف والمنع والطرد هل هي التقرب من الله بسد الأبواب وقطع الطرق أمام مشروعات الكفرة الفجرة ؟ الجواب إن هذا لا يستقيم منطقا لدولة تبني الطرق وتشيد السدود بحصيلة القروض الربوية بل تستميت ولازالت في تنفيذ سياسات التعاون الاستخباراتي مع كل حكومات دولة الاستكبار (أمريكا) وليست رحلات (قوش) المكوكية لكسب ودها ورفع اسمها من المقاطعة بعيدة عن الأذهان .. هل السبب هو الخوف من التنصير ؟ الإجابة هنا تكشف عنها حقيقة طريفة فقد قيل إن القائمين على احد منظمات الإغاثة الأجنبية وكانت قد استكملت للتو برنامجا اسعافيا ناجحا في منطقة ريفية نائية سألوا المواطنين عن طلباتهم الأخيرة فأجابوا بصوت واحد أداء فريضة الحج .. الآن تبقت فقط منظمة ايطالية واحدة هي منظمة العون الايطالي ولديها مستشفى خاص بالأطفال في منطقة شقر (احد الأحياء الطرفية لمدينة بورتسودان ) تقدم خدمات علاج مجانية وتقبل جميع الحوادث ومتوسط التردد اليومي يقدر ب 150طفل ..تمارس هذه المنظمة نشاطها الخيري وتؤدي مهامها بسياسة اللعب النظيف fair play)) وعينها على كروت الحكم ولسان حالها يقول استر يارب .. على إن الصورة لا تكتمل إلا بالتعليق على أنشطة وتحركات أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمدين في السودان والوفود الزائرة وهؤلاء لا يتحركون إلا بموافقة مكتوبة من الخارجية وسفاراتها بل تحت عين وبصر الأجهزة الأمنية على تفاصيل برامجهم سواء في العاصمة أو في الأقاليم ولكن هؤلاء الضيوف كثيرا ما يبلون ويشربون في الولايات (موية) تصاريح تحركاتهم وزياراتهم الممهورة بتوقيعات الخارجية والأمن والسبب أن الأجهزة السياسية والأمنية الولائية تمتلك حق الفيتو وهذه صناعة سودانية بحتة لا مثيل لها في العالم الآخر(الأصل يقبل والفرع يرفض).. الذي يستوقفنا هنا ندرة أبناء المنطقة في الأجهزة الرقابية التي تشرف على تحركات الضيوف فهؤلاء أدرى باحتياجات إنسان المنطقة ومراقبة كل من تسول نفسه بالتجسس وتمرير الأجندة الخارجية كما يزعمون رغم جهلي التام في ماذا يتجسسون أصلا .. خلاصة القول إن طرد هذه المنظمات وإيقافها يدخل من باب القرارات (الأكثر سهولة في الإصدار والأكثر ضررا في التأثير) قد انعكس سلبا على الولاية في التعليم والصحة ومياه الشرب كما أحدث فراغا خطيرا نتيجة لتفشي حالات الوفيات وسط الأطفال والحوامل التي تعتبر الأكثر في السودان حسب إحصائيات وزارة الصحة فهل هناك من يسمع وهل هناك من يرحم ؟ //////////////