عميد الصحافة السودانية: الإعلام العربي مأزوم والنظام السوداني الحالي الأكثر قمعاً للصحافة.. والإعلام لا يصنع ثورة عندما يسيطر رأس المال ستظهر صحافة متمردة في الجزء الثاني من هذا الحوار يري الدكتور محجوب محمد صالح أن الصحافة السودانية نعاني القمع منذ 45 سنة والنظام الحالي هو الأكثر قمعاً، معتبرا ان غياب الديمقراطية في السودان أدى إلى تدهور كل شئ بما فيها الالتزام بمواثيق الشرف الصحفي. وقال صالح أن الاعلام العربي مأزوم كواقع الدولة العربية، مضيفا الإعلام لا يصنع ثورات والقول بأن الإعلام وحدة يصنع ثورة مبالغة. = كيف تنظر للصحافيين الشباب ؟ - الصحافة السودانية انبنت على التشكيل الذاتي للصحافيين الاوائل الذين علموا أنفسهم بأنفسهم خاصة وان السودان وقتها لم تكن فيه جامعة، كل ماهنالك كان عبارة عن مدرسة ثانوية واحدة، فعدد قليل فقط تعلم تعليما محدودا ولكنه كان يثقف نفسه تثقيفاً عالياً جداً ، والصحافيون الشباب الان مطالبون بان يعودوا لهذا الامر لتثقيف انفسهم خاصة وان المعلومة الان موجودة وسهلة رغم انهم يعانون من انهيار التعليم العام و الجامعي بالبلاد ومن عدم توفر الآليات على رأسها اللغة الاجنبية لمتابعة التطورات، لان اكثر المعلومات المتوفرة باللغة الانجليزية ، ونصيب السودانيين من تلك اللغة اصبح ضئيلاً جداً ولذلك لابد ان يستغلوا الفرصة امامهم في ما يتعلق بتناولهم للقضايا ؟ الإعلام في السودان عانى من عدم الاستقرار السياسي بصورة كبيرة، والإعلام مرتبط بالوضع السياسي بالبلد ،فاذا كانت هناك ديكتاتورية فلن تجد إعلاماً حراً ولو وجدت الديمقراطية تتاح للإعلام فرص اكبر ، لكن في السودان لم تأت حركة انقلابية خلا بيانها الاول من قرار اغلاق الصحف ،ولذلك لما تقوم بتغيير انقلابي تلغي الماضي كله، الصحافيون الذين تدربوا واصحاب الخبرة والمعرفة تغلق امامهم مجالات عملهم ، فيلجأ بعضهم للهجرة والاخر لوظيفة اخرى وعندما يتم اعادة فتح الباب للإعلام تكون البداية من الصفر ومرة اخرى يقع انقلاب اخر للحكم وتتكرر ذات المسرحية لذلك يغيب تواصل الاجيال وينعدم الاستقرار المهني والصحفى مما يقود لتآكل رأس المال الوطني من الإعلاميين . فالشباب الصحفيون الموجودون حاليا ممتازون جدا ومتعلمون اكثر مننا وعندهم فرص افضل ، فوسائل الاتصال متاحة لهم اكثر ولكن يعانون من هذه الأزمات فهم لم يعيشوا في اجواء حرية كاملة حتى الان، فالسودان استقل سنة 1956 وبعد ثلاث سنوات يكمل الستين عاما منذ الاستقلال وطيلة ال"75" عاماً عاش السودان 45 سنة تحت انظمة ديكتاتورية لا تتيح للصحافيين ان يعملوا في صحافة حقيقية وتآكل رأس المال البشري جعل عددا من الصحافيين المهاجرين اكثر من العاملين في السودان بجانب الاساليب الخاطئة في التعامل مع الصحافة وخلق الأزمات ماجعل الصحف تغلق ابوابها وتشرد الصحافيين ليدخلوا عالم العطالة فكلها ظروف في منتهى القسوة تؤثر في الصحافة السودانية . = بحسب تجربتك التي بدأت منذ الاستعمار البريطاني ماهي اكثر الانظمة التي كانت تمثل وبالاً على الصحافة السودانية واكثرها ازدهاراً ؟ - لم ار نظاماً مر على السودان اسوأ من نظام المؤتمر الوطني الحاكم للبلاد حاليا على الصحافة فهو يعاملها بكل مافي مخزونه من ادوات كبت الرأي الاخر من آليات، و نظام مايو تفوق علي هذا النظام في امر واحد انه أمم الصحافة طوال حياته ولذا لم يكن يحتاج لاستخدام ادوات كبت لانه استولى عليها . أما اكثر فترات الازدهار بالنسبة للصحافة كانت من منتصف الاربعينات لمنتصف الخمسينات اذ كان هناك حركة وطنية وهدف متفق عليه من كل السودانيين وهو التحرير بصرف النظر عن الخلاف بين الوحدة والاستقلال ، وكان هناك حماس لطرح الافكار الوطنية، وكانت هناك حرية، وحدث قدر بسيط من الكبت في النصف الاول من فترة الحكم البريطاني ووقتها أُدخل الصحافيون السجون وغرموا ولكنهم واصلوا الي ان حققوا النتائج المطلوبة . لكن بالطبع الصحافة لاتزدهر الا تحت انظمة ديمقراطية . = في رأيك ماهي الخطوط الفاصلة بين الحرية والمهنية ؟ - الاساس في الصحافة هو وجود نظام ديمقراطي لان النظام الديمقراطي يعتمد اساساً على توفير المعلومات للرأي العام وادارة حوار بينهم وبالتالي من أهم قواعده حرية التعبير كجزء من منظومة الحريات ، وحرية التعبير ليست ميزة خاصة بالصحافيين واجهزة الإعلام المختلفة وانما هي حق للمجتمع لتوفر له المعلومات ليحكم بدراية وللوصول لرؤية مشتركة لادارة الصراع الفكري بطريقة حضارية بعيدا عن العنف ،وهذه الحرية لها حدود بان لاتنزلق لمستوى الصراعات المسلحة ،ولذا لابد ان يكون لها حدودها ومن هنا لابد ان يحس الصحفيون ان لهم مسئولية تجاه حماية هذه الحرية من الانحرافات ، ومن هنا نشأت فكرة مواثيق الشرف التي تجعلها تضبط نفسها بضوابط مهنية تضمن ممارسة الحقوق على الاساس الذي من اجله مُنحت حرية التعبير، لذلك لابد ان يكون لدى الصحفي مصداقية فيما ينشره من اخبار فالكذب ليس جزءاً من الحرية لذا لابد ان توضع ضوابط تضمن ان الخبر يعتمد على كل الحقيقة، يعني "مانجيب حقيقة ونخلطها باكاذيب او نلونها بافكار خاصة " لذا هذا التعريف بين الحقيقة والرأي مهم خاصة وان القاعدة الاساسية ان الخبر مقدس فليس من حقك ان تعبث به والرأي حر في حدود لان حرية التعبير تنتهى عندما تبدأ حقوق الاخر، يعني لايمكن ان يمنح الصحفي الحق في ان يسيئ للاخرين او ينقص من كرامتهم او تقولهم مالم يقولوا لان كل ذلك ضد حرية التعبير ويدخل في دائرة الاعتداء على حقوق الغير وخصوصياته . أما الشخصية في العمل العام فللصحفى الحق في انتقاده فيما يتعلق بالعمل العام ولكن لايتطرق لخصوصيته ، ويفترض ان توجد مجالس للصحافيين تتولى الانضباط الذاتي اسوة بالمجالس الطبية والقانونية التي تحاسب الاطباء ورجال القانون وهو شئ متعارف عليه في تلك المهن . = أتعقد ان ميثاق الشرف الصحفى تراجع ؟ - السودان تراجعت فيه الديمقراطية وهذا يقود لتراجع في كل شئ ولدخول ممارسات خاطئه في اجواء الصحافة فهو تراجع مهني شامل وليس في الشرف وحده ، فنجد ان هناك قواعد غير ملتزم بها وان خصوصية العمل الصحفي اصبحت منتهكة من جانب الحكومة والصحافيين ، عموما الإعلام جزء من اساسيات التنظيم الديمقراطي فاذا تحولت الحرية من اصل الي هامش فكل الاشياء تتأثر بدرجات متفاوتة. = كيف تنظر لاتحاد الصحافيين السودانيين ؟ - الاتحاد جزء من الاستقطاب السياسي الموجود مابين الحكومة والمعارضة وهذا يحدث دائما في البلاد التي تحاول ان تعيش في نظام الحزب الواحد ،بينما ترسم صورياً ان بها تعددية وتستخدم كل الاغراءات للاستيلاء على منظمات المجتمع المدني، عموما هذه ليست اول مرة ولا اخرها وأي دولة فيها نظام حكم يمارس ذلك ويخلق هذه الاستقطابات وبالتالي تؤثر على المجتمع المهني . = هناك ظاهرة استثمار رجال الاعمال في الصحافة أتعتقد أنها خصم على الصحافة؟ - هذه ظاهرة جديدة فالصحف حتى الثمانينات كان يصدرها الصحفيون انفسهم ولكن في كل العالم الصحافة اصبحت مهنة وصناعة والان اصبحت صناعة بالغة التكاليف ، وهذه المرحلة في السودان مرتبكة وفيها محاولات ليعمل الصحفي، وهي مرحلة عابرة وبعد عدد من السنين الوضع سيستقر، عموما لو استقرت الديمقراطية يصبح العمل المستقل الافضل وهو يحتاج لرأس مال ، فالمعادلة صعبة وفي نهاية المطاف الإعلام سيتأثر بالقوى المالية المستثمرة فيه وبالذات مشروع الوسائط المتعددة التي ستخلق احتكارات وستكون لها تأثيرات سلبية ولكنها ايضا تستطيع ان تواكب التطورات، ولكن الخلل سيكون في نوعية المعلومات التي ستصل اذ سيحاولون تحويل اهتمام الرأي العام لقضايا جانبية بالتركيز على صحافة المتعة والجريمة والاحداث الشاذة بجانب مجموعة من الاحداث التي لم تكن ذات اسبقية لتجهيل المجتمع واشغاله بقضايا انصرافية وتجعلها الوحيدة المطروحة في الساحة ، لذا ستظهر محاولات للإعلام البديل وسيجد له فرصة كما ان هناك ظاهرة جديدة ستكون مهمة وهي الصحافة التفاعلية. عموما عندما يسيطر رأس المال ستظهر صحافة متمردة على رأس المال، وعندما تطفو على السطح الصحافة القائمة على اخبار الرياضة والجرائم والفضائح ستنشأ في مقابلها صحافة اكثر جدية وموضوعية تكون ضعيفة في البداية لكنها ستقوى . = ماتقييمك للإعلام العربي وهل لعب دوراً في ثورات الربيع العربي ؟ - الإعلام العربي صورة للواقع العربي فهما مأزوم والثورات قامت بسبب ذلك الوضع المأزوم وحدثت الانفجارات فلا الإعلام تعامل معها بقدرة كافية ولا المجتمع الدولي تفهمها بقدرها ، لان الحكم عليها في هذه الظروف مهم والمهم ان تستوعب الحدث وهذا مالم يحدث ولذا حدث اضطراب وهذا لم يحدث للإعلام وحده وانما للدول ، اذ حاولت في بادئ الامر انقاذ الانظمة المثار ضدها وتكون لها ناصحة ثم تخلت عنها مع قوة الانفجار وهذا كان رد الفعل الاول بسب المفاجأة واضطراب التفكير ، عموماً لايوجد إعلام يصنع ثورة لوحده وانما هو عنصر مساعد في التوعية والتعبئة فلا يستطيع ان يخلق الإعلام الثورة من عدم "واي كلام مثل ذلك مبني على المبالغة " = هناك اتهامات لشخصك بالمشاركة في تأميم الصحف وهذا مايؤخذ عليك ؟ - لم يكن لي رأي او دور في قضية تأميم الصحف التي نفذت في عهد حكم مايو عام 1969م ،وفوجئت بالقرار كما الاخرون ، ووقتها دعيت لاجتماع في وزارة الإعلام الساعة الواحده ظهرا واعلن القرار الساعة الثانية ظهرا من ذات اليوم وطرح علي في ذلك الاجتماع ان اتقلد منصب رئيس المؤسسة العامة للصحافة وكان يمكن ان يوكل لي رئاسة تحرير احدى الصحف التي كانت موجودة وقتها ولكني رفضت واخبرتهم برفضي لقرار التأميم وطلبت الا تضار حقوق الصحفيين ، فقبلت برئاسة المؤسسة بعد ان عدلت في مهامها لتقتصر فقط على تسوية حقوق الصحافيين المتضررين من قرار التأميم ، وعملت بها سبعة اشهر وسلمت التقرير النهائي بعد ان قمت بحصر ممتلكات كل صحيفة تم تأميمها وحقوق الصحفيين ومعاشاتهم ليتم التعويض ولم استمر فيها بعد رفع التقرير النهائي وفارقت مجال الصحف نهائيا، فلم اعمل اطلاقا في صحف الحكومة التزاما بموقفى الرافض للتأميم الي أن عدت للصحافة في عام 1985م بعد انتهاء حكم مايو.