[email protected] الخجل شعور بشري يحس معه الانسان بالخزي تجاه سلوك أو موقف معين يتحمل هو كل او جانب من مسئوليته. وغياب هذا الشعور عند الحاجة اليه محنة لا تدانيها محنة، فالخجل دليل على وجود الإحساس، وهو عاطفة مركزية. والانسان الذي يفتقر الى الاحساس ربما كان وجوده أقرب الى العدم. ما قيمته، وما نفعه؟ كان لي في الزمن القديم معلم يتصاعد به الغضب من الطلاب الذين يأتون أفعالاً يأباها الخلق القويم وتمجها الفطرة السليمة فيردد أمام الطالب: " أنا بخجل ليك. والله انا بخجل ليك". والافتراض هنا أن رصيد الطالب من الاحساس صفر، والمعلم يتصدق عليه من مخزونه الخاص. عند متابعتي لمسارات الاحداث في حياتنا العامة تنتابني أحيانا رغبات داخلية في أن أتقمص شخصية معلمي ذاك، الذي كان يخجل بالإنابة عن الآخرين، فأمارس فضيلة الخجل بدوري إنابة عن بعض الشخصيات التي جردها خالقها من الإحساس، ثم أحتسب أجري عند الله. ويخيل اليّ أن الله لا بد وأن يؤجر أمثالي من الذين ينفقون من فوائض إحساسهم لتعويض النقص عند الآخرين، تماماً كما يؤجر المحسنين الذين ينفقون من فضول أموالهم لإغاثة ذوي الخصاصة. على رأس قائمتي المدعو نصر الدين الهادي المهدي، الذي تروج بعض تصاويره على الشبكة الدولية هذه الايام، وهو يشبك يمناه ويسراه مع أيادي بعض قادة (الجبهة الثورية)، ويرفعهما الى اعلى، وعلى الوجه ابتسامة بلهاء، فيبدو مثل مهرج على مسرح استعراضي. معرفتي المباشرة بالرجل محدودة، فقد تعاملت معه وجالسته لأوقات قصيرة في نهاية ثمانينات القرن المنصرم، وكانت جلها في مدارات رسمية. أول ما لاحظته عليه ان ملكاته الشخصية ومعارفه العامة متواضعة على نحو لافت للنظر. كما أن قدراته على التخاطب والتعبير والتفاعل مع الآخرين ضعيفة بصورة مذهلة. تسأله سؤالاً فتسمع منه همهمات وتمتمات لا علاقة لها بالسؤال. كان حليفاً سياسياً للسيد الصادق المهدي، رئيس الوزراء خلال الديمقراطية البرلمانية الثالثة. بيد أن الكافة علموا أن قيمة الرجل السياسية تلخصت في حقيقة بيولوجية واحدة فقط لا غير، وهي انه ابن الامام الراحل الهادي المهدي. كان الرجل قد مُنح مسميً رفيعاً في حزب الامة، وهو أمين المال. ولكن الحقيقة انه لم يكن أميناً على فلس واحد، وانما كانت تلك مجرد صفة إسمية أريد منها أن تعزز مركزه معنوياً وترفع مقامه بين الورى، وتوحي للناس بأنه من ذوى الهيئات وأهل المسئوليات. أما أموال الحزب فقد كانت، بالطبع، في أيدي الثقات من أصحاب العقل الراجح. ولكن وجود نصر الدين كان يسبب حرجاً دائماً للسيد الصادق المهدي. على الاقل كان ذلك هو الاحساس الذي وصلني من جملة ملاحظات أثناء عملي في ذلك المكان. طمحت نفسه الي منصب وزاري يليق بنسبه، ولكن عزّ على ابن عمه ان يجيبه الى طلبه، اذ كان يعرف انه لا يصلح لمثل ذلك، ولا لما هو أدني منه. ولأنه كان يحوم من مكان الى مكان بغير عمل فقد اطلقوا عليه: "نصر الدين الطائر". وبعد فترة صدر قرار بتعيين شخص ما في منصب وزير دولة بوزارة هامة، ثم سمعت همساً خلف الابواب! فهمت من ذلك الهمس ان ذلك الشخص كان من المفترض ان يعين وزيراً مركزيا للمالية، لا وزير دولة، وأن نصر الدين غاضب لأن ابن عمه أخل بوعده. ثم علمت ان وزير الدولة هذا متزوج من شقيقة صاحبنا، وأنه سيكون ممثله في الوزارة، طالما تعذر تعيين نصر الدين نفسه في المنصب لقلة كسبه وضعف محصوله. ثم تناهي الى مسامعي ان ابن العم راضاه بكلمات طيبات، منها ان التعيين في المنصب الاكبر سيتم لاحقاً، وان عليه بالصبر. ومازال صاحبنا، هو وزوج شقيقته، صابرين حتي جاءهما اليقين صباح الثلاثين من يونيو 1989. عندما علمت ان نصر الدين الهادي قد انضم الى الجبهة الثورية هززت رأسي وضربت كفاً بكف. وقلت لنفسي: من نصر الدين الطائر الى نصر الدين الثائر، يا قلبي لا تحزن! غداة الاعتداء الآثم على أم روابة وأبوكرشولا أصدر صاحبنا بياناً وجهه الى من أسماهم (أحبابنا في حزب الامة وجماهير الأنصار)، دعاهم فيه الى إخلاء الطريق و(عدم التعرض للثوار). واضاف أن هؤلاء قادمون (لتحريركم من نظام الانقاذ)، وجاء في خاتمة البيان: (وأبشركم بقرب بزوغ الفجر الجديد). وفي نفس يوم صدور البيان تواترت الأنباء أن أول ما فعله (الثوار)، عند دخولهم أبوكرشولا، هو أنهم ذبحوا – على رأس من ذبحوا – عضو حزب الأمة وكيان الانصار العالم محمد أبكر وشقيقه وعدد من أبناء عمومته. قال الرواة ان (الثوار) بعد ان ذبحوا الانصاري العالم محمد أبكر، ذبح الشاة، قطّعوا جسده الى نحو من عشرين قطعة، ثم كوموا قطع اللحم، أمام ذويه، فوق طاولة خشبية، تماما كما تكوم لحوم الحيوانات في محلات القصابين! خرج نصر الدين مغبوناً مغلول النفس يريد ان يعاند قدر الله، ويفارق الهوان والخيبة وخمول الذكر، فانتهي به الحال في كاودا، يائساً لاهثاً (يفتح خشم بقرة الجبهة الثورية)، بحثاً عن السؤدد الذي طالما تاقت اليه نفسه وتمناه. لكن هيهات، والقرآن يقول (ليس بأمانيكم). أما دهاقين كاودا فانهم يعرفون، يا نصر الدين، كما يعرفون جوع أحشائهم وشبعها، انك ما جئتهم بأعمالك، فلا عمل لك، وانما جئتهم بأحسابك. وما أظنهم أقاموا لحسبك ونسبك وزنا. ولو فعلوا لما قتلوا أنصار جدك وأبيك ومزقوهم إرباً إربا، وكوموا أشلاءهم أكواماً لتأكلهم الكلاب. أنا أخجل بالإنابة عنك، وأحتسب خجلي عند الله. والله العظيم أنا اخجل لك يا نصرالدين، حتي يندي مني الجبين! نقلا عن صحيفة (الخرطوم)