جاءت الفرصة تسعى للأزرق العاتي    الهلال يختتم الدوري الموريتاني بفوز صعب على إسنيم    الموسياب يواصل إنتفاضته ويكسب الدفاع بهدف نجمه "النملة" بشندي    إنهيار قوات المليشيا بمحاور القتال المختلفة في كردفان    احذروا من (المشوطن) عند اقامة الصلاة    فيصل محمد صالح وزير إعلام قحت في مقطع سابق تجاوزه السودانيون    مباحث شرطة الولاية الشمالية تتمكن من إماطة اللثام عن حادثة سرقة ثمانية كيلو ذهب وتوقف المتهمين    (أعمل بذكاء وليس بجهد) حسناء الفن السوداني أفراح عصام تبهر جمهورها بجلسة تصوير جديدة    الخارجية تفتح مكاتب للوزارة بالخرطوم    مقارنة بين أرقام رونالدو ومبابي في موسمهما الأول مع ريال مدريد    شاهد بالصورة والفيديو.. يشبه نجم برشلونة في شكله وتصرفاته.. مراهق سوداني يشعل مواقع التواصل المصرية بسبب الشبه الكبير بينه وبين الموهبة الكروية لامين يامال    شاهد بالصورة والفيديو.. أطلقت على نفسها لقب (شيخة ست الكل).. الفنانة السودانية مروة الدولية تحشد عدد من الفتيات للترويج لأغنيتها الجديدة بطريقة مثيرة    "الحرابة ولا حلو" لهاني عابدين.. نداء السلام والأمل في وجه التحديات    وزير الصحة يصل مستشفيات امبدة و بشائر و محطة مياه الصالحة    وفاة الأسطورة الأرجنتينية خوان فيرون عن 81 عاماً    زيدان: أحلم بتدريب منتخب فرنسا... لا أطيق الانتظار!    دِفَاعًا عَنْ مُؤَسَّسَاتِ الدَّوْلَةِ أَمْ دِفَاعًا عَنْ مُؤَسَّسَاتِ الطَّبَقَةِ؟    إعادة تعبئة (العَرَقِي) القديم في (كريستالات) جديدة..    السودان- الجندي المظلوم والراية الممزقة: من الخيرات إلى هارلم: (فيديو)    من مجنون إلى لاعب بالنار.. "ترامب يفقد صبره مع بوتين"    نتنياهو قد يأمر بشن هجوم على إيران حتى بعد اتفاق مع واشنطن    برشلونة يجدد عقد لامين جمال حتى عام 2031    رسميًا.. رحيل أسطورة ريال مدريد عن النادي    مشاهد صادمة في مركز عزل الكوليرا بمستشفى النو    "عشبة الخلود".. ما سرّ النبتة القادمة من جبال وغابات آسيا؟    مباحث ولاية القضارف تنجح في فك طلاسم جريمة في فترة وجيزة – صور    حنان فرفور: لنحتفل بالشعر والحلم والحياة برغم أنف الموت والخراب    سد النهضة يُشعل فتيل التوتر.. مصر تحذر من تصعيد إقليمي جديد    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (صفا .. وأسترح)    بشاشة زرقاء.. "تيك توك" يساعد الشباب على أخذ استراحة من الهواتف    علامات خفية لنقص المغنيسيوم.. لا تتجاهلها    حبوب منع الحمل قد "تقتل" النساء    رحيل "عطر الصندل".. وفاة الفنان والمخرج أحمد شاويش    العقوبات الأمريكية تربك سوق العملات وارتفاع قياسي للدولار    إحباط محاولة تهريب 60 ألف دولاراً أميركياً    السلطات في بورتسودان تضبط تفشل المحاولة الخطيرة    غياب هنا الزاهد عن العرض الخاص لفيلم «ريستارت» يثير التساؤلات.. ما السبب؟    تحذير من بنك الخرطوم: ملايين العملاء في خطر    العناية الإلهية تنقذ مراسل قناتي "العربية" و "الحدث" بالسودان بعد إصابته بطلقة في الرأس    بالصور.. شرطة ولاية البحر الأحمر وباسناد من القوات الأمنية المشتركة تنفذ حملة بمحلية بورتسودان وتضبط عدد 375من معتادي الإجرام    الكشف عن نهب آلاف الأطنان من الصمغ العربي من مناطق النهود والخوي وود بخيت    ضمانا للخصوصية.. "واتساب" يطلق حملة التشفير الشامل    "رئيس إلى الأبد".. ترامب يثير الجدل بفيديو ساخر    الجنيه السوداني يواصل رحلة التدهور مع استمرار الحرب    المؤتمر الاقتصادي بنيالا يوصي بتفعيل الاتفاقيات التجارية مع دول الجوار    349 الف جوال قمح انتاجية الموسم الشتوي بمشروع حلفا الجديده    ولاية القضارف: وجهة جديدة للمستثمرين في ظل التحديات    "الدعم السريع" تكشف حقيقة مقاطع الفيديو المتداولة لجثامين متحللة بالخرطوم    سفارات كييف في أفريقيا.. خطط ومهام تتجاوز الدبلوماسية    ترامب: أريد أن "تمتلك" الولايات المتحدة غزة    ((مبروك النجاح يانور))    ما هي محظورات الحج للنساء؟    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (ألف ليلة و....)    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ناس لا لا ولَّا لا.. ولماذا نحتاج إلى القيادة غير الملهمة؟ ... بقلم: د. محمد وقيع الله
نشر في سودانيل يوم 02 - 09 - 2009

كتب صديقنا الصحفي المحسن حسين خوجلي مقالا ما أظنه نشره، ولكنني اطلعت عليه قبل أن يمزقه، وينبذه إلى سلة المهملات. كان عنوانه طريفا، ومحتواه موجعا.
استمد الكاتب عنوان مقاله من أغنية عثمان حسين الشهيرة الذائعة، التي يشكو شاعرها المعذب من ملال الهجر ودلال المحبوب وتعاليه.
ومن ثنايا المحتوى سدد ا وخزات مؤلمة إلى جبين البيروقراطية السودانية، الناعسة، الكابية، المتغابية، التي جعلت من دأبها أن تتعامل مع الناس، كل الناس، بلا إحساس، وأن تصدهم كلما اقتربوا من حرمها غير المقدس، مستخدمة اللازمة النافية ذاتها.
البروقراطية الملتحمة بالأتوقراطية:
كان ذلك في أوائل ثمانينيات القرن الماضي على ما أذكر. أي في الزمن الذي أصدر فيه حسين (ألوان). وحينها كان الجو السياسي ملونا بكثير من الغيوم، وجمع من أطياف شتى من الرقباء، المتربصين بكل كلمة تصدر عن الصحيفة، ليؤولوها على أنها تتضمن معارضة مبطنة للنظام المايوي، ويوصلوها إلى الحكام في سلك الوشايات الرخيصة.
وعلى ذلك آثر حسين أن يطوي كلمته الساخرة، خشية أن تطيح بالصحيفة، وهي بعد في المهد. فقد كان نقد البيروقراطية الملتحمة بالنظام، شيئا محرما تماما في العهد المايوي البغيض.
ولكن هذه المؤسسة البيروقراطية العتيقة الشائخة، بقيت مكشوفة بعد سقوط ذلك العهد، وهي المؤسسة التي لا نبالي اليوم، أن نرمي بكل سهامنا في وجهها الشاحب، ولا نخشى أن نسترسل في نقدها وذمها، في هذا العهد الإنقاذي، الذي أخذنا نتمتع فيه بحمد الله بحرية كبيرة- بعضها أكثر مما يلزم- في مجال النقد.
بكرة إن شاء الله:
هذه البيروقراطية السودانية العجيبة، عجبت لسخافتها، من قبل، كاتبة ألمانية، تدعى إلين، عاشت بيننا برهة من عمرها، وكتبت في السخرية من تصرفات بيروقراطيينا، وأفاعيلهم اللا منطقية، واللا عقلانية، كتابا ساخرا ضاحكا أعطته عنوان (بكرة إن شاء الله).
وهو عنوان ليس يبعد مدلوله عن مدلول العنوان الذي اختاره حسين لمقاله الفقيد. والعبارة التي استخدمتها الكاتبة، وإن كان معناها في الأصل شريفا، إلا أنها لا تعني عند البيروقراطيين السودانيين إلا معنى ملطفا للتسويف والمماطلة والصدود.
وعندما وقفت على عنوان الكتاب في أحد الفهارس، طلبت من مكتبة الجامعة أن تحضره لي. وقد استعاروه من مكتبة جامعة أخرى، وأعاروني إياه، وكتبت في عرضه وتحليله مقالا نشرته صحيفة (الشاهد الدولي) التي كان يصدرها صديقنا الحبيب الدكتور محمد محجوب هارون من لندن في التسعينيات.
ولا أذكر الآن أكثر ما ورد في الكتاب، ولا أذكر ما أوردته عنه في المقال، ولكني أذكر مثالا واحدا أظنه هزَّ هذه (الخواجية) هزا شديدا، وهو مثال البيروقراطي السوداني لا يريد أن يفعل شيئا حتى لخويصة نفسه. فهو لا يقدم على تنظيف مكتبه إن أصابه الغبار، كما يقدم على فعل ذلك بسرعة أي موظف من زمرة (الكفار).
ولا يتولى هذا البيروقراطي السوداني غسل سيارته، كما يستمتع الغربيون بغسل سياراتهم في أيام الآحاد. بل إن هذا البيروقراطي السوداني لا يتولى قيادة سيارته بنفسه، ويحتم على الدولة أن توظف له سائقا خاصا. وهذا السائق، بدوره، لا ينظف السيارة، ولا يصلحها إن أصابها أدنى عطل، فلابد حينئذ من استئجار ميكانيكي خاص.
فهل يرتجى من شخص كهذا لا يخدم نفسه، وينتظر الآخرين ليخدموه،أن يقدم بعد ذلك على خدمة الناس؟
هذا هو السؤال الذي قدمته الكاتبة الألمانية الحصيفة. ونحن نجيبها عليه بلا تردد بلا إيجاب.
أستاذتي العظيمة الدكتورة ريست:
هذه السلبية القاتلة عند البيروقراطي السوداني، القابع في مكتبه لا يريم، تقابلها صورة البيروقراطي والتكنقراطي الغربي في يقظته وحيويته الدائمة.
ويوما فاجأت طبيبا سودانيا ذكيا، يعمل بأحد مستشفيات الولايات المتحدة، بسؤال مباغت: لماذا يستطيع الطبيب الأمريكي أن يقف عشر ساعات متصلة على رجليه، خلال يوم العمل، وقل أن تراه جالسا، بينما لا نرى الطبيب إلا وهو جالس في السودان؟
فأشاد الطبيب السوداني الذكي بالسؤال، وأكد على مشروعيته، وإن كان قد عجز عن الإجابة عنه.
وإن أنس لا أنس حادثا بسيطا وجه حياتي كلها فيما بعد. وهو سلوك أستاذتي العظيمة الدكتورة ريست. جئت أبحث عن مكتبها في قسم التاريخ، بجامعة أوهايو، لأستأذنها في حضور دروسها، في تاريخ الصين الحديث، وكنت حديث عهد بالجامعة وبكل ما فيها، ولا أعرف مواقع مكاتبها بالتحديد.
وإذ سمعتني أردد اسمها في الردهة، وأسال عن موقع مكتبها، انسلت من داخل مكتبها، وأجابت: هاأنذا مسز ريست من يسأل عني؟ قلت أنا. وأخبرتها ببغيتي، فأخذتني إلى مكتبها، وسمحت لي بحضور دروسها، ومنحتني الدرجة الكاملة في أول اختبار، وناقشتني كثيرا في البحث الذي كتبته لها في المقارنة بين أتاتورك وماوتسي تونغ، وقالت: لقد قسوت كثيرا على المسلم العظيم أتاتورك، وحببت إلي بطريقة تعاملها الأكاديمي العميق المخلص الرائع الودود التخصص في دراسة شؤون الصين.
وليس ما أشرت إليه تفصيليا من حديث الدكتورة ريست هو المهم، وإنما المهم هو أن أؤكد الإشارة والإشادة بنمط التعامل الإنساني الخيِّر الواثق المتفاني في خدمة البشر، الذي أبدته هذه الأستاذة بحق وحقيق.
وقد كان عهدنا القديم بكثير من الدكاترة في السودان، أنهم لا يسلكون هذا السلوك الإنساني الأستاذي النبيل، ويحبون أن يتعالوا في ساحات الجامعات، تعالي البيروقراطيين، ويمارسوا صلفهم وتجبرهم على الطلاب بغير الحق.
من المسؤول؟
هذا التعالي الذي يمارسه البيروقراطيون السودانيون، ليس تعاليا على البشر وحسب، وإنما هو تعال على الحق والمنطق والقانون. ومن هؤلاء البيروقراطيين من يتمادى في الغي، ويظن أنه السيد الأعلى، ويرى أن المؤسسة التي يتنفَّذ فيها، ما صنعت إلا من أجله هو. ولذلك يستكثر على الخلق أن يطالبوه بحق، أو خدمة، أو أن يوجهوا إليه نقدا، أو استنكارا، أو أن يسألوه عن أي شيئ.
وإذا ما استطعت يوما أن (تاخذ وتدي) مع واحد من أمثال هؤلاء، وسلكت معه سبيلا تظن أنه قد يؤدي إلى شيئ، فسرعان ما يجيبك بأنه غير مسؤول عن شيئ، وهي إجابة قاطعة حاسمة تدربوا عليها جيدا، وآمنوا بجدواها في قطع الطريق على المسائلين، ولو كانت أسئلتهم تتعلق بأبسط شبئ.
وعبثا تحاول أن تجد المسؤول بعد ذلك. فالمسؤول عن هذا المسؤول، أي رئيسه المباشر، هو أيضا غير مسؤول، والمسؤول عن هذا المسؤول، هو أيضا غير مسؤول، وهكذا دواليك.
وهكذا فلو حظيت بلادنا بزيارة كاتب أو كاتبة تتمتع بمزاج إلين إسماعيل، ولاحظ أو لاحظت هذه الظاهرة اللا مسؤولة جيدا، فلربما حظينا بكتاب تشنيعي آخر بعنوان (من المسؤول) في السودان؟
القائد غير الملهم:
وبالفعل فنحن نستحق ذلك، لأن بيروقراطيتنا تتصرف بعكس ما يتوقع من البيروقراطية على الإطلاق.
فهذا المصطلح الذي صكه ماكس فيبر، فيما أظن، يشير إلى أعظم وأضخم ظاهرة في التاريخ البشري، وهي ظاهرة التنظيم الإداري الهائل المعقد، الذي تستند إليه الحضارة الإنسانية، ويدفعها إلى الأمام.
وفي مدلول هذا المصطلح إشارة إلى معاني الرشد، والموضوعية، واستخدام العقل المحض، وتجنب الارتجال، والبعد عن الانسياق وراء الدوافع العاطفية، والمفاهيم الخرافية، أو أي دوافع أخرى لا تنطلق من نور العقل ولا تتجاوب معه.
فالبيروقراطية هي وظيفة الإنسان العقلاني المتحضر، الملتزم بحدود القانون واللوائح، والمنضبط بالتوصيف الوظيفي، والخاضع للمحاسبة الدقيقة، على ما يفعل و يدع.
والتنظيم البيروقراطي هو تنظيم مدني قانوني، لا علاقة له بالقيادة الشعبية، ولا القيادة الملهمة، ولا القيادة المتصفة بالكارزيما، ولا تلك المرتبطة بحظ النفس، ولا المنبثقة عن الحق الإلهي، أو الحق الطائفي في الحكم والتحكم في رقاب العالمين.
ونحن في السودان أحوج ما نكون إلى هذه القيادة الموضوعية، الشريفة، غير الملهمة. وغير الذاتية المنزع، وغير العاطفية، وغير المزاجية، وغير المرتبطة بأي قيد سوى قيدي العقل والقانون.
وبالطبع قيد الدين، أي الدين الإسلامي الحنيف، الذي هو دين العقل والشرع معا.
ولكن ما أسوأ أن يتحول الدين شعارا وتبقى الروح جاهلية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.