من منا نحن شباب الستينات لا يذكر سياسة الفصل العنصري البغيضة في جنوب أفريقيا ، ومن منا لا يذكر تلك المظاهرات التي كانت تجوب شوارع الخرطوم وغيرها من مدن السودان من حين لآخر وهي تشجب وتدين هذه السياسة اللعينة التي كانت تقوم على معاملة المواطن في جنوب أفريقيا وكأنه من فصيلة الحيوان. ومن منا لا يذكر مذبحة شارپڤيل في مارس 1960 والتي اغتيل فيها غدراً 69 من السود في مركز للبوليس بتلك المدينة ، أو ستيڤ بيكو وكلماته التي تلهب حماس الجماهير واغتياله المأساوي في عام 1977. ومن منا لا يذكر محاكمة نلسون مانديلا التي لفتت انتباه العالم لمأساة الفصل العنصري في البلاد ، أو فترة سجنه الطويلة التي كانت سبباً مهماً في الضغط على النظام العنصري مما أدى في النهاية لانهياره التام في عام 1994 وعودة مانديلا نفسه للاضواء مرة أخرى بعد أن شاخ وهرم دون أن تلين عزيمته القوية. غير أن كل هذه الأحداث أصبحت الآن في ذمة التاريخ وأصبحت ذكريات تروى ... فهل هذه هي الحقيقة أم أن شبح الابارتهيد لا زال يطارد شعب جنوب أفريقيا وحكومته؟ في عام 1994 أعلن عن نهاية نظام الفصل العنصري ، واستطاعت جنوب أفريقيا تحت قيادة زعيمها الملهم نلسون مانديلا أن تنحت لنفسها على صخرة التاريخ صورة الدولة العطوفة المتسامحة عبر أعمال لجنة التسامح والحقيقة وهي تجربة رائدة حاولت عدد من الدول بعد ذلك تطبيقها على أمل تجاوز مشاكلها السياسية والاجتماعية. وبدا كأنما قررت جنوب أفريقيا أن تتناسى هذا الماضي البغيض وتنظر للمستقبل بعيون ملؤها التفاؤل والأمل. إلا أن تصريحات للقس ديزموند توتو قبل أسبوعين ألقت بصخرة ضخمة في البركة الساكنة التي من المتوقع أن تنداح موجاتها وتتكسر على شاطئ المجتمع في جنوب أفريقيا لسنوات قادمة. في كلمة ألقاها بمناسبة حصوله علي إحدى الجوائز أعاد القس توتو للذاكرة تلك الأيام الرائعة من عام 1994 التي شهدت تجاوز الشعب في جنوب أفريقيا محنة الفصل العنصري ، وتمكن خلالها فريق جنوب أفريقيا من الفوز بكأس العالم في رياضة الرُغبي. وأشار القس توتو إلى أنه مما يثير الحزن أن بلاده قد أصبحت الآن الأكثر عنفاً من بين كل دول العالم ، قائلاً أن المواطن في جنوب أفريقيا يبدو في الوقت الحالي أكثر قلقاً على أمنه ومستقبله مما كان عليه أيام حكم الأقلية البيضاء. جاءت تصريحات القس الحائز على جائزة نوبل للسلام بعد أن بثت قنوات التلفزيرون المحلية والعالمية شريطاً مسجلاً يظهر فيه عدد من أفراد الشرطة في جنوب يقومون بسحل بعض المتهمين بعد ربطهم في خلفية سيارة للشرطة طافت بهم الشوارع وسط دهشة المواطنين. أثار هذا التصرف غضب الكثيرين وأعاد للأذهان ذكريات عنف الشرطة تحت نظام الفصل العنصري. جاء رد فعل الحكومة الرسمي على تصريحات القس ديزموند توتو على لسان الناطقة باسم مجلس الوزراء بالإنابة والتي قالت أن التصريحات تجافي الحقيقة تماماً مشيرة إلى أنه على عكس ما ذكر القس توتو فإن الدراسات التي تجريها الحكومة تؤكد أن المواطن يحس بالأمان حالياً اكثر من أي وقت مضى ، مؤكدة أن المسح الذي اجرته وحدة ضحايا العنف التابعة للشرطة تشير إلى انخفاض ملحوظ في الجريمة خلال العامين الماضيين. وأشارت الناطقة باسم مجلس الوزراء إلى أن ذلك يعود للاستراتيجية التي تطبقها الشرطة والتي تتمثل في الانتشار الملحوظ والتعامل الحاسم والسريع مع كل مظاهر الجريمة في المجتمع ، ودعت القس توتو للتعاون مع الحكومة بدعوة رجال الدين للعمل يداً بيد مع الشرطة لمحاربة الجريمة. وقد أثارت تصريحات القس الكثير من ردود الأفعال في الوسط السياسي وعلى المستوى الشعبي مما أكسب القضية بعداً أعمق جعلها تجذب انتباه الإعلام داخل جنوب أفريقيا وخارجها. كان وزير التخطيط تريڤور مانويل قد أثار القضية من جانب آخر عندما تحدث في مؤتمر عن القيادة الراشدة قائلاً انه قد آن الأوان للحكومة وبعد عشرين عاما من الحكم الديمقراطي أن تتخلص من عادة تعليق كل إخفاقاتها على مشجب الآثار الناتجة عن سياسة الفصل العنصري. أثار التصريح حفيظة بعض منظمات المجتمع المدني والرئيس جيكوب زوما الذي قال أن عقدين من الزمان فترة قصيرة للغاية للتخلص من الآثار الضارة لسياسة الفصل العنصري التي ظلت تحكم البلاد لعشرات السنين ، وأكد أن المتجول في شوارع ومدن جنوب أفريقيا يلحظ بوضوح ذلك الفارق الكبير بين الأغنياء والفقراء وهي الظاهرة التي ورثتها البلاد عن النظام السابق. ومضى الرئيس للقول أن الآثار التي خلفتها سياسة الفصل العنصري أعمق من أن يتصورها الإنسان وأنه من السذاجة الاعتقاد بأنها يمكن أن تستأصل خلال عشرين عاما فقط هي عمر النظام الديمقراطي. حاول الأمين العام للحزب الشيوعي الذي يشارك في الائتلاف الحكومي الدفاع عن وزير التخطيط عندما قال إن كلمات الوزير نقلت في غير سياقها إذ أن المقصود منها هو إثارة حماس الموظفين العموميين لبذل أقصى جهودهم لتجاوز الأوضاع الراهنة. ساعدت تصريحات فريدريك ديكليرك آخر رؤساء جنوب افريقيا تحت نظام الفصل العنصري على صب المزيد من الزيت على نار الجدل الدائر ، عندما اتهم الحكومة ورئيسها زوما بأنهم يحاولون الهروب من الواقع وتبرير القصور الواضح والفشل في إدراة البلاد خلال العقدين الماضيين بإلقاء اللوم على نظام الفصل العنصري. أشار السيد ديكليرك إلى أن هذه التصريحات غير المسئولة تحاول أن تجعل من البيض في جنوب أفريقيا كبش فداء لعجز حكومة الأغلبية السوداء من تجاوز عقبة الفوارق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء. ويأتي حديث السيد ديكليرك ليعيد الحياة من جديد للمخاوف التي ظل يعبر عنها البيض قبل الوصول للتسوية التاريخية التي أدت لميلاد النظام الحالي في جنوب أفريقيا. وكان ديكليرك نفسه قد أشار لهذه المخاوف في خطابه الذي ألقاه خلال حفل تأبين رئيسة الوزراء البريطانية السابقة مارقريت ثاتشر. كان البيض يتخوفون ، على حد قول السيد ديكليرك ، من أن تؤول بلادهم لنفس المصير الذي آلت له معظم الدول الأفريقية التي نالت استقلالها تحت النظام الديمقراطي الذي يؤمن بنظرية الصوت الواحد للرجل الواحد. يقول ديكليرك أن كل هذا الدول انتهى بها المطاف بعد تطبيق الديمقراطية لأن تصبح دولاً ديكتاتورية يسودها العنف والفساد السياسي والإداري. كما أشار لتخوف البيض المعروفين باسم الآفركانرز من تغول الأغلبية مما سيؤدي لفقدانهم حقهم الأصيل في تحقيق المصير وهو الحق الذي حاربوا من أجله أعتى الدول الاستعمارية ، كما تحدث عن تخوفهم أيضا من أن تقع البلاد تحت سطوة الشيوعية بسبب النفوذ القوي الذي يتمتع به الحزب الشيوعي داخل المؤتمر الوطني الأفريقي. قد يبدو التخوف من نفوذ الحزب الشيوعي أمراً غير مبرر في الوقت الحاضر بعد انهيار الشيوعية العالمية ، إلا أن الحزب لا زال يشارك في الائتلاف الحكومي القائم كما أشرنا أعلاه ويتمتع بشئ من النفوذ خاصة في أوساط النقابات العمالية. بالنظر للممارسة السياسية الشائعة واستعداد الحكومات الفطري لإلقاء اللوم على الجميع عند فشلها في تحقيق الأهداف التي جاءت من أجلها ، فإن المتوقع أن يستمر هذا الجدل في جنوب أفريقيا لوقت قد يطول. ويرى بعض المراقبين أن الجدل لن يقود إلا لصرف الأنظار عن القضايا الحقيقية التي تواجه المواطن في جنوب أفريقيا ، ويقول هؤلاء أنه بالنسبة للفوارق الكبيرة التي لا زالت قائمة بين الطبقة الغنية وأغلبها من البيض وغالبية الشعب التي تمثل الطبقة الفقيرة فإن مثل هذا الجدل قد يقود لاستقطاب عنصري يعيد للأذهان الذكريات الأليمة لتاريخ الفصل العنصري الطويل في البلاد. ومن جانب آخر فإنهم يرون أن الذي يطفو على السطح ما هو إلا قمة جبل الجليد ، وأن الحكومة إن تقاعست عن معالجة هذه المشاكل باتباع السياسات الصحيحة فلربما دفعت بالبلاد نحو شفير الهاوية. ولعل المطلع على تعليقات العديد من مواطني جنوب أفريقيا على شبكة الانترنت يدرك مدى عمق المشكلة ، فالكثيرون منهم يتهمون الزعماء السود بما فيهم القس ديزموند توتو نفسه بالاغتناء على حساب الفقراء الذين يشكلون 50% من أبناء الشعب. من الواضح أن الأوضاع لم تبلغ بعد حد الأزمة ، وأنها لا زالت تحت السيطرة حتى الآن. ولكن إذا عطست جنوب أفريقيا فإن الكثير من الدول خاصة في القارة الأفريقية ستصاب بالزكام ، وبالنظر للوزن الإقتصادي الكبير للبلاد فإن الكثير من الحكومات تتابع عن قرب ما يجري هناك ليس على مستوى القارة الأفريقية وحسب بل وعلى مستوى العالم ككل. فجنوب أفريقيا هي أكبر اقتصاد أفريقي واحتلت في العام الماضي الموقع الثامن والعشرين على مستوى العالم من حيث إجمالي الناتج القومي ، وتليها من الدول الأفريقية نيجيريا في الموقع التاسع والثلاثين. وبالرغم من بعض المشاكل التي تواجهها حكومة الرئيس جيكوب زوما لأسباب داخلية كما ذكرنا في متن هذا المقال أو بسبب الدور الذي تلعبه في بعض المناطق الملتهبة مثل أفريقيا الوسطى ، إلا أن عضوية البلاد في مجموعة البريكس للدول الصاعدة وجهودها من أجل تحقيق السلام في العديد من الدول الأفريقية بما فيها السودان عبر وجودها المؤثر في الاتحاد الأفريقي أو المنظمات الأفريقية الأخرى يجعل منها مرشحاً قوياً لمقعد دائم في مجلس الأمن عن أفريقيا إذا ما طبقت المنظمة الدولية الإصلاحات التي تدعو لها دول العالم الثالث. Mahjoub Basha [[email protected]]