(دينق مجوك آني كاربا .. ايوا اني كاربا) هكذا كان يتغني ابناء الدينكا في مناسبات افراحهم ممتدحين زعيمهم القبلي الذي له من الحكمة والحنكة ما يجعلهم يفاخرون به امام العامة.. حينما يقع المحظور وتوشك الحرب ان تقع بين افراد القبيلة حتى ليكاد يُسمع صليل سيوفها وحفيف حرابها في ذاك الزمان.. يطل الرجل الحكيم الحليم ليطفئ نارها قبل أوارها.. كان بعض افراد القبيلة يلجئون الى سرقة الفتيات ويهربون بهن بعيداً وحينما يلحق بهم الفزع ويوشك ان يقع بينهم الاقتتال، يدلهم البعض الى الاحتكام عند السلطان (دينق مجوك) الذي سرعان ما يبدل المواقف من عداء ونفور الى حب ووفاق، ومن ترقب وتوتر الى حبور وسرور.. يقوم دينق مجوك بتزويج الفتاة لمن هرب بها بعد أن يتكفل هُو – دينق مجوك – بمتطلبات الزواج، فتذبح الذبائح وتقام الافراح فيولم القوم ويطربوا.. فينشد الفتيان على إيقاعات ضربات أرجلهم بالارض وكشكشة حجول الفتيات المتحلقات حولهم (دينق مجوك آني كاربا .. ايواااا آني كاربا).. طال الزمان وتبدلت الوجوه والشخوص وكذا المواقع بيد ان سيرة دينق مجوك ظلت باقية يحملها ابناء القبيلة معهم اينما حلوا،.. في دار حمر كان ابناء الدينكا المقيمون فيها بكاثفة قبل الانفصال يشاركون افراح المواطنين على طريقتهم الخاصة، تتعدد المناسبات ولا تغيب في اي منها الأناشيد التي تمجد دينق مجوك.. أحب مجوك السودان والقبائل العربية التي يتشارك معها السكن، احترم ثقافاتها وعاداتها وكذا دينها فاصبح يتحدث اللغة العربية بطلاقة. حتي ان عددا من ابناء الدينكا اعتنقوا الاسلام، وأطلق اسماء عربية على بعض ابنائه.. كان يقول دائماً انه كردفاني وفضل البقاء في الشمال عوضاً عن الانتماء للجنوب.. شجعه على ذلك صديقه الشخصي بابو نمر ناظر قبيلة المسيرية فهو الآخر كان يضاهي مجوك في الحلم والحكمة والحنكة وصفاء السريرة.. جمعت بينهما الانسانية فتولد الحب والأحترام.. الحب المتبادل بينهما جعل ابناءهما لا يفرقون بينهما في الابوة، فاي من مجوك او نمر هو والد لفرانسيس او مختار، وكان ابناء مجوك لا ينطقون اسم بابو نمر إلا مشفوعاً بلفظة ابوي، وكذا ابناء بابو نمر مع دينق مجوك.. معظم ابناء مجوك واصلوا تعليمهم من منزل صديق ابيهم.. بيد ان كل ذلك قد انقلب راساً على عقب.. رحل دينق مجوك، ورحل بابو نمر.. فافتقد الفضاء الشاسع حلمهما وحكمتهما.. اقبل قومهما من بعدهما على الدنيا التي يمتد طريقها امامهم في اعوجاج ومنحنيات وتقاطعات يشق عليهم اجتيازها في غياب (بابو، ومجوك).. ولسان حالهم ينشد مع المهلهل يرثي أخاه كليباً وهو يحدق الى المستقبل من بعده فيري سيوف القبيلة تقطر من دم ابناء العمومة.. نَعَى النُّعَاةُ كُلَيْباً لِي فَقُلْتُ لَهُمْ مَادَتْ بَنَا الأَرْضُ أَمْ مَادَتْ رَوَاسِيها الْحَزْمُ وَالْعَزْمُ كَانَا مِنْ صَنِيعَتِهِ مَا كُلَّ آلاَئِهِ يَا قَوْمُ أُحْصِيهَا , مادت بهم الارض من بعده حينما افتقدوا حزمه وعزمه، كما هو الحال مع ابناء دينكا نوك والمسيرية بعد افتقادهما زعيميهما صاحبي الحزم والعزم.. ما انفكت المشاحنات والتحرشات تقع بينهما من حين إلى آخر، دائماً ما تخلف قتلى وجرحى من الطرفين، فاصبح الدم بارداً يكاد لا يتوقف عن التدفق.. خصوصاً في ظل الانتشار الواسع للاسلحة بين المواطنين في تلك المناطق.. المواطنون هناك يحملون اسلحتهم كما تحمل العصي والحراب في عهد (دينق مجوك، وبابو نمر).. وبدأ ابناء الدينكا ينفرون من الشمال ويبدلون مقولة زعيمهم التاريخي بانه كردفاني غيور، ويفضلون بل يصرون على انهم يتبعون الى بحر الغزال وليس كردفان.. الذين يحملون اسماءاً عربية بدلوها بافريقية، و تفاقم هذا الوضع بعد سيطرة حزبي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية على الساحة السياسية والسلطة.. ولاحقاً تضاعف بصورة اكبر وافظع حينما انقسم السودان الى شطرين جنوب وشمال.. وانضم عدد من ابناء (دينق مجوك) الى الحركة الشعبية واصبحوا اكثر تعجلاً للرحيل من الشمال واكثر المطالبين بتبعية ابيي للجنوب.. وفي المقابل انضم عدد من ابناء بابو نمر خصوصاً وابناء المسيرية عموماً الى المؤتمر الوطني.. يتمسكون ببقاء ابيي جزءا من كردفان ومن السودان يسندهم الحزب الحاكم ويقف من خلفهم، وهكذا انقطعت شعرة معاوية بعدما لم تجد من يرخيها حينما يشدها الآخر.. فقُتل ابن (دينق مجوك) كما قتل جساس كليباً.. تقول الرواية ان (كوال دينق مجوك) ناظر دينكا نوك انهى مهمة للجنة الاشرافية لابيي بصحبة جنود (اليونسفا) في منطقة "قولي" وكان في طريقه للعودة الى ابيي، وبالقرب من منطقة "دفرة" لحقت بهم مجموعة مسلحة تستغل دراجات نارية واعترضوهم شاهرين اسلحتهم لكن قوة (اليونسفا) الاثيوبية سارعت باطلاق النار على احدهم فاردته قتيلاً ما ادى الى وقوع الاشتباك الدامي بين الطرفين، والذي انتهى بمقتل الناظر (كوال دينق مجوك) ومعه آخرون من الطرفين.. لتكون الحادثة بمثابة الزلزال الذي يعقبه خراب ودمار لا يستطيع أحد التنبؤ بحجمه.. يعتبر البعض ان "كوال" اكثر المتشددين في تبعية ابيي الى الجنوب، ويرون انه شخصياً ظل حجر عثرة امام حل قضية المنطقة برفضه المستمر لاي حل بخلاف تبعية المنطقة الى الجنوب، وفقاً لرؤى أخيه "فرانسيس دينق". كوال هو اخ لحوالى (100) آخرين فقد كان والده مزواجاً وفقاً لاعراف القبيلة. بالاضافة الى ابناء دينكا نوك الذين يعتبرون "دينق مجوك" بمثابة والد لهم، كما كان يراه ابناء بابو نمر.. و الآن يتوقع ان يقع الصدام بين الطرفين او قل بين ابناء العمومة فيحدث الشرخ الذي ما كان اكثر الناس تشاؤماً يتوقعه.. بعد ان ضرب الأبوان أنموذجاً فريداً في العلاقات الانسانية بين القبائل العربية والافريقية. ahmed hamdan [[email protected]]